هموم أمة ، أصحاب الكتب الصفراء-1
هموم أمة ،
أصحاب الكتب الصفراء
(1)
أحمد النعيمي
بعضٌ منا ينفخ نفسه ويعرض أخلاقه مظهراً نفسه بمظهر الطهر والبراءة ، متخذاً منها مصلحاً ومرشداً وجاعلاً منها منارة ً للناس ، يحل للناس مشاكلهم ويصلح بين المتخاصمين على شرع الله ورسوله ويسعى بين الناس بالإصلاح ، ثم في لحظة من اللحظات تجد هذا المصلح ، يقع في مشكلة يكون هو أحد أطرافها ، وإذ به قد أصبح شخصاً آخر نزع قناع الطهر الذي كان يدعيه ، وبات وحشاً كل همه أن ينتصر لنفسه ، فيعمل على تصفية خصمه وإلصاق كل أمر سيء به ، فيحرق أخضره ويابسه ، ويفجر في خصومته معه ، ويضع قوانين أخرى غير تلك التي كان يدعوا إليها ، وتراه كل همه أن يُسير الأمور إلى صالحه ، سواءً كان ذلك في مرضاة ً الله تعالى أم في سخطه ، المهم أن يخرج منتصراً بأية وسيلة ، وكأن ما كان يتكلم به من إصلاح وتطبيق لشرع الله كان موجهاً لغيره فقط ، ومثله في هذا ، كما ورد أن رجلاً جاء يسأل أحد الشيوخ عن بقرة دخلت بستان رجل فأعملت في البستان خراباً وتدميراً !؟ فكان جواب الشيخ أن يغرم صاحب البقرة عن الأضرار التي أحدثتها في البستان ، وبعد أن حكم الشيخ بحكم الشرع ، تابع السائل قائلاً : يا شيخنا إن البقرة للشيخ ، عندها توقف الشيخ ، وقال لأحد أتباعه : " هات الكتاب الأصفر " فالمسألة قد اختلفت .
فأي اختلاف بين رجل ورجل في ظل الشرع وهل فعلاً أن هناك كتابٌ أصفر لبعض الذين يتسترون باسم الدين والعلم ، محاولين إيهام الناس أن العالم إذا وصل مرحلة ما فإنه يصل إلى العصمة ، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يرد في اجتهاده وما ذهب إليه سواءً كان خطأً أم صواباً ، وأن لحمه قد بات مسموماً ، مع أن الحديث عن الخطأ لا علاقة له باللحم ولا العظم ، وزاد بعضهم أن رفع عن نفسه كثيراً من التشريع !؟ وذهب آخرون إلى رفع التكليف عن سيادتهم جملة ً وتفصيلاً ، وهذا الشذوذ وقع به الرافضة فارتفعت التكاليف والفرائض عن آياتهم الشيطانية ، وما عاد أي قلم يكتب لا عنهم ولا لهم ، وقد رأيت في الكاظمية كيف أن أحد معمميهم ( سيدهم ابن المتعة ) كان يؤم جموعهم وهم خلفه ، وهو يقف أمامهم جالساً على كرسي ووجه إلى المصلين يشير إليهم بالسجود والركوع ، وإلى جانبه شخص آخر كذلك وجهه إليهم يعيد تكبيرات هذا المعصوم ، ولكنه كان واقفاً ويبدو أنه في أول أطوار رحلته نحو رفع التكاليف ليصبح ابن إله بعدها ، أي عقول تلك التي تقاد كأي بهيمة أو دابة مسلوبة العقل والإرادة !؟
ولحقهم بهذا مجموعة من الذين درسوا العلوم الشرعية ثم أصابهم الغرور فما عادت عقولهم تتسع لمخالفيهم في الأفكار ، بل إنهم باتوا يعتقدون أن ما ينطقون به أمور معصومة وإن مجرد طلب دليل على ما وصلوا إليه تشكيك في علمهم ، وإذا ما سألهم أحد عن دليل قولهم ، صرخوا في وجهه وأمروا بطرده من مجالسهم ، ولسان حالهم وواقعهم يقول : " عيب أن أسأل عن الدليل فهذا تشكيك في علمي وقولي أو عيب على أحد أن ينتقدني فيما أذهب إليه " ، وكأني بهم قد أكل الغرور منهم وشرب !! ورحم الله الشيخ كشك عندما قال : " يقول الإمام أبو حامد الغزاليُ – رحمه الله تعالى – كنت جالساً في المسجد ألقي على الناس دروس العلم فنظرت أمامي والمسجدُ غاص بالعلماء وجدت أمامي ثمانمائة عالم لو وزع علم واحدٍ منهم على أهل الأرض لوسعهم جميعاً ، فخشيتُ أن يدخل الغرور نفسي " ويضيف الشيخ كشك – رحمه الله – : " والغرور مقبرة النجاح ، إذا رأيتم العالم قد اغتر فاعلموا أنه قد قبر " .
وقد رأيت هؤلاء يدخل عليهم أتباعهم ، ويبدءون بالزحف نحوهم من مسافة بعيدة ، إلى أن يصلوا إليهم ويلعقون أيديهم وأقدامهم ، وإذا سألهم أحد ما عن سبب هذا التصرف ، فإنه يُدخله في حديث عن الكهرباء وإنارتها ويدخل بعدها بحديث عن المولدات ، محاولاً إن يقنعه بأن هذه الكهرباء تأتي إلى البيوت عن طريق المولدات وهؤلاء الشيوخ هم تلك المولدات ، ولذا وجب علينا أن نتوجه من كهرباء بيوتنا إلى مولداتهم مركز الكهرباء لتصل بنا إلى المركز الرئيس والعياذ بالله ، تعالى الله تعالى عما يقولون علواً كبيراً ، وبالنتيجة فلا ينتابك إحساس إلا أنك أمام رجل له علاقة بتصليح الكهرباء وهندسة التوصيلات لا رجل له علم ودراية بالإسلام ، فالله يقول لنا : " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ " البقرة 186 ، ولم يتحدث لنا أحد من قبل عن مثل هذا الخزعبلات .
وباعتقادي أن هذه القناعة التي تولدت لدى هؤلاء فأصابهم من الغرور ما أصابهم ، هو الجهل الذين كان يسود بين القسم الأعظم من آباءنا وأجدادنا الذين لم يكن لديهم القدرة على أن يطلبوا الدليل ويبحثوا في صحة القول من عدمه ، مما أعطى لهؤلاء مفهوماً بأن لهم طاعة مطلقة على البشر ولا يجوز لأحد أن ينزعها منهم ، والناس هم من ساهم في أعطائهم هذه القدسية التي لا يجوز أن تعطى لأحد بعد رسل الله تعالى ، مما جعلهم يحاولون التمسك بهذه المكانة التي نالوها بكل جهدهم ، خصوصاً بعد أن أصبح اليوم الكثير من أبناء جيلنا مثقفين ، يفهمون ويدركون ويستطيعون أن يميزوا بين الأدلة وغيرها ، بل إن طلب الدليل والسؤال عنه واجب على كل مسلم لكي تكون عبادته لله على علم ، وذلك كما طلب إبراهيم عليه السلام من الله : " رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي " البقرة 260 ، فسابقاً كانوا يبحثون كثيراً حتى يجدوا شخصاً يستطيع القراءة ، لكي يقرأ رسالة وصلت لأحدهم من قريب له خارج البلد خصوصاً في المجتمع الريفي ، ثم بعدها ولله الحمد تغير الحال وأصبح الكثير من الشباب يقرءون ويكتبون ويتفوقون في دراستهم ، ولكن بقيت النظرة السائدة هي ، هي ، فقد ذكر لي أحد أصدقائي عن موقف حصل لأهل قريته بحضرة شيخهم حيث قام أحد الشباب ، وسأل الشيخ عن دليل لما يقوله ، غضب الناس الذين زرعت في عقولهم فكرة أن الشيخ لا يخطأ ورسخ في ذهنهم أن لحوم العلماء مسمومة فكيف لهذا الغر إن يسال فضيلته عن الدليل ، ولكن ما كان من الشيخ الفاضل إلا أن طلب منه أن يحضر أحد الكتب التي تمتلئ بها داره ، وقرأ له الأدلة التي جاءت في هذا المسالة !
وأقول : لو كان لشخص ٍ أن ينال هذه المكانة ويرفع عنه القلم لكان أحق الناس بها خير البرية محمد – عليه أفضل الصلاة والسلام – الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وتأخر ، ولكنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ، وقال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " ، ولو كان هناك عصمة لأحد بعد رسول الله لما انقطعت الرسالات عن الأرض ولبقي الوحي ينزل على نبي بعد نبي ولكن كان محمد خاتم الأنبياء وكانت رسالته للعالم أجمع ، يقول الله عز وجل : " مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً " الأحزاب 40 ، وبموته – صلى الله عليه وسلم – انقطع الوحي وما بقي لأحد عصمة ، وأما هؤلاء أصحاب الكتب الصفراء فقد اتخذوا إلههم هواهم وأصابهم الغرور فما عادت عقولهم تتسع لما وصلوا إليه من مكانة ، وباتوا يعتقدون أن أقوالهم لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فضلوا ضلالاً بعيداً، بينما كان سلفنا الصالح يضعون أنفسهم تحت الحق أينما كان وكيفما دار ، لا يخجلون أن يعترفوا بخطئهم إذا ما اخطئوا ولا يترفعون على أن يناصحهم أحد من المسلمين ، فينزلوا تحت قوله إذا كان هو الحق ، فقد أراد الفاروق رضي الله عنه أن يحدد المهور رحمة بالناس ، فقامت امرأة وقالت : " أتريد أن تمنعنا يا ابن الخطاب من حيث يريد الله أن يعطينا ، وذكرت الآية " وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً " النساء 20 " ، فلم يأمر حراسه بالقبض عليها ، ولم يتهمها بأنها تضع العصي بين الدواليب ، ولا اتهمها بأنها مدفوعة من قوى خارجية من أجل زعزعة أمن الخلافة ، ولكن رجع من وقته وقال كلمة تدلل على تواضع هذا الرجل العظيم وهو العالم الفقيه وأفضل أهل زمانه في العلم والورع والتقوى ، والذي نزل القران موافقاً لرأيه في أكثر من مناسبة ، قالها وبكل تواضع : " كل الناس اعلم منك يا عمر " ، وأضاف : " أصابت امرأة واخطأ عمر " حتى في هذه لم يرفع من شأنه وهو أحق الناس بهذا ولم يتسمى بألقاب السيادة والعمادة والركن والمهيب . وإنما قال عمر ، وعمر فقط !!
وفي مواقف الخصومات كذلك تظهر المفاصلة ، وتتضح الحقائق ، فإما منصف حال الخصومة ، وإما آخر فاجر في خصومته ، وقد سأل ابن لقمان أباه ، فقال : يا أبتي أريد أن أأخي فلاناً ، فبما تنصنحي !؟ قال الحكيم لقمان : " يا بني خاصمه فإن أنصفك وإلا فلا " ، وقد رأيت أناساً عجبت كل العجب من كرم أخلاقهم ، حين الرضى وحين الغضب وحين الصلح ، فإذا رضوا اثنوا وإذا غضبوا ستروا وما فجروا ، لا تعرف غضبهم من رضاهم ، بخلاف آخرين رايتهم يجرحون ويقدحون حين الرضى ويفجرون حين الخصومة ويشحون حين الصلح ، ورحم الله المتنبي عندما قال : إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ، إنها معادن الرجال لا تظهر إلا عند المحك وإلا فحين الفضاء فالكل يعرض بضاعته ، وبالشدائد والمحن وحدها تكتشف المعادن ، فيتضح الزيف وتظهر الحقائق ، ورحم الله المتنبي مجددا ، عندما قال : وإذا اشتبكت دموع في خدود تبني من بكى ممن تباكى ، ما أحوجنا إلى التواضع وإلى خفض جناحنا للمؤمنين ، وما أحوجنا إلى الابتعاد عن التكبر والغرور .
ولعلمائنا الاحترام والتقدير ما داموا يطيعون الله ، ولكن إن يجعلوا من هذا العلم الذي حملوه أبناء الله وأحبائه فهذا باطل ، فهم بشر ممن خلق يغفر لمن شاء ويعذب من شاء ، فلا يذهب بهم الوهم والغرور إلى أن تصور لهم قلوبهم المريضة أنهم قد أضحوا رسلاً ، وأنهم أفلاك والناس تدور حولهم ، أو حسب نظرية الكهرباء والمولدات ، وليعلموا أن زمن آباءنا وأجدادنا الذين كانوا من الجهل بمكان قد ذهب إلى غير رجعة ، فقد أصبح لشبابنا القدرة على السؤال والاستقصاء عن الدليل ، ولا يشترط في هذا أن يكون الإنسان الباحث عن الدليل عالماً جهبذاً ، ولا شك أن هناك الكثير من العلماء الصادقين المخلصين المتواضعين الذين يعبدون الله حق عبادته ولا يخافون بالله لومة لائم ، ولكننا نقول لهؤلاء الذين أصابهم الغرور والعنجهية ، إن اتقوا الله في أنفسكم فضعوها حيث وضعها الله ، ولا تتخذوا هذا الدين من أجل السيطرة على الآخرين واستعبادهم والسيطرة على عقلوهم ، فقد ولدتهم أمهات أحرارا ، والجميع تحت الشرع سواسية ، وليكون قدوتنا في هذا أبا بكر الصديق التي أعلنها وبكل صراحة : " القوى فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " ، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وعندما نصبح كما كان عليه سلف الأمة نكون عندها مهيئين للنصر ، نعم نحن بحاجة إلى أن تعيد ترتيب أوراقنا من جديد ونعلم أن هذه الحياة فانية وإلى زوال وأن الأخرى هي دار القرار ، نحن بحاجة إلا أن نعلم أن أعمالنا ستكون إما لنا أو علينا ، فان خيراً فخير وإن شراً فشر وما هذا الجاه الذي نسعى إلى تحصيله في الحق أو الباطل سنتركه ونذهب إلى ما أفضينا إليه من عمل ، نحن بحاجة إلى إن نراقب أنفسنا فنلومها على الإغراق في إتباع الشهوات ونوقفها عند حدها لتكون تلك التصرفات كفيلة بأن تصل بنا إلى أعلى عليين ، لا أن نتبع أنفسنا هواها فتهوى بنا إلى أسفل سافلين ، نحن بحاجة إلى أن نعلم أن كل إنسان يجب أن يوقف نفسه للحق يستوي في هذا الحاكم أو المحكوم أو العامي أو العالم ، فهل من متعظ قبل فوات الأوان وهل من متدبر قبل أن يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني لم اتخذ مع الرسول سبيلا ، وهيهات وقتها ، هيهات فلن ينفع الندم .