طاحونة الصهيونية

طاحونة الصهيونية

د . فوّاز القاسم / سوريا

إن من أهم وسائل الصهيونية اليوم في تدمير البشرية ، واستعباد الشعوب ، واستحمار الناس ، بعد إشعال الحروب المدمّرة ، ونشرالأمراض القاتلة ، وترويج المخدرات الفتّاكة هي : ( حرب التجويع ) ...!!!

فلكي تسيطر الصهيونية على العالم ، وتستعبد الشعوب ، وتستحمر الناس ، فإنها تزج بهم في طاحونة الحياة المادية الرهيبة التي صنعتها لهم ، فتسحق أعصابهم ، وتقتل طاقاتهم ، وتستنزف أوقاتهم ، وتختم على عقولهم وأسماعهم وأبصارهم ، وتحولهم ( غصباً عنهم ) إلى ( قطعان من الحيوانات ) لا همّ لها إلا اللهاث خلف رغيف الخبز، دون أن تترك لهم أية فسحة في الحياة للتفكير بالنفس والأهل والوطن والأمة.

ولكي يخرج كلامي هذا من الدائرة النظرية إلى الواقع العملي فإنني سأضرب المثل على نفسي ...

فأنا كاتب هذه السطور طبيب استشاري في أمراض الأطفال ، وأعمل في الحقل الطبي منذ ما يزيد على عشرين سنة .. كما أنني مسلم ملتزم ، أحب وطني ،  وتشغلني شواغل وطني وأمتي ، ويحترق كبدي لما أراه وأسمعه يومياً من المآسي والويلات التي تمر بها أمتنا المظلومة ، ابتداءً من فلسطين الحبيبة ، مروراً بالعراق الجريح ، وانتهاءً بافغانستان المنكوبة ...!!!

وأود أن أطرح السؤال التالي : هل هناك مرتبة أكثر من طبيب استشاري يمكن أن يبلغها المرء في مجتمعاتنا الشرقية حتى يتمكن صاحبها من العيش حياة عزيزة كريمة تليق به وبمكانته الاجتماعية .!؟

ألستم توافقونني الرأي بأن أمثالي من الأطباء كانت تكفيهم في الأحوال العادية خمسة أو ستة ساعات عمل، ثم يتفرغون فيما تبقى لهم من يومهم ( حوالي ثمانية عشرة ساعة ) لأنفسهم وأهليهم وأولادهم وأوطانهم وأمتهم وقضاياهم المصيرية التي تحتاجهم ، فضلاً عن كتابة البحوث الطبية ، وحضور اللقاءات المهنية ، والمشاركة في الندوات العلمية ، وغيرها من الفعاليات التي تنمي قدرات الطبيب المسلم ، وتزيد من خبراته وإمكاناته  ...!!!؟

ولكن الصهيونية اللعينة تأبى أن تسير الأمور على هذا المنوال ، فتعمد بوسائلها الشيطانية إلى جملة من الإجراءات مثل :

* رفع الأسعار بشكل متواصل

* تخفيض قيمة العملة الشرائية

* فتح منافذ رهيبة للصرف غير المنافذ الطبيعية المعروفة ...

* دفع الكوادر والطاقات إلى الهجرة من بلدانها هرباً من الظلم المسلط عليها ، وتعريضها إلى العمل في ظروف غير طبيعية ...

وأترك  تفسير هذه الظواهر لأهل الاختصاص من الاقتصاديين والسياسيين الإسلاميين ، لكنني أشير مجرّد إشارة إلى المؤسسات الصهيونية المنتشرة في جميع أرجاء العالم ، والتي تمسك بزمام الاقتصاد العالمي من أمثال : البنك الدولي ، وصندوق النقد الدولي وغيرها ...

ولا أبرئ شركات الدعاية العالمية ، وشركات الاستثمار الاحتكارية ، ودُور الأزياء ، ومصانع الكماليات،  بل وحتى الرياضة ، من خدمة المخططات الصهيونية الخبيثة ...!!!

النتيجة : حتى يستطيع الدكتور فواز القاسم وأمثاله ، العيش الكريم ، الذي يليق به وبعائلته وبمستواه الاجتماعي ، عليه أن يضاعف ساعات العمل ...

وهكذا يخرج الدكتور من بيته ولا يعود إليه إلا في ساعة متأخرة من الليل ، ويدور خلف رغيف الخبز كما يدور الحمار في الرحى ، وعندما يعود في المساء ، فإنه يناب منكباً على وجهه من الإرهاق والتعب.  

فبالله عليكم ، ماذا بقي من هذا المسكين وأمثاله لربه ، ولنفسه ، ولزوجه ، ولأولاده ، ولدعوته ، ولإخوانه ولوطنه ، وأمته .!؟

وكيف يستطيع بعد ذلك أن يفكّر في سورية والعراق وفلسطين وأفغانستان وغيرها من هموم الأمة وآلامها ...!!!؟

بل كيف يستطيع ، وهو ابن الدعوة المهاجر المجاهد ، أن يتصدّى لمخططات الصهيونية الخبيثة التي تهدد عقيدة الأمة وحاضرها ومستقبلها  ...!!!؟

بكل تأكيد لا يستطيع ، لأن المؤامرة أكبر بكثيرمنه ومن طاقته وقدراته ...

وهنا يأتي دور الحركات الإسلامية الرائدة ، التي يفترض بها أن تكون واعية لهذه المؤامرة الخبيثة بحقّها وحق أبنائها ، وأن تتصدى بكل براعة لمخططات الصهيونية وتقهرها ، بما تمتلكه من قيادات راشدة ، وخطط رائدة ،  وبرامج مبدعة ، ومؤسسات متكاملة ...

فالمؤمن قويّ بإخوانه ، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ... هكذا علمونا منذ نعومة أظفارنا ...

وأول ما يجب أن تفكر فيه هذه الحركات وتخطط له ، هو كيفية حماية أبنائها من طاحونة الصهيونية المادية الساحقة الماحقة ... والقضية بسيطة جداً ...

مؤسسات استثمارية في جميع مجالات الحياة الطبية والاقتصادية والتربوية والإعلامية والفكرية وغيرها لتشغيل أبناء الحركات الإسلامية في أجواء  إسلامية حركية دعوية ، بحيث نستفيد من طاقاتهم  ونحفظ كرامتهم ، ونحميهم من طاحونة الحياة الصهيونية وغولها المادي المفترس ...!!!

إن الحركات الإسلامية في عالمنا العربي والإسلامي ، وأخص الحركة الإسلامية العالمية الوسطية ، تمتلك آلاف الكوادر العلمية والفكرية والدعوية والإعلامية وغيرها ، كما أنها تمتلك ملايين إن لم نقل مليارات الدولارات ، ولكنها عجزت مع الأسف في توظيف هذه الامكانات الهائلة في مؤسسات استثمارية ستراتيجية لنهضة الأمة وتقدّمها ، سواء في مجالات الصحة أو التربية أو الإعلام أو الاقتصاد أو غيرها.

وبدلاً من أن تُستثمر تلك الكوادر المبدعة ، التي نزفت الجماعة دماً لتربيتها وإعدادها ، والتي عركتها الحياة ، وصقلتها التجارب ، وأنضجتها الهجرة ، في مشاريع إسلامية ستراتيجية تنموية ، لخدمة الأمة ودفع عجلة النهضة والتقدم فيها ، إذا بتلك الكوادر تهيم على وجهها في البلدان ، تستجدي من يتفضّل عليها بالأمن ، والإقامة ، ورغيف الخبز ، حتى ولو كان ذلك على حساب روحها وعمرها وكرامتها ووقتها وصحّتها ...

أعود لأضرب المثل على نفسي حتى لا نحرج أحداً ، فأنا ابن الحركة الإسلامية السورية ، هجرت وطني فراراً بديني وعرضي وكرامتي منذ أحداث حماة المشهورة ، وتنقلت بين البلدان ، حتى استقر بيّ المقام في إحدى الدول العربية الشقيقة مع المئات من أمثالي من أبناء الحركة ...

لدينا العشرات من الأطباء وفي جميع التخصصات ، وفيهم حملة البورد والدكتوراة ، وتعجز الجماعة عن فتح مؤسسة طبية واحدة لاستيعابهم ، واستثمار طاقاتهم ، وحفظ كرامتهم ، وخدمة دينها وأمتها بهم ...!!!

ولدينا العشرات من المربين والمعلّمين والمدرّسين ، وتعجز الجماعة عن فتح مؤسسة تربوية واحدة لاستيعابهم ...!!!

ولدينا أكثر من سبعين أستاذ جامعي ما بين ماجستير ودكتوراة ، وفي جميع التخصصات الإنسانية، وتعجز الجماعة عن فتح كلية واحدة لتشغيلهم ...!!!

وبدلاً من أن يكون أولئك العلماء والدعاة والمهاجرون من أبناء الحركة الإسلامية ، قادة في الأمة ، وصنّاع مجدها ، ومصدر عزّتها وكرامتها وتقدّمها ، إذا بهم فقراء معدمون مشرّدون ،  يلهثون خلف رغيف الخبز من الصباح حتى المساء ، ويستجدون الأمن والإقامة والوثيقة والمساعدة حتى يحيون ...!!

هذا على صعيد البلد الذي أحيا فيه ، أما على صعيد الحركة كلّها ، فتعجز الجماعة بعد أكثر من ربع قرن من الجهاد والهجرة عن تأسيس صحيفة تعبر عن همومها ، أوعن إطلاق فضائية تنطق باسمها ...

بل تعجز حتى عن تأسيس مركز بحوث ودراسات لكتابة أدبياتها وتاريخها ...

اللهم إننا نشكو إليك جهل الدهماء ، وغباء الأدلاء ، وعجز الأتقياء ، وخرس العلماء ، وبخل الأغنياء ، وغش القادة ، وفجور الأقوياء ، وعلوّ الصهيونية ... اللهم آمين ...