شبهات حول نظام الخلافة

أ. فراس حج محمد

[email protected]

في حمأة الصراع العالمي على العالم والسيطرة على كل مصدر من مصادر القوة فيه ، والسعي الحثيث في التأثير على عقول الناس وتفكيرهم إلى حد قصفها بما هو مهين ومشين للكرامة الإنسانية ، تظهر في معمعة هذا كله فكرة الخلافة الإسلامية التي ينادي أصحابها والداعون لها بوجوب إيجادها ، ويزداد نشاط من يعمل لها من مؤتمرات وندوات ومسيرات لافتة متحدية بأعداد تفاجئ الجميع ، فتبدو الدعوة قريبة للعيان ومحققة للآمال في نظر كثيرين ، وحلما مستحيلا في نظر البعض الآخر .

ولا بد أن يكون معلوما أنني في هذا المقال لا أتحدث عن حزب معين أو جماعة معينة ؛ وذلك لأن فكرة الخلافة لا تخص حزبا دون حزب أو حركة دون أخرى ، فهي ( الخلافة) قضية كل مسلم أينما كان موقعه التنظيمي أو الجغرافي ، ولذا من ينصب نفسه للحديث عن الخلافة يجب أن ينأى بنفسه عن التوصيف الحزبي الضيق ، كما أن القارئ عليه أن لا يدخل كل من يتحدث عن الخلافة في بوتقة الحزبية ، التي تجعل مثل هذه القضية الكبرى والمصيرية حكرا عليه ، بل إنني أرى أن كل المسلمين يجب أن يدعوا إلى هذا النظام الشامل ( غير الشمولي) ؛ لأنه لا وجود للإسلام في حياة الدولة والمجتمع والفرد إلا بالدولة الإسلامية ، ويوضح هذه الفكرة ما أُثر عن بعض السلف قوله:" القرآن أس والسلطان حارس ، فما لا أس له فمهدوم ، وما لا حارس له فضائع".

ومن ينظر في حياة الأمة يرى أن إسلامها مُضاع ، يتخبط الناس فيه خبط عشواء ، مما دفع مفكري الاتجاه العلماني بأن يسألوا بطريقة التشكيك والاتهام أي إسلام نريد ؟ إسلام الإخوان أم إسلام القاعدة أم إسلام السلفية الأصولية أم .... والتوصيفات كثيرة ومملة!!

    ولكن هذه الحالة ستختفي في ظل دولة إسلامية ؛ فلا تجد فيها إلا إسلاما واحدا – إسلام الدولة -  ؛ فالدولة تحسم الخلاف في الاجتهاد فيما قد يُظن أنه قد يفرق كلمة الأمة ، أو يؤدي إلى زعزعة نظام المجتمع والدولة ، ولذا فقد نص الفقهاء على : " أن رأي الإمام يرفع الخلاف"

  وكثيرا ما يثار سؤال حول إمكانية إقامة الدولة الإسلامية ، فمنهم من يرى أن الخلافة فكرة خيالية لا تصلح لهذا الوقت ، ومنهم من يرى أنها حلم طوباوي جميل ، ولكنه غير عملي ، والاشتغال فيها مضيعة وقت وصرف للشباب عما هو مفيد ونافع للمجتمع المعاصر، ولا أريد هنا أن أناقش العوامل التي تجعل من فكرة الخلافة فكرة عملية قوية وممكنة التحقيق ، ولكنني أكتفي بذكر عاملين فقط للدلالة على ذلك.

أما العامل الأول فهو تاريخي ؛ فقد عاش المسلمون تحت مظلة الخلافة الإسلامية أكثر من ثلاثة عشر قرنا امة واحدة بلادهم واحدة حاكمهم واحد وقرارهم السياسي نابع من مصالحهم وجيشهم واحد يحمي بلادهم وأعراضهم وأموالهم ، لا يفكر احد بغزوهم بل كان همّ الآخرين كيف يوقفوا هذا الجيش الذي كان فعلا جيشا لا يقهر ، حتى اجتمعت الدول الغربية في وقت كانت الدولة الإسلامية العثمانية  في أوج قوتها ، تناقش أمر هذه الدولة ، فيما عرف بالمسالة الشرقية ، وكيف تتخلص من فتوحاتها ، وقد كانت هذه الدولة تدك حصون المدن الغربية ، وتطمح جادة في الوصول إلى عواصمها في فينا وباريس وروما وغيرها ، وكان همّ هذه الدول إيقاف هذا الجيش وعدم تغلغله في أوروبا كلها ، وخاصة الغربية ، بعد أن اكتسحت الجيوش الإسلامية أوروبا الشرقية ، وفي ظل تلك الحقبة الممتدة زمنيا وجغرافيا عاش المسلمون شعبا واحدا تجمعهم مصالح واحدة وهدف واحد.

وأما العامل الثاني ، فهو عامل عقدي ،  يتمثل في آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تؤكد بصريح النصوص وصحيحها وقطعية ثبوتها أن المسلمين يجب أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا شيعا ودولا متضاربة المصالح والهوى والتبعية ، وعليهم أن يكونوا أمة واحدة من دون الناس ، وأن يجتمعوا على رأي خليفة واحد يسمعون له ويطيعون ولو كان رأسه زبيبة حبشي اسود ،  وحذرهم الله سبحانه من أن تفرق جماعتهم كيانات الضرار أو أن يشق عصاهم آخر كائنا من كان وليضربوا عنقه غير معصوم الدم ، وعلى الأمة أن تتقي شر فتنته بالثورة عليه ، ولذا فلأمة مأمورة بذلك من الله سبحانه فكيف لا تكون لحمة واحدة ، إن كانت تصلي لرب واحد وتصوم لرب واحد،  فكيف لا تنقاد لخليفة واحد ، وقد أمر بكل هذا وذاك رب واحد هو العليم جل جلاله.

ولأن الخلافة أصبحت قاب قوسين أو أدنى ، وأن زمانها قد أطل ، وبشائرها قد هلت ،  فقد ازدادت الحملات التشويهية ضد هذا النظام الرباني في مصدره ،  الإنساني في قوانينه ، الوحدوي في أهدافه ومشروعاته ، فليس غريبا إذن أن يهمش الإعلام قضية الخلافة  تصريحا وتلميحا ، وإن أتت على ذكرها مضطرة عبر الاتصالات غير المضبوطة في بعض البرامج ، تجد الضيوف يحرفون الكلم عن مواضعه بالذم والتشويه للفكرة والداعين لها والتهوين من أمرها ، في حين أن دوائر صنع القرار السياسي الغربية ، وخاصة في أمريكا وبريطانيا تخشى من عودتها أشد خشية من تفجيرات 11/ سبتمبر ، ويرتجفون من ذلك اليوم الذي يصبح فيه العالم الإسلامي دولة واحدة يبسط نفوذه في قلب العالم ، ويسيطر على كل ما هو حيوي واستراتيجي محاربا الوجود الاستعماري ، بل فاتحا من جديد عواصم الغرب.

وهنا تبدأ حملات التشويه من المفكرين الموصوفين بالعقلانيين والعلمانيين بكيل التهم لدولة الخلافة بأنها دولة دينية ودولة تخلف واستبداد ورجعية ، معتمدين في ذلك على القراءة المغلوطة لأحداث التاريخ الإسلامي ، ولعل هذه التهم هي الأكثر شهرة في برامج الإعلام عند الحديث عن الإسلام السياسي أو الخلافة.

ولا بد بداية أن نؤكد أن من يناقش هذا الأمر  في الإعلام في الأعم الأغلب هم العلمانيون أو الإسلاميون الموصوفون بــ" المعتدلين" ، ويغيب في أحايين كثيرة أصحاب المشروع النهضوي على أساس الخلافة في هذا الحديث ، مما يؤدي إلى وصول الفكرة مشوهة مغلوطة ، وتغيب الفكرة الصحيحة والسليمة ، وبذلك لا تخدم الفكرة وإنما تساعد على إفشالها بما تستطيع ، فإذا لم تستطع منع التيار ، فإنها تحرفه عن مساره ، {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.

ولعل الاتهامات السابقة يبنيها مدعوها على أساس المقارنة مع ما قد حصل في الدول الغربية قبل ولادة الدولة الديمقراطية الحديثة ، حيث كانت تتحكم بهذه الدول وشعوبها الكنيسة ، فقاسوا قياسا خاطئا ، وبذلك أتى هذا الوصف عبر موازنة غير مسموح بها عقلا ؛لأنه قد أتى من مصادر غير مصادره الطبيعية.

ويتبين خطأ هذه المقاربة في الاختلاف الجوهري بين النظامين نظام الخلافة والنظام الكنسي في ذلك الوقت، فقد كانت الدولة الكنسية الغربية يحكمها رجال الدين باسم الرب ، فهم فوق القانون والسلطة ، وأقوالهم وتشريعاتهم لا تُراجَع ولا تُنْقَض ،  فرجال الدين يشرعون والقياصرة ينفذون تلك التشريعات التي تكون في الدرجة الأولى تنفيذا لمصالح هؤلاء المشرعين وهؤلاء المنفذين ، حتى فشت كثير من الأمراض السياسية والاجتماعية والثقافية بين جمهور الناس ، فهبّ المفكرون بالمناداة بفصل الدين عن الدولة تحت شعار" دع ما لله للهِ وما لقيصر لقيصرٍ" ، وأن يترك أمر الدين داخل جدران الكنيسة ، فتم ذلك وتخلصوا من شبح الدولة الدينية بعد طول عناء ، وبنيت الدولة الغربية الحديثة على أسس علمانية ديمقراطية شعبية.

وهذا الواقع يخالف مخالفة تامة حقيقة نظام الخلافة ، فهي ليست دولة دينية بهذا المفهوم ، وإن كانت دولة إسلامية تستند إلى العقيدة الإسلامية وقوانينها مستمدة من الشرع الإسلامي ، فالأحكام الشرعية ( القوانين) عندما تطبق في الدولة تطبق بناء على أنها قوانين دستورية تستند إلى هذه المرجعية القانونية ، فكل قانون من هذه القوانين يتعامل معه كنص قانوني دستوري يكون الجميع تحت سلطته حاكما كان أو محكوما ، ليس في دولة الخلافة رجال دين يحكمون باسم الرب ، بمعنى آخر لا يوجد مشرعون يشرعون من عند أنفسهم لضمان مصالحهم متواطئين مع السلطة السياسية في تنفيذ ما يشاءون من قوانين ، وبالتالي من يطبق هذه القوانين هم بشر يخطئون ويصيبون ، ولذا فإن دولة الخلافة هي دولة بشرية ، حكامها ليسوا بعيدين عن مساءلة مجلس الأمة ومحاسبته ، بل يوقفونه عند حده إن لزم الأمر ، وقد تصل الأمور إلى عزله بالطرق القانونية المقررة في هذا النظام ، وبالتالي فدولة الخلافة ليست استبدادية ودكتاتورية ، كما يُشاع ، بل دولة عدل ورحمة وتساو بين أفراد الرعية جميعا مسلمين وغير مسلمين، فأين دولة الخلافة بمفهومها هذا عن دولة الكنيسة في عصر الظلام الأوروبي؟ هذه الدولة الكنسية التي حولت المجتمع إلى طبقات النبلاء ورجال الدولة والعامة ، وإلى سادة وعبيد؟

ومن أكبر الفريات المفتراه على دولة الخلافة أنها دولة تخلف ورجعية ، تريد أن تُعيد الناس إلى عصر السيف والخيل والبيداء التي لم تعد تعرفنا ، متجاهلة التقدم التكنولوجي والصناعي وغزو القمر ، ونسوا أو تناسوا تاريخ أمة بنت حضارة عريقة ، ذات ظلال وارفة ، وخضرة أغصان على امتداد ثلاثة عشر قرنا ، إنها فرية يشهد التاريخ المجيد لهذه الحضارة أنها ذميمة وشنعاء بتراء لا يقوم لها عود ، وما هي إلا للضحك على الذقون والتدليس على العقول ، فالتاريخ العلمي للأمة الإسلامية حافل بالمنجزات العلمية والمخترعات التي فاجأت العالم في حينه.

وقد تحدث عن هذه المنجزات العلمية الكثير من المؤلفات ، بين فيها أصحابها هذا الجانب المشرق في الحضارة الإسلامية ، ونذكر في هذا المجال على سبيل المثال لا الحصر كتاب " شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكه ، وكتاب " العلوم الهندسية في الحضارة الإسلامية " لمؤلفه دونالد ر . هيل ، ويرصد د. أحمد طحان في كتابه "عولمة الكراهية " كيف تعامل الغرب مع هذا الكم العلمي الهائل الذي ورثه عن المسلمين بالإلغاء والانتحال ، كل هذه المؤلفات تشهد على عظمة الإنتاج العلمي وتقدم المدنية للحضارة الإسلامية ، وكل هذا حدث في ظل دولة إسلامية هي دولة الخلافة ، التي آمن صناع المجد فيها بالعلم والتقدم الصناعي سبيلا للقوة المادية ودعامة قوية للنهضة الفكرية التي أحرزتها هذه الدولة.

وبالمؤكد أن الدولة القادمة دولة الخلافة الموعودة ، ستكون دولة فكر وعلم وصناعة وتقدم ، تأخذ بأسباب العلم لتتعاضد القوتان المادية والفكرية ، لتعطي مفهوما واحدا هو دولة الخلافة المؤسسة على الفكر والعلم والأخـلاق ، تكون فيها هذه القوة في خدمة البشرية وموجهة للبناء والرحمة والاستفادة من كل الإمكانيات المتاحة في هذا الكون ، توقر الإنسان وتحفظ الحيوان وتحافظ على النظام البيئي من الدمار والهلاك ، ليست كحضارة الغرب ومنتجاتها المادية التي تستند إلى الجشع الرأسمالي فأهلكت الحرث والنسل ، ولن يتدارك محنة البشرية وينقذها مما هي فيه سوى دولة الخلافة .

وأخيرا ،

فإن من يدعون إلى الخلافة قد دعموا مشروعهم النهضوي بالأبحاث والمؤلفات الرصينة التي توضح كل جزئية من جزيئات النهضة ، ولم يتركوا أي جانب من جوانب الحياة المعاصرة دون بحث أو تأصل فقهي وفكري بدءا بالحكم وأجهزته ، وانتهاء بالعيش الرغيد ، لتتخلص البشرية من غوغاء الساسة الغربيين المستغلين الذي حولوا الإنسان إلى سلعة  ولا شيء غير ذلك. ومن لم يعلم هذا الجانب من المؤلفات والأبحاث لا يلوم الداعين إلى الخلافة بل يلوم نفسه ، عندما توجه إلى المصادر غير المأمونة في استقاء المادة الصحفية والإعلامية أو الثقافية ، ومن كان منصفا فعليه أن يتوجه إلى المظانّ الرصينة والكتب الكثيرة ليعرف من هم الداعون إلى الخلافة وما هي نظرياتهم ومشروعاتهم ، فلا عذر لمقصر أو جاهل.