تعدد الزوجات من منظور مختلف

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

ترددت كثيرا في الكتابة في هذا الموضوع، على الرغم من أن الفكرة تلح علي منذ سنة أو يزيد، وما هذا التردد إلا ليقيني أن هذا الموضوع من أكثر المواضيع التي نوقشت قديما وحديثا واتسعت كتب التفسير والفقه لها، وتشعبت في تناولها للموضوع، وانقسم الكتاب بعدئذ إلى فريقين؛ فريق مع، وفريق ضد، ولكل آراؤه ومتبنياته، فما عساني أن أضيف؟

وكثيرا ما ترى الحاضرين يخوضون في هذه الفكرة في جلساتهم في مكان العمل أو في السهر، ربما تنفيسا عن كبت يعيشونه في بيوتهم، ومع زوجاتهم، فتخرج هذه الأحاديث وقد ترجمت ما في النفوس من شوق إلى الانعتاق من سيطرة زوجات، أقل ما يقال فيهن: إنهن جاهلات في حقوق أزواجهن أو مستبدات، إما لوضع اجتماعي هن فيه أو لمال امتلكنه، أو لوظيفة  يقبضن منها مرتبا يسد ثغرة في حياة أسرتها، فكيف لزوجها أن يفكر بأخرى وحالته أنه ينتظر راتب زوجته عند كل محاق شهر.

ومع ذلك، لا ينفك الأزواج الأسارى يدغدغون رجولة مفقودة في أحاديث الزوجة الثانية بعيدا عن مسمع الزوجات، وتختم الجلسة بتنهيدة طويلة مرة قاسية لا يعلم حرقتها إلا فؤاد ملتهب يتوق لبارد الشراب.

وهنا لا أريد أن أرجع القارئ العزيز إلى أصول البحث الفقهية أو الفكرية، ولكنني أحببت أن أضيء منطقتين أراهما بحاجة إلى مزيد إضاءة في هذا الموضوع، الأولى: منطقة العدل، والثانية: الثقافة.    

فهيا بنا إلى الولوج....

وتجنبنا للتكرار في الحديث عن موضوع العدل، سأشير سريعا إلى أن ما قاله السابقون، سواء أمنعوا التعدد أم أباحوه فقد كان العدل هو أساس بحثهم اعتماد على النصوص من آيات وأحاديث أو مواقف السلف رضي الله عنهم.

وعند التحقق من هذا المفهوم في واقع النصوص كلها وواقع الحياة التي يعيشها الناس ترى أن العدل مطلوب منهم كلما تحقق مناطه، فلا يعقل أن يكون مناط العدل فيما يخص تعدد الزوجات وحسب؛ فالأب الذي له من الأولاد كثير مطلوب منه العدل بينهم، فلا يحق له التفريق بينهم في المعاملة حتى في أبسط الأمور، فقد حرم الله سبحانه أن يطبع الوالدان قبلة على خد أحد أبنائهما ويحرما الآخرين، فما بالكم إذن في عطية المال؟ فالأمر أدهى وأمر.

فقد حذر الرسول الأكرم r من هذا كثيرا، ففي ذلك الحديث المشهور رفضr أن يشهد على زور في عطية أب لأحد أبنائه، لأنه لم يساو الكل في هذه العطية، فهل مطلوب منا تحقيقا للعدل أن لا ننجب غير طفل واحد مخافة أن نقع في سوء المعاملة، بل على العكس تماما شجع الإسلام على كثرة الذرية، وعدها النبيr من مجالات مباهاته للأمم يوم القيامة، فلم تجد واحدا من العلماء يقول باقتصار الذرية على واحد مخافة الظلم.

وهذا المعلم الذي يعلم مجموعة من الطلبة، هل يحق له أن يميز طالبا عن آخر، حتى وإن كان مجتهدا وفصيحا؟ إنه إن فعل ذلك وميز في المعاملة بين طلبته، تجده منتقدا في فعله هذا أمام المجتمع وأمام الطلبة وأمام القانون، ويحاسب على هذا الفعل أمام الله، فلا يعقل والحالة هذه أن لا يعلم أحدٌ أحداً مخافة الجور في التعامل مع الطلبة.

وأما ثالث الأمثلة في تحقيق مناط العدل، مثال الحاكم، فالعدل مطلوب من الحاكم، تصوروا أعزائي لو أن الشعب فرد واحد، فهل سيكون هناك ظلم وتمييز؟ هل بإمكانه أن يظلم في اجتراح معيارين للتعامل مع هذا الفرد الواحد؟ إذن فالعدل مطلوب من الحاكم في حكمه للرعية وإعطاء كل ذي حق حقه، حتى قالوا: العدل أساس الملك.

ومنذ أن صدمتني فكرة تعدد الزوجات بما أخذته من جذب ورد، وأنا مغتاظ من أسلوب التفكير في قضية العدل، فالعدل مطلوب من الناس حتى مع أنفسهم، مثلما هو مطلوب تحقيقه مع جميع المشتركين في صفة واحدة، لماذا لا تطرح قضية العدل إلا في سياق تعدد الزوجات، وننسى مجالاته الأخرى.

أما منطقة الثقافة فالحديث فيها طويل وذو شجون، ربما أكثر من العدل، ولكنني سأوجز ما وسعتني الفكرة إيضاحا لأقول:

معادة سلوك معين أو الرغبة فيه الأصل أن يكون ناشئا عن ثقافة واعية مهضومة معروفة الفروع متصلة بأصولها، حتى تحدث عند الشخص اطمئنانا نفسيا ورضا مجتمعيا عن هذا السلوك، وقبل أن نحاكم سلوك أي شخص ننظر إلى ثقافته، ما هي؟ ومن أين جاءت؟ وكيف جاءت؟

لقد عاش الناس في ظل ثقافة إسلامية، لا ترى بأسا في فكرة تعدد الزوجات، حتى ولد القول الشائع عند العرب: " خير الرجال من كثرت نساؤه"، وإن كانت النساء هنا تشمل الزوجات وغير الزوجات، ولم تجد في عصور المسلمين السابقة من لدن محمدr وحتى العصر العثماني( قبيل عصر النهضة الحديثة) غضاضة في هذه الفكرة التي كانت شائعة ومقبولة وعادية جدا.

ومرد ذلك حقيقة إلى ما تعارف عليه الناس من ثقافة تزرع فكرة التعدد وتحث عليها، خارجة من رحم طاهرة، ترى في تحقيق هذه الفكرة أمانا اجتماعيا وحفظا للمرأة وصونا للرجل، وتحقيقا للمآرب بالحلال، فكانت الفكرة صمام أمان من التفسخ ومن الانحراف، وكن النساء يتقبلن الفكرة، ولا يرن في ذلك مصيبة.

ظل الأمر كذلك حتى ابتليت مجتمعاتنا بالأفكار الواردة، وبدأت حرب الأفكار، وكنا فيها- نحن المسلمين- الطرف الأضعف، فهوجمت أحكام الإسلام وخاصة فكرتي تعدد الزوجات والميراث، ونشأ عن ذلك مقولات: حقوق المرأة، ومساواتها بالرجل، وجرت منظومة من الأفكار المتولدة التي رأت في فكرة تعدد الزوجات إهانة للمرأة وخيانة لها، وبعد ذلك كله " ما دام لا ينتقص من حقوق الزوج شيء من زوجته لماذا يتزوج بأخرى؟؟"   

لقد عمل على هذه الفكرة طويلا، وجند لها الكثير من المفكرين والعلماء والمفسرين المحدثين، وأخذوا على عاتقهم إيجاد صورة يقبلها الغرب، فربطوا الزواج بالعدل المطلق، وخاضوا كثيرا في ذلك، وكل ذلك من أجل أن يردوا عن الإسلام شبهة اتهامه أنه جعل المرأة مقضى شهوة، وأنها أقل شأنا، أو أنها لا ينظر إليها إلا أنها متاع.

وأضحت الجرائد والمجلات والكتب والبرامج التعليمية والإعلامية والدرامية تشيع بالفكرة الجديدة حتى ترسخت وأصبحت فكرة جنونية أن يتزوج الرجل بأخرى، بل إنها مصيبة وكارثة على المرأة، فأمست فكرة تعدد الزوجات فكرة تهدم الأسرة وتشيع الفساد، وغدت وبالا على المجتمعات نتيجة هذه الثقافة الجديدة.

وقد ساعد على ترسيخ هذه الفكرة الجديدة ما رآه الناس من ظلم واستبداد بحق الزوجات اللواتي يتزوج أزواجهن عليهن، فيعانين من القهر والإهمال والفقر والتشرد، فيربط الأمر بالفكرة، ولا يربط بالسلوك، فالزوج هو الملام في أنه لم يراع حق زوجته، ولم يقدم ما عليه تجاهها، كما أنه لو ظلم أحد أبنائه وحرمه من الميراث بطريقة أو بأخرى، ولم يعطه كما يعطي بقية أبنائه، فلا يلام على كثرة خلفه، بل يلام على تصرفه المشين في عدم مراعاة الواجبات التي تقع على عاتقه.

وفي الختام أقول:

إن دور الثقافة كبير وخطير في النفور أو الإقبال على هذه الفكرة أو تلك، وما يدل على ذلك أن فكرة تعدد الزوجات ما زالت في بعض المجتمعات الإسلامية عربية وغير عربية مقبولة وعادية جدا، لأن الفكرة لم تهاجم، ولم يبث في تلك المجتمعات ما ينفر منها، فالصورتان موجودتان متجاورتان في المجتمعات، بعيدا عن هوى النفس في التحليل، أو التفسير غير السوي لموضوع التعدد، وبغض النظر عن الظروف التاريخية والاقتصادية أو السياقات الاجتماعية التي قد يسوقها بعض فلاسفة الكلام، ذلك الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع الرجال شيئا!!