كعب الأحبار .. والسهام السوداء
كعب الأحبار .. والسهام السوداء
الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
الحديث عن هذه الشخصية المثيرة للجدل في أوساط الباحثين مرتبط بشكل وثيق بالحديث عن فترة خلافة أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه ، إذ في عهد هذا الخليفة الراشد فُتحت مدينة القدس الشريف ( إيلياء ) ، وكانت خاليةً تماماً من العنصر اليهودي منذ غزوها على يد الامبراطور الروماني ( إيليوس هدريان ) في القرن الثاني الميلادي ، وقد اشترط أهلها لقاء تسليمهم القدس ألاَّ يُساكِنَهم فيها يهودي ، فأعطاهم الفاروق رضي الله عنه هذا الشرط في العهدة العمرية المشهورة لأهل إيلياء([1]) ، أما باقي مدن فلسطين فقد تحرَّك فيها اليهود تحت ظل الحكم الإسلامي بحرية لم ينالوها يوماً ، وتحرَّكت معهم الطبيعةُ الغادرةُ التي لا تفتأ تعض اليدَ المحسنة إليها ، فَأْتَلَفَ في أرض فارس التي أخمد الإسلامُ فيها نارَ المجوسية مزيجٌ من حقد وثني مجوسي وحقد يهودي قوامه مَن تبقى من بني إسرائيل في أرض فارس أيام الأسر البابلي ومن ثم الحكم الفارسي ، مزيجٌ عزَّ عليه زحفُ الإسلام المكتسِح ، فتدبَّر أمرَ مؤامرة تطيح بأمير تلك الجماعة المؤمنة ، وخليفة خليفة رسول هذه الأمة ، حتى سقط شهيداً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد غلام مجوسي مدسوس لم يسجد لله سجدة ، وفي هذه المرحلة وحول هذه المؤامرة تحديداً يُسلَّط الضوءُ على شخصيتنا تلك ، والتي طالما ربطها المؤرخون بطرف من المكيدة المدبرة للإسلام من وراء اغتيال أمير المؤمنين عمر ، تلك الشخصية هي شخصية ( كعب الأحبار )([2]) اليهودي الذي أسلم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقَدِمَ المدينةَ في خلافة عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه ، ويبدو أن اعتماد هؤلاء كان على أسانيد تاريخية في الطبري وغيره لا تضعُ كعباً - عند التمحيص - موضِعَ اتهام .
حقيقة إسلام كعب :
فمنها تشككهم في إسلامه أصلاً ، وأن إسلامه كان لغاية الكيد للإسلام ، فمثلاً عندما حضر كعبٌ فتحَ إيلياء على يد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، ورَغِبَ عمر بنُ الخطاب في بناء مصلى داخل محيط الأقصى ، استشار كعباً "فقال : أين ترى أن نجعل المصلى ؟ . فقال كعب : إلى الصخرة - وهي قبلة اليهود - . فقال : ضاهيتَ والله اليهوديةَ يا كعب ، وقد رأيتُك وخلعَكَ نعليك . فقال : أَحببتُ أن أُباشِرَهُ بقدميَّ . فقال : قد رأيتك ، بل نجعل قبلته صَدرَه ، ، كما جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قِبلةَ مساجدنا صُدورَها ، اذهبْ إليك ، فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنا أُمرنا بالكعبة . فجعل قبلته صدرَه"([3]) ، كما أَلقَوا عليه رِزْءَ إدخال الروايات الإسرائيلية إلى الفكر الإسلامي ، ومع صحة بعض هذا الأمر إلا أن كعباً قَصَدَ مِن خلف دروسه هذه التذكيرَ بالله عزَّ وجل والعِظةَ والاعتبار بأخبار الأمم السالفة ، ولم يكتف الصحابةُ بالسكوت عن فعله ، بل ونقلوا ورَوَوا عنه في أحيان كثيرة وهو الذي وصل إلينا مِن مَروِيَّاتِ كعب ، كفعل ابن عباس رضي الله عنهما وغيره .
كعب ومؤامرة اغتيال عمر رضي الله عنه :
ويستمر هؤلاء في سَردِ لائحةِ الاتهامات ضد كعب ، فيستدلون أيضاً بخبر اغتيال عمر رضي الله تعالى عنه في كتب التاريخ ، ورؤيةِ كعب الأحبار يُهامسُ أبا لؤلؤة المجوسي عبدَ المغيرة بنِ شُعبة قبل استشهاد عمر بفترة قصيرة ، وكان أبو لؤلؤة قد تَوعَّد عمر رضي الله تعالى عنه حين طلبَ إليه عَمَلَ رحاً للطحن ، فقال المجوسي : لئن سَلِمت لأعملنَّ لك رحاً يتحدَّثُ بها مَن بالمشرق والمغرب . إلا أن هذه الإشارة لم تَمُرَّ على الخليفة الحصيف الخبيرِ بالنفوس الكافرة ، فقال بعد انصراف المجوسي : لقد توعَّدَني العبدُ آنِفاً ! .
وجاءه من الغد كعبُ الأحبار فقال له : يا أمير المؤمنين ، اعهد ، فإنك ميت في ثلاثة أيام . فقال : وما يدريك ؟ . قال : أَجِدُه في كتابِ الله عزَّ وجل التوراة . فقال عمر : آللهَ إنك لَتَجِدُ عمرَ بنَ الخطاب في التوراة ؟ . قال : اللهم لا ، ولكني أَجِدُ صِفَتَك وحِلْيتك ، وأنه قد فنى أَجَلُك . - وعمرُ لا يحسُّ وجعاً ولا ألماً - ، فكان ما أخبر كعبٌ من استشهاده رضي الله عنه بعد الأيام الثلاثة([4]) ، ولئن صَحَّت الروايةُ التاريخية تلك فهي لا تدلُّ على ضلوع في المؤامرة على الإسلام كما توهَّم هؤلاء ، بل تدل على عِلم غزير يتجلَّى كعباً جعل منه مستشاراً لعمر ، وعمر - كما أسلفنا - الخبيرُ بالنفوس الكافرة الجاحدة ، والشديد في الحق ، ولو رابَ منه أمراً لكان سَيفُه إلى عُنُقِه أقرَبَ من لِسانه إلى استشارته .
كعب والمرويات التوراتية :
كما أخذوا بشهادة معاوية رضي الله تعالى عنه حين جاء على ذِكر كعب ، فقال : "إنْ كان من أصدقِ هؤلاء المحدِّثين الذين يتحدَّثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لَنَبْلُوا عليه الكذبَ"([5]) .
وطبيعي أن يكون في أخبار كعب كذب كونه يحدِّث عن كتاب حُرِّف وأُمرنا إزاءه بالتوقف عند أخباره لاحتمال صحة أو بطلان تلك النقول التوراتية ، فالكذب لم يقع من كعب ، وإنما من بعض تلك النصوص المحرَّفة التي ينقلها للاعتبارات السالفة الذكر .
وهذا ما تؤكده رواية للطبري في تاريخه من أنه ذُكِرَت لابن عباس روايةٌ عن كعب في أمر من أمور الآخرة فطارت من ابن عباس شقة ووقعت أخرى غضباً . ثم قال : كذب كعب ! كذب كعب ! كذب كعب ! ... قاتل الله هذا الحَبر وقبَّح حبريته ! ما أجرأه على الله ...! . وبعدما بيَّن لمن حضر وَجهَ الصواب فيما كذَّب فيه كعباً ، قام نفرٌ حتى أتوا كعباً فأخبروه بما كان من ابن عباس ، فقام كعب معهم حتى أتوا ابنَ عباس ، فقال كعب : قد بلغني ما كان من وَجدِك من حديثي ، وأستغفرُ اللهَ وأتوب إليه ، وإني إنما حَدَّثتُ عن كتاب دارس قد تداولته الأيدي ، ولا أدري ما كان فيه من تبديل اليهود ، وإنكَ حدَّثتَ عن كتاب جديد حديث العهد بالرحمن عزَّ وجل وعن سيد الأنبياء وخير النبيين ، فأنا أُحبُّ أن تحدثني الحديثَ فأحفظُه عنك ، فإذا حدثت به كان مكان حديثي الأول([6]) .
فنحن هنا نلحظ أن كعباً ما كان ينقل شيئاً من الأسفار القديمة إلا وهو لا يعرف في الإسلام ما يضاده ويناقضه ، فإذا تبيَّن له ما جَهِل من الحقِّ سلَّم بذلك واستغفر وتاب وحمل الرواية الصحيحة إلى الناس .
ولكن بسبب ما كان يختلط على بعض الناس الذين كانوا يجالسون بعض الصحابة كأبي هريرة رضي الله عنه مثلاً ، ويجالسون كعباً ، من إيرادهم كلام كعب مكان كلام الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالعكس ، كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يزال يتعاهد كعباً بالتحذير من الإكثار من حديثه عن الأمم السالفة من أسفار أهل الكتاب ، فيقول : "لَتترُكَنَّ الحديثَ عن الأُوَل أو لأُلحِقَنَّكَ بأرض القِردة"([7]) .
وحَرِيٌّ بالباحثين ألا يُقَلِّد بعضُهم بعضاً في انتقاص قدر هذا الرجل أو التشكيك في إسلامه ، وقد استمع له الصحابة ومَن عايشه وعاصره وما أنكروا عليه من حديثه إلا فيما خالف نصاً شرعياً إسلامياً .
ولعل من المناسب في النهاية أن أنقل قول العلامة ابن القيم في كعب الأحبار ، قال : "وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به - أي بالنبي الكريم - ، وصَرَّح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى ، وأذن بها على رؤوس الملأ ، وصدَّقه مسلمو أهل الكتاب عليها ، وأقروه على ما أخبر به ، وأنه كان أوسعَهم علماً بما في كتب الأنبياء ، وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يمتحنون ما ينقله ويزنون بما يعرفون صحته فيعلمون صِدقه"([8]) .
[1] ومع هذا يرى بعض الباحثين أن عمر رضي الله عنه اعتذر عن هذا الشرط بأن القرآن الكريم قد حدد ما لأهل الكتاب وما عليهم ، وليس فيه شيء يسمح بهذا ، ولكنه تعهد لمسيحيي القدس بألا يدخل أحد من اليهود إلى مقدساتهم أو يسكن في حاراتهم . انظر مثلاً (أبحاث في الفكر اليهودي) د.حسن ظاظا . ص 39 .
[2] قال ابن سعد في طبقاته الكبرى ج 9 ص 449: كعب الأحبار بن ماتع : ويكنى أبا إسحاق ، وهو من حمير من آل ذي رُعين ، وكان على دين يهود فأسلم وقدم المدينة ثم خرج إلى الشام فسكن حمص حتى توفي بها سنة 32ه في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه .
[3] تاريخ الأمم والملوك للطبري . ص 629 .
[4] المرجع السابق . باختصار . ص 702 - 703 .
[5] صحيح البخاري . الحديث رقم (7361) . ص 1545 .
[6] تاريخ الأمم والملوك للطبري . ص 28 - 31 .
[7] البداية والنهاية لابن كثير . ج 8 . ص 106 - 109 .
[8] هداية الحيارى . ص 138 .