فضيحة بجلاجل للعلمانيين في برنامج

فضيحة بجلاجل للعلمانيين في برنامج

"الاتجاه المعاكس"

 د.إبراهيم عوض

[email protected]

بثت قناة الجزيرة مساء الثلاثاء 5/ 10/ 2004م حلقة من برنامجها الأسبوعى: "الاتجاه المعاكس"، الذى يقدمه د.فيصل القاسم المتخصص فى إشعال الحرائق الفكرية واستخراج ما فى مستكن أفئدة ضيوفه بطريقته المعروفة للمشاهدين. وقد دارت الحلقة حول مدى ترحيب المسلمين بحذف نصوص دينية إسلامية معينة من المناهج الدراسية، وكانت نتيجة تصويت المشاهدين فى صالح الرفض لهذا الحذف بأغلبية ساحقة، بل إنه ليمكن القول بأن الإجماع تقريبا قد صبَّ فى هذا الاتجاه إذا أخذنا فى الاعتبار أن نسبة الـ7% التى صوتت عبر الهاتف بالموافقة يدخل فيها غير المسلمين، سواء من العرب أو من غير العرب أيضا، إذ لا أظن أن هناك مصفاة فنية تمنع من ليسوا عربًا من الاشتراك فى هذا التصويت!

والواقع أن هذه الحلقة بالذات كانت بكل المقاييس "فضيحة بجلاجل" للعلمانيين المتغربين السائرين فى ركاب أعداء هذه الأمة الراقصين على ما يعزفونه لهم من أنغام، النابحين كل شريف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلما شامُوا فى الأمة ضعفا، والمسارعين إلى الدخول فى أوجارهم أذلّةً ضاغين ضارعين إذا استقام ميزان الأوضاع وعادت الأمور لطبيعتها الأصلية. أما كيف كانت "فضيحة بجلاجل" لأولئك الخَلْق فإليك، أيها القارئ، التفصيل:

لقد ظهر من مناقشات أولئك الخَلْق أنهم لا يحترمون القرآن ولا الحديث، وهما أساسا الدين لهذه الأمة، وبغيرهما لا يكون المسلم مسلما. كما ظهر من هذه المناقشات قدرتهم العجيبة على الكذب والتدجيل دون أن يطرف لهم جَفْن ولا هُدْب، مما يدل على أن هذه الآفة سجية متأصلة فيهم، وأن الواحد منهم "كذاب قرارى" كما يقول المصريون! أو كذاب من الطراز الأول بامتياز كما نقول فى الفُصْحى حماها الله! وفضلا عن هذا وذاك هناك الجرأة الخبيثة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية، والقرآنية يالذات، تفسيرا ما أنزل الله به من سلطان. ومن لا يعجبه هذا التفسير العجيب فليشرب من البحر، أو إذا لم يكن قريبا من البحر فليخبط رأسه فى الجدار الذى أمامه أو الذى وراءه (لا يهم! المهم أن يخبطه، والسلام!)، ولا يجشم نفسه تعب القيام من مكانه للذهاب إلى البحر! وهذه الجرأة الوقحة على التلاعب بتفسير النصوص الدينية يرفدها جهل غليظ لا يستحى صاحبه من إعلانه على الناس. ولِمَ يستحى، والأمر إنما يتعلق بالإسلام، وهو دينٌ بلا صاحب، أو هو فى أحسن الأحوال دينٌ ليس لدى أهله قنابل أو صواريخ أو أسلحة نووية كما عند ماما (أو بالأحرى: امرأة بابا) أمريكا ومن لفَّ لِفَّها، دينٌ ها هى ذى الدنيا تستعد لتشييعه إلى مثواه الأخير كما تخيل لهم أوهامهم النجسة مثلهم، ولا عزاء فيه لأحد: لا للسيدات ولا للرجال، ولا حتى للأطفال الصغار؟ ترى هل يستطيع أحد من المسلمين أن يجرؤ على فتح فمه؟ هكذا يفكر أولئك الخلق! وفوق هذا وذاك فالقوم لم يعودوا يخفون شيئا من أهدافهم ونياتهم: فهؤلاء هم المسلمون يُذَبَّحون وتُدَكّ بيوتهم فوق رؤوسهم ورؤوس الذين نفضوهم وتُغْتَصَب حرائرهم وتُلَطَّخ أجساد رجالهم بالخراء ويُكْرَهون على أن يأتى الأب منهم أولاده، والأولاد أباهم، بأوامر اللوطيين والسحاقيات من أبناء وبنات العمّ سام (عَمَى الدِّبَبَة)، وتُسَلَّط الكلاب المتوحشة عليهم تأكل أعضاءهم التناسلية وهم عرايا مقيدون قد أُبْعِد ما بين ساقيهم بآلات حديدية حتى لا يستطيعوا أن يداروها عن الكلاب المتلمظة التى يسلطها عليهم كلاب البشر! رهيب! رهيب! رهيب! ثم يأتى أولئك الخلق فيصيحون بنا أنْ كونوا متحضرين أيها الأغبياء يا من لا تزالون تعيشون وتعششون كالخفافيش فى عصر الظلام الذى كان يعيش فيه محمد وأصحابه البدو المتخلفون! ما لكم تريدون أن ترجعوا عقارب الساعة إلى الوراء، وقد مات ذلك الـ"محمد" منذ أربعة عشر قرنا وشبع موتا، وينبغى أن يلحق به قرآنه وحديثه اللذان لا مكان لهما فى عالم اليوم الذى  استولت فيه أمريكا على عرش الألوهية بقوة السلاح  كما استولت على بلاد الهنود الحمر بعد أن أبادتهم وجعلتهم أثرا من بعد عين، وحوَّلتهم إلى حكايات تُرْوَى وأفلام تُمَثَّل على الشاشة للتسلية وإدخال السرور على قلوب المشاهدين، ولم يعد هناك مكان لإله محمد يا أيها الحمقى، بل يا أيها البهائم؟ ألا تريدون أبدا أن تفيقوا من هذيانكم وظلامكم وتكونوا، ولو مرة واحدة، قوما متحضرين؟ استيقظوا وافركوا أعينكم وقلوبكم وعقولكم جيدا، فهذا الأوان أوان "الكاوبوى بوش" لا "محمد راعى الجِمَال" يا أيها الصُّمّ البُكْم العُمْى الذين لا يبصرون ولا يسمعون ولا يتكلمون كلاما يفهمه العاقلون! هذا، أيها القراء، هو الأمر باختصار، ومن يرد مزيدا من البيان فليتابع معنا غير مأمور، بل له كل الاحترام، وله كذلك الثواب من رب الثواب: رب محمد بطبيعة الحال كما لا أظننى بحاجة إلى التوضيح، فأنا من أولئك الذين ما برحوا، رغم كل شىء، يؤمنون بمحمد ودين محمد ورب محمد، لا أعرف لى دينًا ولا نبيًّا ولا ربًّا سواه!

لقد بدأت الحلقة، ولم نكن نعرف مَنْ ضيفاها، ولكن ما إن رأيت د.إبراهيم الخولى حتى شعرت بالسرور، إذ سبق لى أن شاهدته (ولأول مرة فى حياتى) فى  الحلقة التى قارع فيها د.محمد أركون العام الماضى فقَرَعه بل أجهز عليه بالضربة القاضية حتى لقد رأيت أركون وقد استولى عليه الذهول عند انتهاء الحلقة، وهو يكاد يضرب كفا بكف (أو ربما ضربهما فعلا) لأن الحلقة قد انتهت دون أن يستطيع شيئا مما ظن أنه فاعله، تصوُّرًا منه أن د. الخولى رجل أزهرى (أى "دقة قديمة")، فهو يقدر أن يضحك عليه بكلمتين من كلامه الذى يترجمه له حواريّه هاشم صالح (الذى كتب عقب حوار بينه وبين أستاذه فى العاصمة الفرنسية قائلا إنه يتطلع إلى اليوم الذى تنتشر فيه الخمارات فى أرجاء البلاد الإسلامية كما تنتشر فى باريس) معلنًا فى جرأة لم أرها ولم أسمع بها فى الغابرين ولا فى المحدثين، ولا أحسب أحدا سوف يُكْتَب له أن يسمع بها فيما يُسْتَقْبَل من الزمان إلى يوم الدين، أن الإسلام قبل أركون ليس هو الإسلام بعد أركون! مَدَدْ يا سيدى أركون! مَدَااااادْ! والحمد لله أنه لم يَدْعُ إلى ترك التقويم الهجرى والميلادى والقبطى والعبرى والفارسى والصينى والجريجورى وتدشين تقويم جديد للعالم كله يحمل اسم شيخ طريقته أركون، فيقال: حدث هذا فى السنة الرابعة والخمسين مثلا أو فى القرن العاشر من ميلادِ (أو من وفاةِ، أو من صدور أول كتابٍ لـ)سيدنا أركون، صلى "الغرب" عليه وسلّم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين يضعانه فى آخر المطاف يوم القيامة فى المكان الذى يستحق جزاءً وفاقًا على ما صنعت يداه! ولا شك أن هذا منتهى التواضع: من الشيخ الأكبر، ومن الدرويش الأصغر على السواء! لكن الذى حدث هو أن الدكتور الأزهرى قد لقن الشيخ الأكبر درسا لا أظنه هو ولا من وراءه أو أمامه أو عن أيمانه أو عن شمائله من دراويشَ تابعين أو سادةٍ متبوعين سيَنْسَوْنه أبد الآبدين ولا دهر الداهرين! لقد بدأ الدكتور الأزهرى كلامه بالحمد لله والصلاة على النبى واستعاذ بالله من شرور النفس ومن سيئات الأعمال، وأطال فى هذه الديباجة، وأنا أستحثه بينى وبين نفسى أن يدخل فى الموضوع خوفا من أن يقاطعه فيصل القاسم فى الوقت الحرج  ويقول له كعادته: "الوقت يداهمنا". لكنى لم أكن أعرف أن كلمات الشيخ ستنزل على رأس الأركون كما تنزل "تعزيمة الرفاعى" على رأس الحَنَش الذى يريد استدراجه من داخل الجدار، فتطيّر صوابه فلا يستطيع حولا ولا طَوْلا، بل يقع فى يده ويستسلم كما يخرج الثعبان من الشق الذى يختبئ فيه رافعًا الراية البيضاء لراقى الثعابين! أعاذنا الله من الثعابين ومن شر الثعابين: من المنسوبين إلى جنس الآدميين، قبل ثعابين الحَيَاوين! قولوا معى بصوتٍ واحد، وعلى قلب رجلٍ مؤمنٍ واحد: آمين، يا رب العالمين! وأسمعونى كذلك الصلاة على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين! المهم أننى من يومها كلما جاءت سيرة الحلقة أجدنى أردد قائلا: "لقد أكل الشيخُ الأزهرى البروفسيرَ السربونى!". لهذا، ولكل هذا، ولا شىء غير هذا، ألفيتُنى أبتهج لمرأى د.الخولى وأتشوق إلى متابعته مرة أخرى وهو يتكلم بطريقته المميزة راسمًا بذراعه ويده اليسرى زوايا قائمة فى الهواء ومشيرًا بسبابته فى حسمٍ وحدّةٍ ناحية الخصم كأنه يفقأ بها عين الباطل اللئيم مضيفا على نحو مفاجئٍ خاطفٍ كلمةَ: "ثمّ"، ومتمهلا قليلا قبل أن يشفعها بالجملة التالية ثم سائر الجمل من بعدها بحروفها التى تبدو وكأنها صادرة جميعها من الحلق، وعلى رأسه طاقيته الداكنة المكبوسة الظريفة التى يكمن فيها السحر والظرف كله! وأشهد أن الشيخ الأزهرى لم يخيب ظنى ولا رجائى هذه المرة أيضا، بل إنى لأعتقد أنه قد تفوق فيها على نفسه. وكان من بركاته أن استفز خَصْمُه مقدِّمَ الحلقة منكرًا ما كان قد قاله قبل الدخول إلى مكان التصوير وأعلن فيه ما تكنه أطواء ضميره من كراهية للإسلام وحملة تجاوزت جميع الحدود على آيات القرآن  مما لم يستطع أن يواجه به الجمهور ولا أن يصمد به للشيخ فى الحوار الذى دار بينهما على الهواء أمام الملايين، فما كان إلا أن وجَّه له د. فيصل القاسم بدوره لكمة أخرى جعلته يترنح وهو يتصايح مُنْكِرًا دون جدوى، والقاسم يؤكد بقوة واستخفاف أن كل شىء قاله قبل بدء الحلقة مسجَّل، وأنه لا يفترى عليه فى قليل أو كثير! وهكذا لحق محمد ياسر شرف بأركون (الذى جعله الله سَلَفًا ومثَلاً للآخِرين) غير مأسوف على أى منهما! والدكتور شرفٌ بالمناسبة، حسبما أخبرنى صديقٌ  حلبىّ البارحةَ عقبَ انتهاء البرنامج، هو أستاذ سورى كان يشتغل ناظرا لإحدى المدارس الثانوية بدمشق قبل أن يسافر للعيش فى لندن.

وهكذا بدأت الحلقة، وكانت بداية القصيدة كفرا، إذ لم يترك لنا د.شرف فرصة نستعد فيها لما يقول، بل أخذ يمطرنا من البداية باتهام  معلِّمى اللغة العربية والدين فى المدرسة جميعا بالكذب قائلا إن مدرس العربية يكذب على التلميذ زاعما له أنه سوف يبدأ معه من الآن دراسة العربية، أما ما كان يتكلمه قبل ذلك فليس من تلك اللغة فى شىء. ومن ثم فهذا المدرس، حسب زعم د.شرف، يحكم على الفترة التى قضاها الطفل قبل أن يبدأ درس النحو بأنها ضاعت من حياته دون جدوى! ولا أدرى أين يوجد ذلك المدرس خارج أوهام صاحبنا الرديئة السخيفة. لقد درَسْنا القواعد النحوية والصرفية فى المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة، فلم نقابل مثل هذا الأستاذ. بل إن كثيرا من أساتذة اللغة العربية ليشرحون دروسهم بالعامية. وكل ما يمكن أن يقوله الواحد منهم فى هذا الصدد أن الفصحى هى لغة القراءة والكتابة، أما العامية فللكلام والمطالب اليومية فى البيوت والشوارع والمقاهى والأسواق وما إليها، مثلما قلنا ونقول، وسنظل نقول، إن المنامة للبيت والسرير، بخلاف البدلة، فهى للحفلات والمناسبات الاجتماعية والرسمية الهامة. فأين الكذب هنا؟ والعجيب أن الرجل كان يتكلم بلغة فصحى سليمة إلى حد كبير، ودون تلكؤ أو تلعثم. والفضل بطبيعة الحال، بعد الله، لمدرسى اللغة العربية الذين جازاهم سعادته جزاء سنمار! ترى بأية لغة غير العامية المتخلفة  كان سيتكلم لولا فضل هؤلاء الأساتذة الذين يرميهم سيادته بالكذب جريا على أسلوب المثل السائر: "رمتنى بدائها، وانسلَّتِ"؟ ثم لماذا يَقْصِر الاتهام بالكذب على مدرسى اللغة العربية دون سائر المدرسين، وهؤلاء يقعون فيما هو أشد مما يتهم به أولئك زورا وبهتانا؟ ألا يقول مثلا مدرس الكيمياء لتلاميذه إن ذرة  الماء تتكون من ذرة أوكسجين وذرتى هيدروجين؟ أوقد عاين أىٌّ منا ذلك؟ إننا لا نعرف ماءً إلا ذلك الذى ينزل من الصنبور أو يجرى فى الترع والقنوات أو يهطل من السماء! لكن الأستاذ المتكلم إنما قصد ذلك قصدًا بغية التحقير من شأن اللغة العربية لأنها لغة القرآن الكريم رغم أن موضوع الحلقة لا تربطه أية واشجة بدروس  النحو والصرف! وهذا ما عناه القرآن المجيد حين تحدث عن طائفة من الناس فنبَّه الرسولَ عليه السلام إلى أن من السهل معرفتهم من لحن القول، وهو شىءٌ  قريب مما نسميه الآن بـ"فلتات اللسان".

وكما قصد الرجل أن يحقر من لغة القرآن باتهام مدرسيها ضلالاً منه ومَيْنًا بأنهم، حين يعلّمون التلاميذ قواعد النحو والصرف، إنما يمارسون كذبا بشعا عليهم، كذلك قصد الإساءةَ الجِلْفَة الغبية للدين حين اتهم مدرسى الفقه، ضلالاً أيضا منه ومَيْنًا، بأنهم إنما يكذبون أفظع الكذب على التلاميذ حين يقولون لهم إن ما يُغْسَل من أعضاء الجسم فى آخر الوضوء هو الرِّجْلان إلى الكعبين، بينما الذى يحدث فى الواقع هو غسل المشطين إلى الكعبين، وهو خطأ فى زعمه، إذ الرِّجْل عنده إنما هى الساق والفخذ. وهذا كلام فى منتهى الخطورة، فتهمة الكذب والجهل فيه موجهة، فى الحقيقة، لا إلى مدرسى الفقه، بل إلى الرسول والقرآن. ترى من أين أتى مدرسو الفقه بتفسيرهم هذا؟ أليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذن فلو كان هناك كذب وجهل لكان مصدرهما هو الرسول، الذى لم يشأ صاحبنا أن يتهمه اتهاما مباشرا، بل آثر أن يلدغ لدغته السامة على نحو خبيث خفى، فلا يمكن المشاهد اكتشافها إلا فيما بعد عندما يبدأ ذهنه بالعمل، ويكون سعادة الأستاذ قد فَطَّ راجعا إلى لندن! نفس الطريقة الخبيثة التى تحدث عنها أخ له من قبل فى مصر قائلا إن أسلوبه (يقصد أسلوبه فى الكيد للإسلام) هو: اضرب، واهرب قبل أن يتمكنوا من الإمساك بك!

والواقع أن الكذب والجهل إنما هما نصيب من يتهم الرسول والقرآن بهما، فـمعروف أن أول معنى من معانى "الرِّجْل" فى اللغة هو "القدم". وهذا واضح من قولنا: فلان راجل، أو ماشٍ على رجليه، أو مترجِّل عن دابته. ومنه قول القرآن فى الآية الخامسة والأربعين من سورة "النور": "والله خلق كل دابّة من ماء: فمنهم من يمشى على بطنه، ومنهم من يمشى على رِجْلَيْن، ومنهم من يمشى على أربع"، وقوله فى الآية المائة والخامسة والتسعين من سورة "الأعراف": "ألهم أرجلٌ يمشون بها؟". ومنه أيضا قوله عز شانه: " َلأُقَطِّعَنَّ أيديكم وأرجُلكم من خِلاف" (الأعراف/ 124، والشعراء/ 49)، وقوله جل جلاله: "يومَ يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (العنكبوت/ 55)، وقوله سبحانه لعبده داود: "اركض برِجْلِك" (ص/ 42)... إلخ. أم ترى الفلحاس يفهم من تلك العبارات أنهم يمشون على أفخاذهم  وسيقانهم أو أن العذاب سوف يأتيهم من تحت أفخاذهم وسيقانهم أو أن داود عليه السلام كان يركض على فخذيه وساقيه؟ إن مصير من يفهم مثل هذا الفهم لمعروف، ألا وهو أخذه إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية! وعلى هذا فلا كذب ولا جهل إلا عند الشتّام الهجّام بلا وازع أو لجام! وحتى لو أدخلنا فى معنى "الرِّجْل" الفخذ والساق ، فالمفهوم أن تكون بداية الرِّجْل من القدم لا من الساق أو الفخذ، إذ القدم هى الجزء المنفصل من الرِّجْل، أما الساق والفخذ فهما متصلان بغيرهماـ وعلى ذلك فعندما يقول القرآن: "وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" فليس لذلك من معنى فى حالة الوضوء إلا غسل القدمين من أسفلهما صعودا إلى الكعبين، وإلا فهل يريد حضرته منا، إذا ما أردنا أن نتوضأ ونغسل أرجلنا فى المسجد، أن نخلع سراويلاتنا وتبابيننا ونكشف عن سوآتنا على ملإ من الناس أجمعين؟ وهل تراه هو يفعل ذلك، أقصد: هل كان يفعل ذلك أيام أن كان يصلى ويتوضأ؟ انظروا إلى هذا التنطع الثقيل الظل والروح لتعرفوا إلى أى مدى يتساخف تلامذة الاستعمار والمستشرقين والمبشرين فى حربهم للإسلام!

وكان الرجل قد أتى للحلقة ليدعو بما يدعو به الأمريكان من وجوب حذف النصوص القرآنية والحديثية التى تحض  على الجهاد فى سبيل الله أو تصف من لا يؤمن بمحمد والقرآن بالكفر، من المقررات الدراسية. ومن الواضح أنه، فى النقاش الذى دار بينه وبين د. فيصل القاسم قبل بدء الحلقة، قد أعلن عن نفسه وأهدافه بكل وضوح، أما على الهواء وأمام الجمهور فكان يلف ويدور، ولكن عَلَى من؟ عَلَى بابا؟ لقد كانت اللعبة مكشوفة تماما رغم الزعم الكاذب بأنه لا يريد حذف هذه النصوص، بل مجرد تأجيلها لمرحلة لاحقة. إلا أن هذه البهلوانيات اللفظية والفكرية لم تستطع أن تخفى سوأة نياته وأهدافه، إذ لما سئل: ومتى يمكن للتلاميذ أن يتعلموا هذه النصوص؟ كان جوابه أن قراءتها لا بد أن تقتصر على المتخصصين لا تعدوهم. أى أنه لن يقرأ هذه النصوصَ إلا المشايخ الكبار، ولا سبيل إلى وضعها بين أيدى غيرهم بأية حال، وهو ما يعنى أنها ستتحول إلى نصوص ميتة لا غناء فيها، اللهم إلا لمن يريد أن يبلّها ويتناولها على الرِّيق فتطرد البلغم من صدره، والديدان من أمعائه، وتحمِّر خدوده، وتبرم كعوبه! وسلِّم لى على الجهاد والعزة والكرامة يا أبو كرامة! أما أنتِ يا أمريكا فقد "خلا لك الجوّ، فبِيضِى واصْفِرى، ونقِّرى ما شئت أن تنقِّرى". نعم خلا لك المجال الجوى فى بلاد المسلمين فطِيِرى بطائراتك وأطلقى صواريخك فيه وامرحى على راحتك تماما، واصفرى بقنابلك التى تدمر البيوت على رؤوس من فيها من المساكين الوادعين الذين لم يدوسوا لك على طرَف، وانقرى عيونهم وابقرى بطونهم ولا تأخذك بأحد منهم رحمة، فهم أولاد كلب وخنازير لا يستحقون مصيرا أفضل بل أسوأ من مصير الهنود الحمر! أليسوا أبناء محمد؟ أليسوا قد تخرجوا من مدرسة القرآن؟ اضربى يا أمريكا بكل ما عندك من وحشية وجبروت، فالفرصة الآن سانحة كما لم تسنح لك من قبل، فها هو فريق من أبناء المسلمين أنفسهم ينصرك على بنى قومه، ويمدك بما تريدين أن تعرفيه من أخبارهم، وينشر بينهم التخذيل والإحباط والتيئيس وروح الهزيمة والتشكيك فى القرآن والحديث ونبوة محمد وحضارة العرب والإسلام، ويقوم بدلا منك بالمهام القذرة. ترى ماذا تريدين أفضل من هذا؟ اضربى! اضربى الرجال والنساء والأطفال والبيوت والمدارس والمستشفيات والمصانع والمتاحف والمساجد والمخابئ والحقول والجسور والمطارات والسيارات... اضربى بكل قسوةٍ هؤلاء البهائم الذين لا يفهمون ولا يتحضرون ولا يريدون أن يسلّموا لك رقابهم طواعية كى تجزريهم وتمصمصى عظامهم براحتك دون أن يعكّر عليك الجَزْرَ والمصمصمةَ مجاهدٌ منهم لئيمٌ أو عالـمٌ زنيم. ثم ما هذه السحنة العابسة المكرمشة التى يطالعك بها أمثالُ الشيخ إبراهيم الخولى؟ وما هذه اللغة الأزهرية التى أكل عليها الدهر وشرب؟ لماذا لا يتقمَّع ويتقمَّش ويتحذلق  بمصطلحاتك الفارغة من المضمون والتى تخترعينها وتغادين بها الدنيا صباح مساء لتبرجلى بها عقول المتخلفين ويبتسم تلك الابتسامات اللزجة السخيفة التى يبتسمها المستر شرف والمسيو أركون؟ لا، لا. اقتلوه هو وأمثاله يَخْلُ لكم وجه الدنيا وبترولها وكل لذائذها. لقد فعلتموها بكل نجاح واقتدار مرة من قبل مع الهنود الحمر، وفعلها الإسبان مع أجدادهم فى الأندلس، وها هى ذى الفرصة مواتية الآن تمام المواتاة لكى تفعلوها كرة أخرى، فهيا هيا يا أبناء العم سام يا سادة العالم، وأَرُوا هؤلاء البهائم النجوم فى عز الظهر الأحمر! ثم لا تنسَوْا فى ذات الوقت أن تتهموا أولئك الجواميس والأبقار بالإرهاب. قولوا لهم: أنتم قتلة! أنتم لا تحترمون إنسانية الآخر. أنتم ما تزالون تؤمنون بدينكم، وهذا يزعجنا وينغص علينا بالنا، أفلا تفهمون؟ إننا سادة العالم، ولا نريد لأحد أن يفتح فمه أمامنا بكلمة. وأنتم لا تكفون عن الكلام، فليس لكم عندنا إلا الإبادة. إننا نعرف أن كثرة كلامكم ليست إلا مظهرا من مظاهر عجزكم عن الدفاع عن أنفسكم فى مواجهتنا، لكننا لا نريد منكم ولا حتى الكلام لأنه مزعج لراحتنا وآذاننا.

وبالمناسبة فهذه الدعوة إلى حذف بعض النصوص القرآنية التى تزعج اللصوص والقتلة الدوليين المتخصصين فى سرقة الأوطان من شعوبها وإبادة أهليها ليست وليدة اليوم، ولا هذه الجهود الوقحة الآثمة الكافرة لوضع هذه الدعوة الإجرامية موضع التنفيذ هى بنت اللحظة الراهنة، بل قامت الجهات الصهيونية والصليبية العالمية من قبل فى الستينات من القرن الماضى بتحريفات فى مائة ألف نسخة من المصحف الشريف وزعها الأوغاد فى بعض جهات إفريقيا وآسيا بلغت المئات حذفوا فيها حروف النفى من مثل قوله تعالى: "وقالت اليهود: ليست النصارى على شىء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شىء" (البقرة/ 113)، وقوله تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبَل منه" (آل عمران/ 85)، بل إنهم حذفوا نصوصا أخرى كاملة من المصاحف التى وزعوها فى أرض فلسطين المباركة مثل قوله سبحانه: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يُخْرِجوكم من دياركم أن تَبَرّوهم وتُقْسِطوا إليهم. إن الله يحب المُقْسِطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تَوَلَّوْهم, ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون" (الممتحنة/ 8-  9). ويعلق د.لبيب السعيد على هذا الإجرام والكفر قائلا إن الهدف من وراء ذلك "هو صرف الأنظار عن جرائم إسرائيل التى ارتكبتها فى حق العرب وإخراجهم من ديارهم" (انظر كتابه "الجمع الصوتى الأول للقرآن أو المصحف المرتل"/ ط2/ دار المعارف/ 372). وهؤلاء المجرمون، إذ يفعلون هذا، إنما يجرون على سنة التحريف التى جَرَوْا عليها فى كتبهم من قديم، فهم لا يأتون شيئا غريبا عن طبائعهم. وهذا يعطينا فكرة عما جُبِلوا عليه من دناءة وخسة لا تليق بمن يزعمون أنهم يريدون تحضرنا وتقدمنا، فهذه الأساليب ليست أساليب الأطهار الشرفاء، ولا هى تلائم التحضر والتقدم فى شىء.

كذلك انبرى د.محمد ياسر شرف هو ومعضِّداه اللذان دخلا على الخط من أوربا فى فاصل من الحِنِّيّة والعطف والتباكى على أهل الكتاب المساكين الملائكة الطيبين الذين كتب عليهم حظهم التعيس أن يعيشوا فى بلاد الإسلام، متهمين المسلمين بأنهم ينفون الآخر ولا يعترفون بحقه فى الاعتقاد على النحو الذى يريد! ولو أن الكلام اقتصر على هذا السخف لهان الأمر ولما بالينا بالرد عليه، فالمسلمون الآن لا يستطيعون أن يقتلوا ذبابة، والأقليات فى بلادهم هى أعز الأقليات فى العالم جانبا هم ودور عبادتهم وأوقافهم ورجال دينهم، بل هى فى بعض الأحيان أعز منهم هم أنفسهم. لكن الطامة العظمى أن المتكلمين قد اندفعوا فى معزوفة من المغالطات الوقحة والاتهامات الحقيرة الموجهة إلى الرسول الكريم والقرآن العظيم الذى جاء به بما لا يمكن أن يكون له من معنى إلا أن محمدا هو مؤلف القرآن وأنه كان شخصا ميكيافيليا فى أخلاقه وسياسته، جريئا على تطويع النصوص والتلاعب بها حسبما يحلو له بما يخدم مصلحته ويتناقض مع كل قيمة أخلاقية كريمة دون أن يَزَعه عن ذلك وازع! كيف ذلك؟

لقد ادعَوْا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أثنى على أهل الكتاب فى مكة حين كانت العلاقة بين الفريقين صافية لم تتكدر كما تكدرت لاحقا فى المدينة بعد مهاجَره عليه السلام إليها واحتكاكه باليهود ثم النصارى من بعدهم واشتعال الخلافات والمعارك بينه وبينهم مما كان من نتيجته توالى الآيات التى تلعنهم وتكفّرهم، ناسيا أنه كثيرا ما شهد لهم بالإيمان فى قرآنه أيام مكة قبل أن تتوتر بينهما الأمور. وهو بعينه ما يقوله المستشرقون والمبشرون، أى أن أصحابنا لم يأتوا بشىء من عندهم. وهو كلام قديم لا يكف الدارسون الغربيون عن لَوْكه فى تنطع وسخف ما بعده سخف رغم معرفتهم التامة أنهم يكذبون. وهذا مثل دعوى بوش وبلير بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل رغم معرفتهما التامة أن ذلك كذبٌ أبلق، لكن الهدف البعيد يستحق أن ترتكب أمريكا وبريطانيا له الكذب والقتل والتدمير للعراق وأهل العراق وحضارة العراق، مع تشغيل الإسطوانة المشروخة بأنهم إنما جاؤوا للعراق ليعيدوا إعماره وينشروا فيه الديموقراطية! ومن الطبيعى أن إعادة الإعمار تستلزم أن يكون هناك خراب، ولما لم يكن العراق على أيام صدام خربا كان لا بد من نشر الخراب والدمار فيه حتى يمكن أن يكون هناك إعمار. كذلك فالعراقيون الحاليّون غير مستعدين للديمقراطية، أو لا يستحقونها بالأحرى، ومن ثم  فلا بد أيضا من استئصالهم وإفساح الطريق أمام جيل جديد يستطيع أن يتذوق الديمقراطية التى جلبتها له أمريكا: فهذا شىء لزوم الشىء!

والواقع أن فى كل من الآيات المكية والمدنية ثناءً على أهل الكتاب وتبشيرا لهم بحسن العاقبة، وتكفيرًا لهم كذلك ولعنًا، فليس الأمر إذن كما زعم أصحابنا كذبا ومَيْنا أن الساسة الميكيافيلية هى التى اقتضت أن يمدح محمد أهل الكتاب فى مكة، ثم ينقلب عليهم فيذمّهم فى المدينة! لكن يبقى هناك سؤال مهم، ألا وهو لماذا مدحهم القرآن أحيانا، وذمَّهم أحيانا أخرى؟ وجوابنا أن لكل فرد أو جماعة من البشر عدة جوانب بحيث يمكن أن نمدحهما باعتبار، ونعيبهما باعتبار آخر، وأهل الكتاب لبسوا بدعا بين البشر حتى يمكن استثناؤهم من ذلك. والقرآن حين يمدح أحدا من أهل الكتاب فإنه لا يمدحه بوصفه يهوديا أو نصرانيا بل بوصفه مسلما قد آمن بمحمد وانصاع للحق الذى جاء به، ولم يدفعه التعصب  الأعمى لما ألفى آباءه عليه إلى رفض الدعوة النبيلة العظيمة التى أتى بها الرسول من لدن رب العالمين. وسوف أجتزئ ببعض الآيات من كل من الوحى المكى والمدنى للتدليل على ما أقول حتى يسقط الهراء الباطل السفيه الذى يصدّعنا به الباحثون ورجال الدين الغربيون ومن جرى فى ركابهم وتعلق بأذيالهم من بيننا.

لقد ادعى أصحابنا الثلاثة، كما رأينا، أن القرآن الذى نزل بمكة لا يذكر أهل الكتاب إلا بخير، فما رأيهم فى النصوص المكية التالية التى تحمل عليهم حملة شديدة وتدمغهم بأحكام عنيفة؟ قال تعالى: "ومِنَ الذين هادوا حرَّمْنا كل ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمْنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم. ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون" (الأنعام/ 146). وفى سورة "الأعراف" التالية لسورتنا هذه يحكى القرآن الكريم فى آيات بعد آياتٍ قصة موسى مع بنى إسرائيل، فلم يترك مثلبة إلا ودمدم بها على رؤوسهم ولعنهم وتوعدهم بمصيرٍ فظيعٍ جرّاءَ عنادهم وكفرهم بنبيهم وكتابهم وعصيانهم لربهم وصلابة رقابهم وعقولهم وقلوبهم مما يجده القارئ بدءا من الآية 138 حتى الآية 178، ومثله موجود فى سورة "طه". فما القول فى هذا أيضا؟ كما نجد فى أوائل سورة "الإسراء" نبوءة خاصة بالإفسادين اللذين سيرتكبهما بنو إسرائيل والتأديب الذى قدّره الله عليهم جزاء لهم على الإفساد الأول منهما... إلخ. فما القول فى هذا أيضا؟ كذلك نسمع فى ختام صدر سورة "مريم" حملة على ما انحرف إليه بعض أتباع عيسى من عبادتهم له عليه السلام وُصِفوا أثناءها بالكفر فى عبارة صريحة لا تحتمل لبسا ولا تأويلا: "ذلك عيسى بن مريم قولَ الحق الذى فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ مِنْ وَلَد. سبحانه! إذا قضى أمرا فإنما يقول له: كن، فيكون* وإن الله ربى وربكم، فاعبدوه. هذا صراطٌ مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم، فويلٌ للذين كفروا من مشهد يوم عظيم"، ومثله موجود فى سورة "الزخرف". فما القول فى هذا أيضا؟ بل إن المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة وجدوا أنفسهم، بسبب من هذه الآيات، فى حَرَجٍ أمام النجاشى وحاشيته وبطارقته عندما سُئِلوا، بتحريض من رسولَىْ قريش اللذين لحقا بهم ليؤلبا عليهم الملك ورجاله، عن حقيقة اعتقادهم فى المسيح، لكنهم رضى الله عنهم لم يداهنوا فى دينهم وقرأوا الآيات متوكلين على الله، فلم يخذلهم بل حنَّن عليهم قلب الملك الطيب الذى استطاع بنبل بصيرته أن يرى  عظمة دين محمد والذى أرجع الرسولين القرشيين بخُفَّىْ حُنَيْن!

هذا فى جانب الذم، أما فى جانب المدح فإلى القارئ هذه الشواهد التى يمكنه أن يقيس عليها ما لم نذكره. قال سبحانه: "والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنْزِل إليك" (الرعد/ 36). فما القول فى هذا؟ وقال أيضا عز شأنه: "وقرآنا فرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْث، ونَزَّلناه تنزيلا* قل: آمِنوا به أو لا تؤمنوا. إن الذين أُوتُوا العلم من قبله إذا يُتْلَى عليهم يخِرّون للأذقان سُجَّدا ويقولون: سبحان ربنا! إنْ كان وعد ربنا لَمفعولا* ويخِرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا" (الإسراء/ 106- 109). فما القول فى هذا أيضا؟ وقال جل جلاله: " ولقد وصَّلْنا لهم القولَ لعلهم يتذكرون* الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون* وإذا يُتْلَى عليهم قالوا: آمنّابه. إنه الحق من ربنا. إنا كنا من قبله مسلمين" (القَصَص/ 51- 53). فما القول فى هذا أيضا؟

ومثل هذا فى المعنى والتفسير ما نجده من ثناء على بعض أهل الكتاب فى الوحى المدنى من مثل قوله جل جلاله: "وإِنّ مِنْ أهل الكتاب لمََنْ يؤمن بالله وما أُنْزِل إليكم وما أُنْزِل إليهم خاشعين لله، لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا. أولئك لهم أجرهم عند ربهم" (آل عمران/ 199). فما القول فى هذا؟ ولقد استشهد د.شاكر النابلسى (أحدُ من اتصلوا بالبرنامج لمناصرة د.محمد ياسر شرف،) بالآية 114 من سورة "آل عمران" زاعما أنها تمدح أهل الكتاب وتصفهم بأنهم "يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف ويَنْهَوْن عن المنكر"، مع أن الآية السابقة عليها مباشرة تنص نَصًّا على أن الكلام إنما يدور على طائفة منهم فقط لا عليهم كلهم، قائلة عن أفراد هذه الطائفة إنهم "يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون"، بما يعنى أنهم كانوا قد آمنوا بالقرآن وباتوا ليلهم يتلون آيات الكتاب الذى نزل على محمد، ويسجدون لربّ محمد سبحانه وتعالى، فضلا عن أن وصفهم بالإيمان بالله واليوم الآخر لا يدل إلا على شىء واحد لا غير، ألا وهو الإيمان بمحمد ودينه وكتابه، إذ إن رفض الإيمان ولو بنبىٍّ واحد معناه الكفر بالله واستحقاق العذاب المهين حسبما وضحتْ لنا الآيات 150- 152 من سورة "النساء"، كما أن من شروط الإيمان بالآخرة الإيمان بالقرآن كما جاء فى الآية 92 من سورة "الأنعام".

ويلاحظ القارئ أن د.النابلسى قد مزَّق آية "آل عمران" عن أختها السابقة عليها التى تشير إلى أن أهل الكتاب الذين تمدحهم إنما هم الذين دخلوا فى الإسلام وصاروا من أتباع محمد عليه السلام، وكانوا يقضون ليلهم فى تلاوة كتاب الله. وهذا التمزيق هو شِنْشِنَةٌ معروفة عند كل من يحاربون القرآن استغفالاً منهم للمستمع الذى لا يكون عنده فى مثل هذه الظروف من الوقت ولا من فراغ البال ما يساعده على التنبه لهذا التزوير الجلف! ود.النابلسى، لمن لا يعرف، هو كاتب أردنى مقيم بأمريكا ويناصر ما تفعله أمريكا بالعراق من قتل وتدمير للبيوت والمتاحف والجسور والشوارع، واغتصاب للحرائر وتلطيخ للرجال بالخراء وإجبارهم على أن يفعل الأب منهم بأولاده والأولاد بأبيهم الفاحشة وغير ذلك من بشاعات وفظائع مما انكشف أمره من أهوال سجن أبو غريب، وسرقةٍ لنفط العراق وتهديدٍ لسائر الدول والشعوب العربية بنفس مصير العراق، زاعما أن هذا الإجرام البربرى الوحشى الذى لا يدع شيئا إنسانيا أو حضاريا إلا دمره كما كان يفعل المغول قديما، ليس احتلالا ولا استغلالا، وأن الذين يقولون بغير ذلك إنما هم متشنجون عُمْىٌ لا يستطيعون أن يبصروا الأمل الذى جاءت جيوش الاحتلال الأمريكى المجرم لتحقيقه! ويمكن الرجوع فى ذلك لما كتبه هو نفسه فى مقاله المنشور بالصفحة السادسة عشرة من جريدة "الراية" القطرية يوم الثلاثاء 12 أكتوبر 200 م عن الإرهاب بالعراق. يقصد الكفاح المقدس ضد قوات الشيطان الأمريكى المجرم فى ذلك البلد العزيز. وهو يعزو هذا الإرهاب إلى عدة عوامل على رأسها ما يسميه: "أنظمة التعليم الدينى" فى بلادنا! وعلى نفس الوتيرة يشن هذا الرجل (الذى قرأت أنه فلسطينى يتنكر لأصله) على الكفاح البطولى العظيم لأهل فلسطين هجوما ناريًّا حاقدا متهما العمليات الاستشهادية بأنها انتحار لا معنى ولا موضع له فى حياتنا السياسية المعاصرة، ومدافعا عن إسرائيل وأمريكا فيما تفعلانه بحجة أنهما تعتمدان على الشرعية الدولية، إذ إن قيام إسرائيل على أرض فلسطين يمثل فى نظره تلك الشرعية الدولية، وعلى العرب والمسلمين والفلسطينيين أن يخرسوا فلا يفتحوا أفواههم بكلمة (صحيفة "العراق الجديد" الألكترونية/ 16أكتوبر 2004م بعنوان "هل حقا أن القرضاوى يعتبر داعية وسطيا معتدلا؟"). وهو يرى فى مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذى تدعو إليه أمريكا هذه الأيام ، والذى يهدف إلى تركيع العرب والمسلمين للهيمنة الأمريكية والصهيونية، هِبَةً ثمينة يريد العم سام (عليه السَّام، والموت الزُّؤَام) أن ينشر من خلالها الديمقراطية والحكم الصالح وبناء المحتمع المعرفى. بل لقدوصف أمريكا بأنها رَبَّة هذا الكون، أى هى المسؤولة عن مصلحته، ومن حقها إذن أن تتدخل فى شؤون الدول لتعديل المعوج من أوضاعها بغية القضاء على الإرهاب العالمى (حلقة "الاتجاه المعاكس"بتاريخ الثلاثاء 16/ 3/ 2004م). وفى موضع آخر نراه  يكتب مؤكدا بكل قوة أن الدولة التى أقامها الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدون لا تصلح لنا الآن لتخلفها عن الآماد التى بلغها تقدم الدولة الحديثة. وهذا الكلام موجود فى جريدة "الحوار المتمدن" اليسارية الألكترونية فى عددها رقم 981 الصادر فى 9/ 10/ 2004م تحت عنوان "الإجابة على سؤال: لماذا دولة الرسول والخلفاء الراشدين لا تصلح لنا الآن ؟". وبالمثل نجده يتغنى بخلال ملك الأردن الرفيعة التى لا يستطيع شعبه المتخلف أن يجاريه فيها (نفس المصدر/ العدد 911/ 31 أغسطس 2004م)، كما لا يعجبه من مشايخ الأزهر على بكرة أبيهم إلا د.محمد سيد طنطاوى، الذى يجلّه غاية الإجلال ويراه المنفتح الوحيد بينهم (نفس المصدر/ العدد971/ 29 سبتمبر 2004م). أرأيت، أيها القارئ الكريم، السر وراء تشنج هذا الفريق كى يشطبوا، من المناهج الدراسية فى أوطان الإسلام، الآيات القرآنية والأحاديث المصطفوية التى تحض المسلمين على المناضلة من أجل عزة دينهم وأوطانهم وأنفسهم؟ إنها "ماما أمريكا" الحنون دائما وأبدا والتى أخذت فى أحضانها الدافئة كاتبنا الفلسطينى بعد الهجرة إليها من السعودية، التى كانت أما حنونا أيضا أيام الاتجاه الفكرى الأول، ولكن "كان زمان" كما تقول كوكب الشرق!

والعجيب الغريب أن د.النابلسى كان من أعنف المهاجمين للحضارة الغربية التى كان يتهمها بأنها حضارة مادية بحتة، على عكس الإسلام الذى يجمع بين المادى والروحى معا، ومن المنتقدين بقوة للنظام السياسى الغربى متهما إياه بالنفاق واللاإنسانية وازدواج المعايير حتى إنه ليفضل الديكتاتورية التى تنتهجها دول الكتلة الشرقية على الديمقراطية الرأسمالية لصراحتها فى رفض الديموقراطية وعدم التشدق الكاذب بها، كما كان من أشد المتحمسين للإسلام حضارةً وديمقراطيةً وعدالةً اجتماعية، مؤكدا أن الغرب قد أفاد من هذا الدين أعظم إفادةـ، وأن التنمية القائمة على أساس من مبادئ الإسلام خير من نظيرتها الغربية التى  تفتقر إلى العنصر الإنسانى، وهو ما تجلى فيما حققته السعودية فى هذا المجال حيث استطاعت أن تختزل مراحل التنمية المتعددة التى كان على الغرب أن يمر بها كلها، وأن سياسة أمريكا الخارجية تقوم على "الظلم والقهر والاستبداد والحمق"، وأن إسرائيل هى جزء لا يتجزأ من نظامها السياسى، بل ولاية من الولايات الأمريكية، وليست مجرد دولة حليفة لها، وأن الشارع العربى يكره أمريكا إدارةً ودولةً وسياسةً ومنهاجًا، وأن شعوب العرب إذا كانت صابرة الآن عليها وعلى ما تفعله بها صبر أيوب فإن ذلك لا يمكن أن يظل قائما إلى الأبد، إذ لا بد يوما أن تثور على الذين أذاقوها كؤوس المذلة والهوان وسلطوا عليها أشقياء الأرض والعابثين فيها، وأنه لا مصداقية للعم سام فى إقامة الحق والعدل والسلام فى منطقتنا! وهو يدعو بكل قوة إلى عدم مهادنة إسرائيل والاستمرار فى حمل البندقية لإرهاقها واستنزافها، معطيا القضية الفلسطينية بعدها الدينى الذى يرى أنه لا يحتمل أى جدال أو تهوين، ومناديا بخروج اليهود من أرض فلسطين التى قدستها السماء إلى أرض الشتات التى جاؤوا منها، وموصيا أمته بالصبر والنفس الطويل، ومحذرا إياها من أن تصير إلى ما صار إليه الهنود الحمر على يد أمريكا، ومعضدا رأى من ينادون بضرورة قيام الوحدة بين الشعوب العربية على أساس إسلامى مستمد من الكتاب والسنة! بل إنه ليصف اللغة العربية بـ"المقدسة"، كما يهاجم عادل إمام هجوما أخلاقيا عنيفا متهما إياه بأنه، بأفلامه التافهة، مسؤول عن إفساد الأجيال الحالية، ومؤكدا أن المال الذى يكسبه من هذه الأفلام هو مال حرام! ويستطيع القارئ أن يرى مصداق ما نقوله فى كتبه: "الزمن المالح" و"محاولة للخروج من اللون الأبيض" و"قطار التسوية والبحث عن المحطة الأخيرة" مثلا التى صدرت له عام 1986م  عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" فى بيروت. فما عدا مما بدا؟ هذه مسألة تحتاج إلى من يدرسها ليعرف الأسباب التى أدت إلى هذا التحول المريب فى حياة الرجل الذى سمعناه يصرخ فى حلقة برنامج "الاتجاه المعاكس" المذكورة متهمًا القرآن بالتناقض، زاعما أن التشريعات التى يتضمنها إنما هى أمور خاصة بمحمد وزوجاته ذات طبيعة آنية، ومن ثم لا تصلح لأن تكون تشريعات دائمة لأمة الإسلام! 

وعودًا إلى ماكنا فيه نقول إنه حتى آيات سورة "المائدة" الخاصة بالنصارى والتى كثيرا ما يساء تفسيرها عمدا وخبثا أحيانًا، وعن سذاجة من جانب بعض المسلمين الذين لا يفهمون أحيانًا أخرى، هذه الآيات لا تمدح ذلك الفريق من أهل الكتاب بوصفه من أتباع النصرانية التى تسفِّهها كثير من الآيات السابقة عليها بدءا من الآية الرابعة عشرة، بل تمدحه لمسارعته للإيمان بالرسول محمد والآيات التى أنْزِلت عليه، ولخشوع قلبه وفيضان دمعه من شدة الوجد والتأثر بكلمات القرآن المجيد! والآيات موجودة لمن يريد أن يقرأها مفتوح العينين والقلب، وأرقامها هى 82- 86. وتبقى النصوص المدنية التى تحمل على أهل الكتاب، وهذه لا تمثل أية مشكلة، ومن ثم فلست أجد أى داع لإيراد شىء منها.

والآن، هل تشكِّل هذه الآياتُ التى تصم هؤلاء القوم بالكفر عدوانا على حقوق الإنسان؟ أبدا لا تمثل شيئا من هذا القبيل على الإطلاق، فكل أهل دين ومذهب وفلسفة ونظام، سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا، يعتقدون أنهم على الحق، وغيرهم على الباطل. وإن أمريكا نفسها التى برعت فى الآونة الأخيرة فى رفع هذه اللافتات والشعارات لتردد جهارا نهارا أن نظامها السياسى وقيمها الاجتماعية وفلسفتها الاقتصادية هى المثال الأعلى الذى يجب على البشر جميعا، شاؤوا أم أبَوْا، أن يعتنقوه، وهاهى قد أتت للعراق لكى تسقيه لنا، لا بالملعقة الصينى التى كان يُضْرَب بها المثل قديما على الترف والدلال، بل بالملعقة الأمريكانى، أقصد بالجزمة الأمريكانى التى لا توقِّر شيئا ولا أحدا فى الدنيا مهما كان قدره! بل إن مسؤوليها ليتسابقون إلى شتم ديننا ورسولنا وربنا، فإذا ما اعترض بعضنا ممن لا يفقهون قيل لهم: هذه حرية تفكير وتعبير! طيب يا أخى، نحن أيضا نحب عيشة الحرية كما عبّر بالنيابة عنا منذ عشرات السنين موسيقار الأجيال! أليس كذلك؟ بلى هو كذلك ونصف وثلاثة أرباع، لكننا قد نسينا شيئًا مهمًّا جدًّا، وهو أننا لسنا أمريكيين، وهنا مربط الفرس (أو الحمار، لا فرق)، وطُظّ فينا وفى موسيقار الأجيال وكل الملحنين والمطربين معه أيضا فوق البيعة! إذن فليس فى الاعتقاد بأننى ناج يوم القيامة، ومن يخالفنى ذاهب فى ستين داهية، ما يمكن أن يكون افتئاتا على أحد، وبالمناسبة فهذا الآخر يعتقد بدوره فِىَّ ما أعتقده فيه. كل ما هو مطلوب ألا يكون مثل هذا الاعتقاد سببا فى عدوان أى منا على الآخر، سواء بالقول أو بالعمل. والمسلمون لا يقولون: "شَكَل للبيع"، فهم يقرأون قرآنهم لأنفسهم، ولا يجبهون به غيرهم. أما إذا آذاهم هذا الغير فى دينهم ولم يحترم رسولهم أو كتابهم فإنهم لا يملكون إلا الرد على هذا التهجم، ولا معنى فى هذه الحالة لاعتبارات المجاملة الزائفة التى تكبلّهم وتذلّهم وتحرّم عليهم أن يدفعوا عن أنفسهم صائلة العدوان. فهل فى الإسلام ما يتعارض  مع هذا الكلام المنطقى الإنسانى؟ ولا شَرْوَى نقير! إن الإسلام يحرِّم على أتباعه تحريما قاطعا أن يبدأوا أحدا بالعدوان مهما كانت كراهيتهم له (المائدة/ 8)، بل إنه ليمنعهم حتى من سب الأوثان كيلا يكون ذلك سبيلا إلى سب الذات الإلهية واندلاع الفتنة من ثم، منبِّها المسلمين إلى أن كل قوم يَرَوْن دينهم أحسن الأديان (الأنعام/ 108).فأى خطإٍ فى هذا يا خَلْق هُوه؟ إننا لا نستطيع أن نتناول موسى أو المسيح وأمه عليهم جميعا السلام بكلمة سوء واحدة، على حين أن اليهود والنصارى لا يكفّون عن شتم سيد البشر والنبيين واتهامه بكل منقصة. ومع هذا يُتَّهم المسلمون، ويتظاهر غيرهم بأنهم حملان وديعة. أرأيتم خبثا وكيدا ولؤما كهذا اللؤم والكيد والخبث؟ على أية حال فالسبيل إلى إزالة هذا الخلاف هو أن يحتذى الطرفان الآخران ما يفعله المسلمون، فيكفّوا عن الشتائم البذيئة فى حق الرسول الكريم وقرآنه وأتباعه، ويدخلوا فى الإيمان به مثلما يؤمن المسلمون بموسى وعيسى ومريم ويدفعون عنهم قالات السوء التى يروجها عنهم سفلة البشر، أو على الأقل أن ينصرفوا إلى دينهم يمارسونه كما يحلو لهم دون أن يتطاولوا على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. ترى هل فى ذلك شىء من الغموض أو الافتئات على أحد؟