العلماء والعوالم
أ.د. حلمي محمد القاعود
تبدو المفارقة صارخة حين ينتفض المجتمع أو نخبه المهيمنة بمعنى أدق ؛من أجل العوالم والغوازي وما أشبه ، بسبب خبر صدر هنا أو هناك يشير إلى جريمة أو فضيحة ، فهؤلاء حرم مقدس ينبغي عدم الاقتراب من ذاته المصونة ، أو الاقتراب من شخصيته الاعتبارية المقدسة المعصومة !
في المقابل يتعرض العلماء من التخصصات المختلفة لمهانات متعددة على يد السلطة أو الصحافة أو أجهزة الدعاية الأخرى عندما توجه لأحدهم تهمة ما ولو كانت ماسة بشرفه وعرضه ؛ فلا يتحرك أحد ولا ينتفض أحد، بل تنهال الإدانات مسبقا قبل أن يقول القضاء كلمته ، ولعلنا نتذكر ما جرى قبل فترة لأحد الأساتذة الذي دبرت له مكيدة العلاقة المحرمة مع إحدى الطالبات ، وبعد إدانات وسجن ؛ برأه القضاء ، ولكن بعد أن تم تحطيمه تماما بالتشهير والتقريع والإدانة والإهانة ؛ وتم تحويله في النهاية إلى بقايا إنسان !
بالطبع نرفض إهانة أي أحد واتهام أي أحد بالباطل ، فالظلم ظلمات يوم القيامة ، وما جرى مؤخرا حول اكتشاف شبكة للشذوذ أبطالها من الفنانين ، وهياج المجتمع أو انتفاضة النخبة سخطا على الجريدة التي نشرت الخبر ، يشير إلى أن النخبة تكيل بمكيالين .فالعلماء دمهم مهدور ، وحرماتهم مستباحة ، ولا يسأل عنهم أحد ،ولا ينتفض من أجلهم مخلوق ، وقس عليهم المعارضين السياسيين ، والمنتمين إلى التيار الإسلامي بصفة خاصة ، فالصحافة تصليهم نارا ،وتقول في حقهم ما تشاء ، وتأمل مثلا ما ينشره بعضهم حول الإخوان المسلمين من تقارير أمنية تبدو في سياق صحفي ، تشوه صورتهم ، وتنسب إليهم ما ليس فيهم ، وتطعن في وطنيتهم وشرفهم ، لدرجة أن بعض أصحاب الأقلام التي لا تعرف الوضوء والطهارة ، تجعلهم أسوأ من الغزاة النازيين اليهود في فلسطين ! ولا يقولن أحد أن ذلك نوع من الصراع السياسي ، كلا بل هو خسة مخلوطة بالجبن وموت الضمير، ثم لماذا نذهب بعيدا ، وقد أسند أحدهم سلوكا شاذا لزوجة أحد المعارضين الذي كان محبوسا في السجن ليرضي السلطة التي تستخدمه وتدفعه للمنافحة عن سياساتها الفاشلة وسلوكها المستبد . لقد كان اتهام هذه السيدة من الاتهامات الخسيسة التي تتعلق بالشرف ، ولم ينتفض أحد ولم يغضب أحد ، لأن المسألة تختلف ، فالفنانون أو العوالم دمهم مقدس ، أما غيرهم فدمهم مستباح ..
مجتمع العوالم ويلحق به مجتمع الكرة فوق كل المجتمعات في مصر ، لهم الحصانة والحماية والتمييز ، وللعلماء وأشباههم الاستباحة والمهانة المادية والمعنوية ، يكفي أن تكون فنانا أو لاعب كرة لتفتح لك الأبواب ، وتضاء لك الأنوار ،فتجلس في قنوات التلفزيون وموجات الإذاعة ، وأنهار الصحف بالساعات على مدار اليوم والليلة ، وتفتي في الدين والسياسة والحرب والسلام والثقافة والمجتمع ولا يراجعك أحد ، ولا ينهرك أحد ! أما إذا كنت عالما أو عاملا شريفا ، فالويل لك من السلطة ومن الناس الذين يدينون بدين السلطة ! قارن مثلا بين أمين شرطة وعميد كلية ، وبين نقيب شرطة ورئيس جامعة ، وبين عميد شرطة ورئيس المجلس الأعلى للجامعات وهو في الوقت نفسه وزير التعليم العالي والبحث العلمي .. تجد النتيجة لصالح الأولين ، لأن الأخيرين صاروا في الحضيض المادي وتجوز عليهم الزكاة ؛ ما لم تكن لهم مصادر أخرى ، ثم إنهم يأتمرون بأمر البوليس في حركاتهم وسكناتهم ، هكذا أراد النظام البوليسي الفاشي للعلماء ، وبعدئذ يتعجبون لأن جامعة مصرية أو عربية لم تصعد لتكون ضمن خمسمائة جامعة دولية !
وتسألهم كيف نتفوق علميا واهتمامكم كله منصب على العوالم ولاعبي الكرة ؟ وكيف تريدون منا أن نخرج لكم باحثين ينالون جوائز نوبل كما يحدث في الكيان النازي اليهودي الغاصب في فلسطين المحتلة وأنتم تضنون على العلم والعلماء بحد الكفاف ؟ بل تدفعون بعضهم إلى التملق والارتماء في أحضان حزب السلطة ودروب الأمن المعتمة والتصفيق للاستبداد الظالم ، ولا بأس بعدئذ من إهمال التدريس والبحث ، بل والتجرؤ على سرقة جهود الآخرين العلمية ..أليست حصانة الحزب ومجالسه تكفي ؟
إن الوطن يحتاج إلى الفن بلا ريب . ولكن أي فن ؟ هل هذا الذي يقدم للناس ويُسمى أو يسمو إلى مستوى الفن الحقيقي؟ هل ما يقدمه من تسمونهم فنانين ونسميهم عوالم تجاوزا ؛ [فقد كان العوالم في زمنهم أكثر صدقا مع أنفسهم ومجتمعهم من فناني زماننا ] ، يوضع في خانة الفن الخالد الذي يعود إليه الناس كلما تعبوا من صعوبات الحياة وعثراتها؟ إن الفن الحقيقي مدرسة وتربية وتوجيه ، وتأثيره في زماننا أقوى من أي زمان سابق ، ويستخدمه العالم الاستعماري الصليبي والنازية اليهودية الغاصبة في تمرير الأفكار والتصورات والآراء والرؤى الخاصة بهما ، والفن هو الوجه الآخر للدين وفقا لرؤية الرئيس البوسني الراحل على عزت بوجوفتش ، والمفكر الشهيد سيد قطب ، فهل لدينا فن حقيقي؟ لست معنيا بسرد ما تحمله صفحات الشبكة الضوئية من مخاز تنسب لأهل الفن ، ولست راغبا في الحديث عن انحرافات كثير منهم قديما وحديثا ،ولا تفاهة كثير مما يعرضون وسطحيته ، ولكن يؤلمني محاولات بعض المنتسبين إلى الصحافة وهم يسوغون لأهل الفن انحرافاتهم وتجاوزاتهم ، ويتهمون المجتمع بأنه لم يعد رحيما.. لم يعد متسامحا ولا مستنيرا..ويرون أن النظرة للوسط الفني تغيرت كثيرا ففي فترات سابقة – كما يقولون - لم نكن نسمع عن قضايا الحسبة.. لم يكن المجتمع يفتش في ملابس الفنانات ولا يفسر قبلاتهن علي الشاشة سوي أنها لا علاقة لها بسلوك الفنانة خارج الاستديو. لقد خلعت فلانة ملابسها كاملة أمام الكاميرا، ولم يجلدها أحد ومثلها فعلت علانة التي خلعت ملابسها في فيلم « ؟» ولم يقاضها أحد..حتي وان قاضاها احد فإن المجتمع كان رحيما بها لأسباب كثيرة منها أن الفتيات كن يرتدين ما ترتديه الفنانات من فساتين قصيرة ومايوهات.. أيضا لم تخرج فنانة منهن لتتبرأ من مشاهد قدمتها على الشاشة !!
أرأيتم النظرة المستنيرة للفن التي تقدمها صحف السيراميك والتعري ؟ الحسبة، والتفتيش في ملابس الفنانات ؛ وخلع الملابس، والرحمة ؛ والتبرؤ من المشاهد ، والفساتين القصيرة ، والمايوهات ، وكأننا في ملهى ليلي يجب أن نخضع لمنطقه ومنهجه في الاستهانة بكل قيمة وكل فضيلة ، وكأن الفن الحقيقي عاجز عن التعبير الرمزي الذي يكون عادة أقوى من التعبير المباشر، وكأن السينما الهندية التي لا تسمح بالقبلات ، والسينما الإيرانية التي لا تتعاطي مع العرى والأحضان أقل استنارة وهي تحصد الجوائز العالمية ، بينما السينما المصرية لم تحصل على جائزة واحدة ولو ورقة توت بدلا من سعفة كان ؟!
هكذا يسوغون الإباحية والعري ، ويتناسون أن الفن الجميل ليس كذلك ، فهناك من لم تخلع ملابسها ، ومن لم يقبلها أحد ، ومع ذلك أدت أدوارا مازال الناس يذكرونها ، ويتأثرون بمشاهدها ، لأنها كانت في سياق فن حقيقي لا يبشر بالعري والرذيلة ، ولا يأتي تجّاره من سوق الكرشة ووكالة البلح ونفايات الشيوعية البائدة !
تدعي إحداهن التزامها بالدين ولكنها تؤدي أدوار عارية أو أدوار غرف النوم ، وحين يسألها مذيع عن هذا التناقض ، فإن صحف السيراميك والتعري ترى في هذا السؤال تفاهة أو سطحية تليق بمذيعي الدرجة الثالثة .. أي إن المذيع يجب أن ينحاز إلى الإباحية كي يكون مذيعا من الدرجة الأولى !
وواضح أن القضية ليست فنا ولا علما ، ولكن بناء مناخ عام يهيئ للفساد وتدمير البلد على المستويات كافة ، ولتنتفخ الجيوب والمكانة الخاصة بالعوالم ولاعبي الكرة وليس الفنانين الحقيقيين ، وليس العلماء الصادقين ؛ ولتعيش مصر أسوأ أيامها على يد الطغاة والعاجزين وتجار الفن وخدام الغرب وأنصار التطبيع مع الغزاة !