ذنب من؟!

حارثة مجاهد ديرانية

حارثة مجاهد ديرانية

[email protected]

كنت جالساً إلى مكتبي ظهيرة يوم الأحد أفكر في الموضوع الذي سأبعث به إلى المجلة غداً. وأرجعت ظهري ومددت رجلي ثم أغمضت عيني مفكراً في موضوع أكتبه دون جدوى. وجعلت أتذكر مدير التحرير وهو ينظر إلي طالباً في رجاء أن أكتب موضوعاً جديداً من نوعه بمناسبة العيد (إذ كان عيد الأضحى على الأبواب). وماذا عساي بالله عليكم أكتب، وقد استنفد مختلف المواضيع على مدى قرون طويلة؟ ومن أين لي أن آتي بجديد؟

وبينا أنا أشحذ ذهني الناضب بلا فائدة إذا بالهاتف يرن ويقطع علي حبل أفكاري، وقمت من مكاني منزعجاً وأنا أحاول تمالك أعصابي من قليل الذوق الذي يتصل بي وقت الغداء، ورفعت السماعة قائلاً بفتور: "ماذا تريد؟". ولكنني بعد حين كنت أستجيب بطريقة مختلفة وأنا أرد: "ماذا؟... نعم... بالتأكيد، سآتي حالاً". كانت تلك أختي صفية تدعوني إلى الغداء عندها اليوم بمناسبة اقتراب العيد، وخاصة أن زوجتي كانت تزور أختها اليوم لمساعدتها في الإعداد للدعوة هناك، فقبلت شاكراً.

بعد أقل من ربع ساعة كنت على باب منزل أختي، وفتحت لي الباب بترحيب حار وقادتني إلى غرفة الجلوس، وهناك جلست أنتظر بينما دخلت هي لتكمل إعداد الغداء وقد قالت إن من المفترض أن يصل زوجها بعد قليل. كانت أختي تشتكي لي من زوجها دائماًً، وكانت هذه فرصتي اليوم لأرى هل أختى فعلاً على حق في التشكي من زوجها أم أن الذنب ذنبها هي بطريقة ما. ولم يمض الكثير من الوقت حتى فتح الباب ودخل زوج أختي، كان واضحاً أن التعب قد نال منه كل مأخذ وهو يدخل تعباً متهالكاً بعد يوم آخر من الكدح. وحالما دخل نظر إلي ولم يفاجأ (فقد كان يعرف منذ البارحة بأنني سأتغدى عندهم اليوم) فرحب بي. ثم دخل على زوجته في المطبخ ليسلم عليها، وحالما التفت ليفعل ذلك كانت قسمات وجهه قد انقلبت تماماً! فذهبت تلك الابتسامة العريضة التي حياني بها وحل محلها فم متزمت واختفى الوميض الذي كان متألقاً في عينيه ليصبح وجهاً جامداً خالياً من أي تعبير، وبوجهه ذاك سلم عليها! أما هي (أختي) فقد انطلقت نحوه كالقذيفة دون حتى أن ترد السلام  وخطفت من بين يديه كيس الخضروات الذي كانت قد أوصته عليه وفتحته. وفي الحال بدأت التعليقات تنهمر على الزوج المسكين كالشلال: "آه لا! لقد أوصيتك على بندورة من النوع الصغير فما هذا الذي جئتني به!... آه يا إلهي ما هذا الخيار العفن! ألا يمكن لأي شيء أن يسير على ما يرام إذا لم أكن موجودة معك!". وكالعادة لم يرد عليها زوجها الجاد بكلمة واحدة بل أدار ظهره وتركها تتخبط وحدها في كيس الخضروات واتجه إلى الحمام ليبدل ملابسه، وعندما عاد إلي رأيته يلقي بملابسه قرب سلة الغسيل مع أن أختي كانت قد توسلت إليه مراراً وتكراراً أن يضع ملابسه داخل السلة وما كان ذلك ليكلفه شيئاً. ودخل الغرفة وجلس بجانبي يحدثني، ورأيته - كما كنت أراه دائماً - شخصاً لطيف الحديث حلو المعشر، حاضر النكتة، إلا أنه عندما يكون هو وأختي لا ترى هي منه إلا الوجه النكد والفم المقبوض. وأزداد استغراباً حينما أتذكر أن معظم الأزواج في الدنيا على مثل حالة زوج أختي.

ومضت دقائق معدودة ونحن نتحدث حتى نادتنا أختي إلى الغداء فقمنا جميعاً. كانت المائدة شهية (فأختي طباخة ماهرة): صحن كبير من اللازانيا (وكان هذا الطبق الرئيسي) ومرق دجاج مع قليل من الأرز الأبيض وصحن سلطة باليخنة، بالإضافة إلى قليل من الحلوى من صنع يديها، وكانت الطاولة أنيقة مرتبة. كنت أسكب الطعام في صحني وقلبي على جمر تحسباً للمشكلات التي قد تبدأ في أي لحظة. ولم أبتعد عن الحقيقة قط؛ إذ لم تكد اللقمة الأولى تدخل فمي حتى سمعت زوج أختي يتبرم منزعجاً: "إيه! ما هذا الذي في اللازانيا؟ بصل؟! تعرفين أنني لا أحب البصل يا صفية!". لم يشكر زوج أختي أختي أبداً على طبخ طبخته أو يمتدح مهارتها في الطبخ مع كل ما تبذله من جهد لجعل وجبات زوجها فاخرة شهية، ولم تكن لتتحمل تعليقاً كهذا ولكنها قررت أن تمتص الموقف من أجلي فقالت بهدوء: "والله آسفة لكن اليوم حالة خاصة لأن أخي عندنا". وتذكر هو الآخر عندئذٍ أن شخصاً ثالثاً غيرهما كان مدعوّاً فسكت وأغلق الملف حتى حين. وانتهزت تلك الفرصة الثمينة وأسرعت في أكل طعامي مع أن البطء من عاداتي عند الأكل، وقد كان توقيت انتهائي من الأكل مثالياً لأن معركة جديدة كانت قد انفجرت بينما أنا ألتهم اللقيمات الأخيرة؛ فقد قام زوج أختي بسكب مرق الدجاج في صحنه، وحالما رشف رشفته الأولى أدار وجهه مشمئزاً ثم قال: "بصل وقلنا لا بأس، أما هذه فعجيبة من العجائب؛ كريمة في مرق الدجاج يا صفية، كريمة في المرق؟!". وإذا كانت أختي قد سيطرت على أعصابها في المرة السابقة فإنها هذه المرة لم تطق ذلك، وانفجرت صائحة: "حسناً، إذا لم يكن يعجبك فلا تأكل منه! أصلاً الرسول – ص – ما عاب طعاماً قط... وَ.. وَ..". وهنا قررت أن وقت الانسحاب قد حان وقمت من مكاني وقلت: "السلام عليكم ورحمة الله، أنا أستأذن". ولا أظن أن أحداً منهما قد سمع كلمة واحدة مما قلت أو حتى لاحظ ذهابي في حمأة تلك المعركة!

وأثناء خروجي أخذت أحلل المواقف التي دارت قبل قليل محاولاً أن أقرر من هو المذنب منهما في هذه العلاقة المتوترة. وبعد بعض تفكير لم أجد مفرّاً من الاعتراف بأنه ذنبهما هما الاثنين معاً! وإذ كنت أفكر في هذا بينما أنزل الدرج، إذا بصبي الجيران يرمي علي تفاحة عفنة كادت تصيبني في وجهي لولا أن أملت رأسي بسرعة (وكان ذلك من فوائد دروس الكاراتيه التي تدربت عليها بجد في الماضي)، ثم نظرتُ إلى الولد بعينين كلهما حزم وتأنيب، فما كان منه إلا أن قال: "آسف لم أكن أقصدك أنت" ثم فرَّ هارباً. ولم أستوعب شيئاً حتى سمعت أمه تصرخ به من ورائي: "تعال إلى هنا حالاً أيها القرد العفريت!" ولكن الولد لم يسمع الكلام. كدت أرثي هذه الأم المسكينة في نفسي حتى رأيتها تلتفت بعد ذلك إلى الخادمة التي جاءت في أثر هذه الجلبة فوبختها وعنفتها ثم دفعتها بعنف من رأسها بكل إهانة لتعود إلى عملها! يا للوحوش الذين لا يخافون الله! وأسرعت إلى الخارج لأركب سيارتي قبل أن أرى مناظر أبشع من هذه. لكنني بينما كنت أدير محرك سيارتي رأيت - من نافذة الغرفة المطلة على الشارع - الخادمة وهي تتسلل إلى المكتبة وتفتح حافظة نقود فأخذت منها بضع ورقات (لعلها من فئة العشرات) ثم انصرفت بهدوء! ويبدو أنها اعتادت أن تفعل ذلك بين فترة وأخرى مستغلة نوم أهل البيت بعد الغداء مباشرة، آملة ألا يلاحظ أولئك "البطرانون" اختفاء بضع عشرات والأمور عائمة وفوضوية عندهم أصلاً. ولم أعرف ماذا أفعل؛ فإذا نبهتُ أهل البيت لسرقة الخادمة لقسوا عليها وعذبوها بأبشع الوسائل ولعاقبوها بأكثر مما تستحق، فقررت ألا أتدخل بفعل شيء في الوقت الحاضر.

ومرة أخرى لم أعرف في صف مَن أقف وعلى مَن أشفق؛ فالجميع مذنبون!

قررت أن أمر على السوبر ماركت في طريق عودتي إلى المنزل لشراء بعض الأغراض، وقد وصلت إليه بعد بضع دقائق فقط لأنه كان قريباً. لم يكن المكان مزدحماً في هذا الوقت من النهار. وبينما كنت أتمشى وأضع الأغراض في العربة، رأيت بعضاً من موظفي السوبر ماركت يقومون بفتح علب الشكلاطة التي تحوي أربعة ألواح بثمن ثلاثة لتباع مفرقةً! وهذا نصب لا يجوز لأن العرض جاء كما هو من الشركة المصنعة ولو كانت تريد بيعها مفرقة لباعتها كذلك للسوبر ماركت ولربحت فيها أكثر، والزبون خسر العرض المغري بدوره. ولم أكن قد تحولت في تفكيري عن هذا الموضوع بعد حتى لمحت مجموعة من صناديق الفاكهة (عبئت في السوبر ماركت) التي وضعوا على سطحها خوخاً صقيلاً لامعاً يثير الشهية وتحته كومة من العفن تأنف من أكلها الصراصير! وأنا أعرف ذلك لأن الحيلة انطلت عليَّ منذ أسبوع حينما اشتريت صندوقين - لا واحداً - واضطررت لرمي أكثرهما في صندوق القمامة. ومع ذلك فإن السوبر ماركت لم يخجل من أن يستمر في بيع هذا المقلب الرخيص أملاً في أن يخدع بذلك زبائنَ جدداً.

في ذلك الوقت كنت أنهي جولتي عائداً إلى صندوق الحساب. وعندما دخلت أحد الممرات لمحت أمامي صبياً قد أمسك بيد علبة عصير وبالأخرى قشرة شكلاطة ما لبث أن لحس ما تبقى عليها ثم رماها على الأرض. فنظرت إليه لحظة ثم قلت: "هذا لا يجوز يا بني فأنت لم تدفع ثمنها بعد. أين أبوك؟". فلم يتكلم بحرف وما زاد على أن هرع إلى رجل سمين كان يقف في آخر الممر يستنجد به. فتقدم الرجل نحوي وقال: "ما لك؟ ليش زعلت ابني؟"، فقلت مشيراً إلى قشرة الشكلاطة وعلبة العصير المرميتين على الأرض: "هاتان رماهما ابنك الفاضل". فبدا للحظة وكأنه لم يستوعب كلامي، ثم هز رأسه وقال: "آها، جزاك الله خيراً"، وقام إلى القشرة والعلبة فأمسكهما وألقى بهما في سلة القمامة! لكنني لم أستسلم على الفور بل قلت له: "عفوك ولكنني كنت أعني أن ثمنهما لم يدفع بعد"، فالتفت إلي وقال ساخراً: "يا عمي كلها ريالين! ما حنفوت على جهنم مشان ريالين!! أصلاً أنا كنت ناوي أني أقول لرجل الصندوق عليهما". وانصرف بعد ذلك وانصرف الموضوع من رأسه ولا أظنه تذكر ما قلته له أبداً بعد ذلك.

والآن قولوا لي: مع مَن أتعاطف أمع السوبر ماركت الذي يغش زبائنه أم مع الزبائن الذين يسرقون المتجر؟ كلاهما مذنبان!

دفعت الحساب وخرجت من السوبر ماركت منطلقاً إلى المنزل. وعلى الطريق وجدت نفسي عالقاً في براثن إشارة غليظة مزعجة، تفتح خمس عشرة ثانية ثم تغلق بعد ذلك خمس دقائق. وبينما أنا واقف هناك إذ لمحت مكتب البريد على يساري، وتذكرت أن بين يدي رسالة أود إرسالها اليوم فانعطفت يساراً حالما فتحت الإشارة وصففت سيارتي هناك ودخلت. عند المدخل مررت بطاولة الاستقبال التي جلس إليها شابان، وقبالتهما وقف شخص ثالث يحكي قصصاً وسيراً ويضحك معهما ويقهقه. وكنت في حاجة إلى طابع بريد فاتجهت نحو مكتب الطوابع ولكنه كان خالياً. وجلت بنظري هناك ريثما يعود الموظف، فرأيت آلة كاتبة ورزماً عدة من الأوراق بجانبها كتب على وجه إحداها "حب تحت الشجرة" وعلى أخرى "فارس القلعة"!! (وحاولت أن أعثر على طريقة ما أوفق بها بين تأليف القصص الرومانسية ومهام مصلحة البريد فلم أوفق إلى جواب!) وبين هذه وتلك رزم من المعاملات المتكدسة التي لم تنهَ بعد. وطال جلوسي وأنا أنتظر الموظف حتى يأتي. ترى هل هو في الحمام؟ أم أنه اجتماع؟ أم استدعاه المدير لأمر طارئ؟ وبينما أنا في تساؤلاتي إذ أقبل الرجل، فإذا هو بذاته الرجل الثرثار عند مكتب الاستقبال! وجلس قبالتي وقال مُرحِّباً: "كيف لي أن أخدمك؟"، فقلت إنني كنت مستعجلاً وانتظرت وحدي فترة طويلة، فلم يخجل من نفسه أنْ كان يتسكع خارج مكتبه، بل أخذ يشتكي ويحكي لي عن مديره وأنه كان يعد الموظفين الجدد بالمكافآت والبدل تلو البدل والعمل المريح ثم يسحب ذلك منهم شيئاً فشيئاً ويزيد في الوقت ذاته الأعباء على الموظفين ويستغلهم أكبر استغلال، ولا يستحيي من تأخير الموظفين عن العودة إلى بيوتهم – بعد انتهاء الدوام – ساعة أو نصف ساعة. ولم أستطع الإفلات من قصته الطويلة إلا بعد لأي، مع أنني لم أكن أستبعد أبداً أن معظم مضمونها صحيح. ولمحت وأنا أهم بالانصراف آلة تسخين الماء فقلت له إنها تستهلك الكثير من الكهرباء وربما كان من الأفضل أن يطلب الشاي من مطبخ الدائرة، فما كان منه إلا أن قال: "إشو عم ندفع من جيبتنا يا عمي! خلينا نستفيد طول ما ها الشركة عم تدفع عنا". ولم أناقشه مع ما أزعجني من استهتاره. وقبل أن أنصرف سألته أن يعطيني رقم هاتف الدائرة، فالتفت إلى رزمة من الأوراق الكرتونية الفاخرة وتناول منها ورقة كاملة وكتب في وسطها رقم الهاتف بخط صغير! (فهو لم يدفع ثمن هذه الأوراق الفخمة من حافظة أبيه) ولم أعلق هذه المرة على فعلته بل شكرته وانصرفت.

وكنت وأنا أنصرف أفكر في هذه أيضاً: مرة أخرى كلا الطرفين (المديرين والموظفين) مذنبان!

وفي طريق العودة كنت أفكر في الشعوب والحكام: نحن نعرف فيما حولنا من الدول دولاً حكامها الظلمة الغاشمون، والشعب يشتكي من ظلم حاكمه له ثم ترى أفراده يظلم بعضهم بعضاً، ويتعالى كل شخص على من هو أدنى منه درجة (فالظلم منا وفينا والوالي كذلك، "وكما تكونون يولى عليكم"). وفوق ذلك ترى الشعب يشتكي من الحاكم في الخفاء ثم تسير في الشوارع فترى الشعب (نعم الشعب نفسه) قد علق لوحات لحاكمه ودعا له بطول العمر (وبالتالي طول البقاء في المقعد! مع أنه دعاء غير مستجاب بأي حال).

وكالعادة لا يوجد بينهما بريء؛ فكلاهما (الحاكم والشعب) مذنبان!

ثم ها قد وصلت البيت أخيراً. وعندما كنت أدخل فناء منزلي رأيت القط الذي يسكن بقربنا يتشاجر مع غراب أسود (بنى له عشاً على شجرة قريبة) على سمكة مرمية بالقرب من حاوية المهملات، فنقره الغراب نقرة قوية قاسية انغرزت عميقاً في فك القط المسكين. وأخذ القط يتأوه ويتقلب بينما فر الغراب الشرير بغنيمته. وقبل مدة كان هذا القط على وشك أن يأكل قططاً صغاراً ولكن أمهن أتت في اللحظة المناسبة وأنقذتهن بعد أن أصيبت بعض القطط الصغيرة بجروح عميقة. وأما الغراب فقد استطاع بعض الأشرار من أبناء الحي أن يمسكوا به ذات مرة ونتفوا ريش ذنبه وحرقوا له جزءاً من جناحه بالنار قبل أن يفلت منهم بأعجوبة، وهو ما يزال حتى اليوم يطير بطريقة غريبة بسبب ذلك. وأما الطفل الذي حرق جناح الغراب فإن أباه يضربه مرة كل أسبوع على الأقل بخرطوم رش الحدائق، والذي أدى إلى تشوهات على ظهره لن تزول مدى الحياة.

وكلما أشفقتَ على مظلوم وجدتَه ظالماً في مكان آخر. وفي النهاية نكتشف أن معظم الناس في هذه الحياة لا ينقسمون على الإطلاق إلى فئتين هذا ظالم وهذا مظلوم؛ بل كلهم ظالم ومظلوم ولكن في أماكن مختلفة. وباختصار، جميعنا مذنبون!

وهنا قررت أن يكون هذا موضوعي لمدير التحرير. وقد غيرت الأسماء في هذا المقال حفاظاً على خصوصية بعض القصص التي مرت فيه.

في أمان الله.