سياسة الإستخراف
سياسة الإستخراف
د. عصام مرتجى- غزة
من أجمل ما قرأت فيما قيل في العقل ما ورد في الأثر أنه لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليَّ منك ولا أكملتك إلاّ فيمن أحب، أما إني إيّاك آمر، وإياك أُنهي، وإيّاك أُعاقب، وإياك أُثيب.
فعلى قدر الهبة الممنوحة بهذا العقل يكون الحساب ويكون العقاب، وإذا أخذ الباري ما أوهب أسقط ما أوجب.
ذات مرة ساقتني الصدفة لمصاحبة شيخ صوفي، وساقني فضولي للتعرف على طريقتهم، قلت له ما السبيل للوصول ؟ قال الباب هو الشيخ ...، قلت أو يحتاج الرب لواسطة ؟ ....قال: هو ولي مرشد ...وأنت لديه مريد تبغي الوصول .....
قلت: وماذا على المريد ؟ ... قال : يُسْلِم نفسه للشيخ كالميت على المغتسل ويفعل ما يُؤمر بلا نقاش...!! قلت : أها ... خروفٌ إذن!!! قال وما يضيرك ..؟ المهم الوصول... وأنت في طاعة الشيخ كطاعة سيدنا إسماعيل لأباه سيدنا إبراهيم ..!! قلت وهل هناك من بمقام سيدنا إبراهيم ؟؟؟ قال لكل منا مقام معلوم ....
قلت نراه.... حتى إذا دخلنا زاوية الشيخ إذا بتكايا ومريدين حول الشيخ تستجلب رضاه ولمس يداه ...!!! وإذا بمناسف مغطاة بلحم الضأن توضع أمام الشيخ ...!! سألت عن المناسبة ....قالوا مريد يستجلب رضا مولانا لأنه خالف في صغيرةٍ أمره !!!!
قلت ألم يكتفوا بالإستخراف.... وكمان يحملون على ظهور مريديهم .... إستحمار كمان !!؟؟؟
وجدت أن سر نجاح الكثيرين من الأفاقين و أمراء الجهل المهرطقين يكمن في سر العقد الأول بين التابع والمتبوع .... "" نفذ ثم ناقش إذا سمح لك بالمناقشة "" كما سر شيخ الخراف هذا "كالميت على المغتسل" أي أن المطلوب منك أن تضع هبة الله العظمى -عقلك- في الثلاجة لتحظى بالقبول عند أمراء الجهل !!
إنها سياسة الإستخراف التي يعشق ممارستها القادة والزعماء والشيوخ والأولياء ليوهموا أتباعهم أن أساس الوصول للمراد أن تكون خروفا والراعي أعلم بالطريق منك، ويغفل الخروف عن مصير نحره إن هو سلم عقله !!!!
أعجب حين أرى كم كان البدوى الأول عالما ويحترم هبة الله له بمنحة العقل ويجلّها ....ولذا حين دخل على صنمه فوجد الثعلب قد بال برأسه قال :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
سنوات وسنوات والمستخرفين يسيرون وراء أمانيهم ويسلمون نحورهم للأولياء "المقربين" و ما أروهم يوما طريق الوصول ...سوى أضغاث أحلام يأتي بها الشيخ مسحوبا بقرين ... يطلب الضأن والمناسف ومن يزغ عن أمره يذقه عذاب الفراق الأليم...!! ويصك بوجهه عنه حتى يقبل المريد "الخروف" قدمه ...!!
كثيرٌ من الخراف قد نحرت على المغتسل وشربت دماؤها وهضمت لحومها ولا زالت باقي الخراف تطمع للوصول ...!!!!
أي وصولٌ هذا ؟؟ و أي أولياء هؤلاء ؟؟ و أي خرافٍ تابعة تسمي نفسها مريدين ؟؟؟
إنها سياسة الإستخراف التي مكنت كثير من الأفاقين أن يبنوا أحزاب ويسيروا حركات ويبنوا صوامع وزوايا ومؤسسات يعبدون فيها بدعوى أنهم طرق الوصول للأماني و الغايات الضائعة.
في النهاية أقول شكرا لك ربي على نعمةٍ لن تؤجر لأفاقين، وستبقى دوما مقبلة عليك بلا واسطة ولا زوايا ولا تكايا ولا مريدين ولا أرباب يبول الثعلبان بمفرق رأسها...