دلالة الجمع السالم على القلة والتكسير على الكثرة
دلالة الجمع السالم على القلة والتكسير على الكثرة
د. محمد فاضل السّامرائي
من المعروف في اللغة العربية أنه قد تكون للكلمة الواحدة أكثر من جمع، فتجمع مرة جمع مذكر ومرة أخرى جمع تكسير، نحو كلمة (نبي) التي تجمع على نبيين وأنبياء. وقد تجمع الكلمة جمع مؤنث سالمًا تارة، وتارة أخرى جمع تكسير نحو كلمة (سنبلة) التي تجمع على سنبلات وسنابل.
وقد جاءت هذه الصور من الجموع في القرآن الكريم، فنرى أن الكلمة الواحدة قد اختلفت في جموعها. فكلمة (خطيئة) ـ مثلاً ـ جمعت على خطيئات وخطايا، وكلمة (نبي) جمعت على أنبياء ونبيين... وهكذا.
فمن الآيات التي وردت فيها مفردات جمعت في موطن جمع مؤنث وفي موطن آخر جمع تكسير قوله تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة58].
وقوله في موطن آخر مخبرًا عنهم أيضًا: ) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف161].
على الرغم من أن الخطاب في الموطنين لبني إسرائيل قال في الآية الأولى: (خطاياكم) وفي الآية الثانية (خطيئاتكم) فما سبب هذا التخصيص؟
يقول النحاة إن الجمع السالم بنوعيه يفيد القلة ( أي: من الثلاثة إلى العشرة) وجمع التكسير يفيد الكثرة (أي: فوق العشرة) ومعنى هذا أن كلمة (خطيئة) جمعت في آية البقرة جمع تكسير الذي يفيد الكثرة، وفي آية الأعراف جمع مؤنث الذي يفيد القلة.
يرى العلماء أن سبب التخصيص هو أن آية البقرة جاءت في مقام تعداد النعم والآلاء على بني إسرائيل، فجاءت كلمة (خطايا) على جمع التكسير الذي يفيد الكثرة ليناسب ما قصد من تكثير الآلاء والنعم، بخلاف آية الأعراف فإنها لم تبنَ على تعداد النعم على بني إسرائيل كما بنيت عليه آية البقرة، فجاءت مجموعة جمع مؤنث الذي يفيد القلة.
ولتوضيح هذا الرأي أقول: إن آية البقرة جاءت في مقام تعداد النعم والآلاء على بني إسرائيل كما نرى ذلك في الآيات التي تكتنفها، قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ¯... وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ... ¯وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ¯ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ¯ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ¯ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ¯ ... وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ¯ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ¯ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ...¯ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ¯ ... وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة47 ـ 60].
نلاحظ أن آية البقرة في سياق تعداد النعم على بني إسرائيل وتكريمهم.فناسب هذا التكريم مجيء (خطايا) بصورة جمع التكسير ليبين لنا أن الله يغفر لهم خطاياهم مهما كثرت.
وهذا بخلاف آيات الأعراف فإن المقام فيها مقام تقريع وتأنيب، فإن بني إسرائيل قوم لا يتعظون. قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف138]. فإنهم من بعد ما أنجاهم الله من فرعون وأغرق فرعون وآله وهم ينظرون إليهم مروا على قوم يعبدون الأصنام فطلبوا من موسى أن يجعل لهم أصنامًا يعبدونها تأسيًا بهم.وعندما ذهب موسى لميقات ربه عبد قومه العجل، قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ) [الأعراف148]. ثم إنهم كانوا ينتهكون محارم الله، فقد حرم الله عليهم أن يصطادوا يوم السبت تعظيمًا لحرمته فانتهكوها وأخذوا يحتالون لاصطياد الحيتان في هذا اليوم، قال تعالى: (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف163].
فإنه لما كان المقام فيها مقام تقريع وتأنيب جاءت (خطيئة) مجموعة بالألف والتاء لتدل على القلة.
وهناك سبب آخر للتخصيص وهو أن الله تعالى أسند القول إلى نفسه في آية البقرة فناسب هذا الإسناد أن تأتي كلمة (خطيئة) مجموعة جمع تكسير ليدل هذا الجمع على أنه يغفر لهم خطاياهم مهما كانت كثيرة. بخلاف آية الأعراف فإنه لما لم يسند القول فيها إلى نفسه وإنما ذكر القول بالبناء للمجهول فقال: }وإذ قيل لهم{ أتى بجمع القلة فقال (خطيئات).
* * *
ومن الآيات التي تباينت مفرداتها في صيغ جموعها فجاءت مرة مجموعة جمع مذكر، ومرة أخرى مجموعة جمع تكسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [البقرة61]. وقوله: (ِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [آل عمران21]. فقد جمعت كلمة (نبي) جمع مذكر في هاتين الآيتين، في حين جمعت جمع تكسير في قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) [آل عمران112]. فما سبب هذا التخصيص؟
ذكرنا أن النحاة قالوا: إن الجمع السالم بنوعيه يفيد القلة وجمع التكسير يفيد الكثرة.وعلى هذا فإن جمع المذكر يفيد القلة.
ومعنى هذا أن كلمة (نبي) جمعت جمع قلة في آية البقرة والآية الأولى من آيتي آل عمران، في حين جمعت جمع كثرة في الآية الثانية من آيتي آل عمران.
وسبب ذلك أن موطن الذم والتشنيع على بني إسرائيل والعيب على فعلهم في آية آل عمران أكبر منه في آية البقرة. يدل على ذلك أمور منها: أنه في سورة البقرة جمع (الذلة والمسكنة) وأما في آية آل عمران فقد أكّد وكرّر وعمّم فقال: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ), فجعلها عامّة، ثم قال: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ). فأعاد الفعل وحرف الجر للزيادة في التوكيد، فإن قولك: (أنهاك عن الكبر وأنهاك عن الرياء) آكد من قولك: (أنهاك عن الكبر والرياء).
ثم إنه ذكر الجمع في آية البقرة بصورة القلّة فقال: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ). وذكره في آية آل عمران بصورة الكثرة فقال: (وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ). أي يقتلون العدد الكثير من الأنبياء بغير حق.فالتشنيع عليهم والعيب على فعلهم وذمهم في سورة آل عمران أشد.
وما ذكرنا في آية البقرة يمكن أن يقال في الآية الأولى من آيتي آل عمران.
* * *
ومن ذلك قوله تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة261], فقد جمعت (سنبلة) في هذه الآية على (سنابل), في حين جمعت جمع سلامة في قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) [يوسف43].
فأنت ترى أن العدد في الآيتين واحد هو سبع ، ولكن استعمل معه (سنبلات) مرة، ومرة أخرى (سنابل) وسر ذلك أن سنابل جمع كثرة وسنبلات جمع قلة، وقد سيقت الآية الأولى في مقام التكثير ومضاعفة الأجور فجيء بها على (سنابل) لبيان التكثير.
وأما قوله: (سَبْعَ سُنبُلاَتٍ), فجاء بها على لفظ القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير.