تجديد الخطاب الديني ما بين الواقعية والمثالية

د.نيفين عبد الخالق

د.نيفين عبد الخالق

[email protected]

كثيرا ماتتردد هذه المقولة كلما وقعت أحداث معينة تستدعى إثارة الوعى الوطنى والتركيز على وحدة الجماعة الوطنية حيث تثار عادة تساؤلات عديدة يدور معظمها حول ماهية هذا الخطاب، ومدى تعبيره عن قيم معينة تمثل الأرضية المشتركة لجماعة وطنية تضم مسلمين وأقباطا ، ودعونا فى البدايه نتفق على مسلمة أولية، ألا و هى : أن الادعاء بضعف الخطاب الدينى ، والاتهامات التى عادة ماتنسب إليه ، باعتباره المسئول الأول إن لم يكن الأساسى عن مظاهر التطرف والمغالاه التى تهدد أمن المجتمع وتعصف بوحدته الوطنية ،مثل هذا الادعاء يغيب عنه حقيقة أساسية ألا و هى : أن ضعف الخطاب الدينى و الاتهامات التى توجه له إنما هى محصلة طبيعية،وانعكاس لمنظومة متكاملة من الضعف والانحدار الذى يعانى منه المجتمع فى مجالات أخرى عديدة،فالخطاب أى خطاب هو انعكاس ومرآة لحال المجتمع ،فاذا انصلح حال المجتمع انصلح بالتبعية كافة أنواع الخطاب  التى هى منتج طبيعى لثقافة المجتمع ،و لكن هل يعنى ذلك أن الخطاب أى خطاب هو مفعول به وليس فاعلا بحال من الأحوال ،حقيقة الأمر أن الخطاب هو ناتج و مخرج للتفاعلات فى المجتمع الا أن هذا الناتج يعود مرة أخرى ليمثل فاعلا أساسيا كأحد العوامل المؤثرة فى كافة التفاعلات داخل بنية المجتمع، فالخطاب الدينى اذن : هو فاعل أساسى لتحريك المجتمع، وهو أيضا أحد المنتجات الأساسية لثقافة المجتمع وذلك فى عملية تفاعل مستمرة من التأثر والتأثير المتبادل . وعملية التجديد التى تعنى بالأساس إصلاح مافسد من بنية هذا الخطاب ،ورده الى أصوله ومنابعه الأصيلة وإزالة ماعلق به من أفكار دخيلة تأخذه بعيدا عن جوهره الصحيح ،هذه العملية المعروفة بالتجديد هى عملية مستمرة تفرضها طبيعة الحياة نفسها التى تمتلأ بالأحداث و المتغيرات التى تأتيه ليس فقط من البيئة المحلية المحيطة به ولكن أيضا من المناخ الدولى السائد.

ولذلك فقد كان للتغيرات المعاصرة المرتبطة بالعولمة تأثيراتها على هذا الخطاب وعلى كافة العناصر المحيطة به، كذلك كان للثورة الحادثة فى أساليب الاتصال و تكنولوجيا المعلومات  والتى جعلت العالم بمثابة قرية واحدة تأثيراتها المباشرة على إتاحة فرصة لم تكن متوفرة من قبل فى الاستفادة مما وفرته الأساليب الحديثة فى الاتصال لإمكانية تعدد هذا الخطاب وتعذر ــ إن لم يكن استحالة ــ توحيده أو السيطرة عليه ،حيث أصبح من السهل دخول أفكار وافدة واتجاهات شتى وفرت لها التكنولوجيا الحديثة الذيوع والانتشار،فشاهدنا ظاهرة الفضائيات المتخصصة بأنواع شتى من هذا الخطاب ،وصاحب ذلك أيضا ماعرف بظاهرة الدعاة الجدد الذين أصبح لهم سوقا رائجة تمثلت أحيانا فى شرائط الكاسيت وفى برامج تلفزيونية على الفضائيات يكونون هم نجومها  المطلوبون وفقا لقواعد السوق التى يحكمها العرض والطلب ، ويروج لها بأساليب الدعاية و الإعلان. هذا فضلا عن عديد من المواقع الألكترونية على الشبكة الدولية للمعلومات (الأنترنت) التى تبث أنواعا متعدده من هذا الخطاب.

نستطيع إذن القول بأن التأثير الذى لحق بالخطاب الدينى نتيجة للعولمة وللتقدم المذهل فى أساليب الاتصال وتكنولوجيا المعلومات قد انعكس من خلال عمليتين أساسيتين أسميهما  : "التخصيص" ، و "التسليع". فأما العملية الأولى المعروفة أيضا بالخصخصة  فقد عنت بالأساس أن قيادة الوعى الدينى أصبحت تابعة للملكية الخاصة ، ولرءو س الأموال التى تمولها وتوجه الخطاب الدينى الذى يروج لها  ومن ناحية أخرى،  فإن هذا الوضع قد أثر بدوره على ماأسميه بتسليع الخطاب  أى تحويله إلى سلعة استهلاكيه تسرى عليها قواعد السوق وقوانين العرض والطلب. ونظرا للحالة العامة للمجتمع التى تتسم بشيوع الأمية الصرفة و الأمية الثقافية ،وانخفاض مستوى المعيشة للغالبية العظمى من المجتمع، مع وجود فوارق حادة بين الأفراد سواء فى الدخل أومستوى التعليم،فقد أصبحت هذه الأغلبية التى تتسم بتدنى الوعى وانتشار ثلاثية الفقر والجهل والمرض بمثابة السوق الاستهلاكية العريضة التى يروج فيها أنواعا معينة من الخطابات التى تتناسب مع نوعية الجمهور المستهلك وخصائصه النفسية والمعنوية ومستواه من الوعى والثقافة . ولذلك شاهدنا نماذج عديدة لأنواع متدنية من هذا الخطاب تستخرج من التراث أسوأ ماعرفه فى عصور الضعف وتعبر فى أغلب الأحيان عن قصور فى الفهم لايرتقى إلى الجوهر والمقصد ويركز على النواحى الشكلية والسطحية مع افتقار شديد لفقه الأولويات.

­ولذلك فان نظرة إلى إصلاح هذا الخطاب أو ماأصطلح على تسميته تجديده لايمكن أن تتم بمعزل عن عملية شاملة لإصلاح المجتمع ككل ولكافة مظاهر الضعف والانحدار التى تسود كافة جوانبه. فمن أمية قراءة وكتابة ضاربة فى عمق المجتمع،إلى أمية ثقافية بين ماأصطلح على تسميتهم بالمتعلمين أو إنصاف المتعلمين،إلى عموم الفقر وتدنى مستوى المعيشة ، وتدهور الأحوال الصحية،كل هذه العوامل و غيرها أدت إلى الميل إلى شيوع نمط من التفكير غير العقلانى كشف عن أنواع متدنية من الخطاب سواء فى صورته الاجتماعية، أو السياسية، أو الدينية.

إن الرغبة فى إعادة إنتاج هذا الخطاب وتجديده وتوجيهه نحو التركيزعلى الوحدة ونبذ الفرقة والانقسام،وعلى مخاطبة المشاعر الإنسانية الراقية من تسامح و صدق وأخوة تجمع بين أفراد الدين الواحد فى أخوة دينية، وأفراد الوطن الواحد فى أخوة وطنية، وأفراد الجنس البشرى فى أخوة إنسانية،هذه الرغبة لابد لها من أن تميز بين حالتين يتأرجح بينهما هذا الخطاب،وهما حالتى : المثالية، والواقعية . فالخطاب الدينى الذى يتحدث عن ملكوت السماء و ماينتظر المؤمنون فى الآخرة من مظاهر الثواب والنعيم، و ما يرسمه من مجتمع مثالى فاضل تسود فيه القيم الدينية الرفيعة من محبة وسلام و تعاون على البر و التقوى هو خطاب جيد و مطلوب، ولكن ماحال الخطاب الدينى إزاء الواقع المعيش،ومايقاسيه الإنسان العادى الكادح من مظاهر الفقر و البؤس و العسف.

إن الخطاب الدينى لابد له من "فقه الواقع" حتى يستطيع أن يمتلك التواصل و النفاذ إلى إدراك عموم الأفراد فى المجتمع. ذلك أن لغة الخطاب الموجه إلى البسطاء و الفقراء  و الكادحين إن كانت تحثهم على الصبر و انتظار الجزاء فى الآخره،فإن لغة الخطاب إلى الأغنياء لابد  أن تحثهم على آداء واجبهم نحو إخوانهم فى الدين والوطن، وأن تذكرهم  بما توعد الله به الذين يجمعون الأموال بالطرق غير المشروعة،والذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يشبعون إلى حد التخمة ويتركون غيرهم من أبناء الوطن الواحد جائعين .

و إذا كانت لغة الخطاب إلى الضعفاء و المستضعفين تحثهم على الرضاء بالأمر الواقع، وانتظار المدافع عنهم فى شخص "منقذ منتظر" أو "مخلص"، فان هذا الخطاب لابد له أن يوجه إلى الأقوياء والمستكبرين رسالة تذكرهم بما توعد به الله الفاسدين و المفسدين،وأنه إذا دعتهم قدرتهم إلى ظلم الناس فليتذكروا قدرة الله عليهم.

إن المطالبة بنشر ثقافة التسامح و السلام، وقبول الآخر لا يمكن أن تجد آذانا صاغية فى ظل واقع يتسم بالظلم الفادح، وعدم العدالة الإجتماعية، و انتشار التناقضات، و الكيل بمكيالين سواء فى الواقع الدولى أو المحلى، فهذا من شأنه إثارة نوازع التطرف و لجوء الأفراد إلى الخروج على الشرعية سواء كانت محلية أو دولية طالما فقدوا الأمل فى الحصول على حقوقهم و مطالبهم المشروعة بالطرق الشرعية و القانونية.

إن خطابا دينيا تغيب عنه مطالب الناس المشروعة و الشرعية لايمكن أن يصل إلى الإقناع والإدراك من جانبهم ،ذلك أن أول درجات القبول هو الإحساس بالعدل ووجود القدوة والأسوة فحينئذ يمكن للناس تحمل الفقر وقلة الموارد وكافة الظروف الصعبة طالما القدوة ماثلة أمامهم.

والخلاصة،  أن خطابا دينيا عاما يتسم بالصدق فى الاحساس بالناس، ومخاطبة واقعهم  المعبش، و التركيز على ما يهمهم فى أمور حياتهم و أخلاقيات تعاملهم، و البعد عن الخوض فى الأمور الخلافية فى العقيدة، و اعطاء الأولوية لماينفع الناس بعيدا عن النواحى الشكلية  أو المظهرية، وعن السعى للشهرة وجلب المكاسب الخاصة،خطابا مثل هذا يمكن أن يكون خطابا جامعا يجمع أبناء الوطن الواحد على التعاون على البر و التقوى، و ليس على الإثم و العدوان فى ظل قانون يساوى بين الجميع مهما اختلفت عقائدهم بحيث يشعر كل فرد فى المجتمع،رجلا كان أم إمرأة، شيخا كان أم شابا أو طفلا بأنه يستطيع أن يحصل على حقوقه بالطرق المشروعة فى ظل مظلة للعدل تقوم على سيادة القانون.فالكل سواسية أمام القانون يستوى فى ذلك الأغنياء و الفقراء، والأقوياء و الضعفاء،وصدق الرسول الكريم حين قال:"إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف(يقصد المسنود بالحسب و النسب و الثروة) تركوه،وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".