دلالة التذكير على القلة والتأنيث على الكثرة
دلالة التذكير على القلة والتأنيث على الكثرة
د. محمد فاضل السامرائي
يذكر النحاة أن التذكير يفيد القلة والتأنيث يفيد الكثرة وذلك في مواطن عدة كالضمير واسم الإشارة وغيرهما. فالضمير المؤنث قد يؤتى به للدلالة على الكثرة بخلاف الضمير المذكّر فقد يؤتى به للدلالة على القلة. قال تعالى: } وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ { [النحل66], وقال: } وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ % وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ { [المؤمنون21-22].
نلاحظ في هذين النصين أنه أضاف (البطون) إلى الضمير المذكر في آية النحل ، وإلى الضمير المؤنث في آية (المؤمنون) علمًا بأن الضمير في كلتا الآيتين عائد على الأنعام.
وسبب ذلك ـ والله أعلم ـ أن آية النحل على إسقاء اللبن من بطون الأنعام، واللبن لا يخرج من جميع الأنعام بل يخرج من قسم من الإناث، وأما في آية (المؤمنون) فالكلام على منافع الأنعام من لبن وغيره، فقد قال بعد قوله: } نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا {: } وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ {, وهذه المنافع تعمّ جميع الأنعام ذكورها وإناثها، صغارها وكبارها, فجاء بضمير القلة ـ وهو ضمير الذكور ـ للأنعام التي يستخلص منها اللبن وهي أقل من عموم الأنعام، وجاء بضمير الكثرة ـ وهو ضمير الإناث ـ لعموم الأنعام, فلما كانت الأنعام في الآية الثانية أكثر جاء بالضمير الدالّ على الكثرة.
وهذا في اسم الإشارة أيضًا، فقد يؤتى به مذكّرًا للدلالة على القلة، قال تعالى: } إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً { [الإسراء36], وذلك لقلتهنّ، وقال: } تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض ٍ{ [البقرة253], وذلك لكثرتهم والله أعلم. وقال الشاعر:
ذمَّ المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيـام
ومعنى البيت: ذمّ كل موضع تنزل فيه بعد موضع منزلة اللوى الذي لقيت فيه أنواع المسرة. وذمّ أيام الحياة التي تقضيها بعد هذه الأيام التي قضيتها هناك في هناءٍ وغبطةٍ.
ويبدو لي أنه أشار إلى الأيام التي قضاها في (منزلة اللوى) بأولئك وذلك لقلتهن، أو أن الشاعر يَرَاهُنّ كذلك.
وقد لاحظت في الاستعمال القرآني أنه إذا أشار إلى (أنباء الغيب) بـ(تلك) فإن الضمير يعود عليها بالتأنيث، ولعلّ في ذلك إشارة إلى كثرتها، وإذا أشار إليها بـ(ذلك) فإن الضمير يعود عليها بالتذكير، ولعلّ في ذلك إشارة إلى قلتها.
فمن الأول قوله تعالى: } تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْك { [هود49]، ومن الثاني قوله تعالى: } ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيك { [آل عمران44، يوسف102].
ومن ذلك تذكير الفعل وتأنيثه، فإن تذكير الفعل يدلّ على القلة بخلاف تأنيثه، فمن تذكير الفعل قوله تعالى: } وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ { [يوسف30], فذكّر الفعل لقلة النسوة، ومنه قوله تعالى: } فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُم { [التوبة5], ولم يقل (انسلخت) لقلتهن، ومن تأنيثه قوله تعالى: } قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا {[الحجرات14], فأنّث الفعل للدلالة على كثرتهم.
ومن ذلك قوله تعالى: } الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ { [آل عمران183], فقال: } قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ { بتذكير الفعل، وقال: } وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [الأعراف43], فأنّث الفعل.
والفرق واضح بين الأمرين، فإن الأولى خطاب لبني إسرائيل فقال لهم: } قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ {, والثانية في رسل الله جميعًا، لأن الكلام على لسان أهل الجنة في الآخرة، فالرسل في الآية الثانية أكثر عددًا ممّا في الآية الأولى فأنّث الفعل للكثرة وذكّره للقلة. وقال أيضًا: } هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ { [الأعراف53], وهذه الآية نظيرة الآية السابقة, فإن الكلام في الآخرة أيضًا, فأنّث الرسل للدلالة على الكثرة والله أعلم.
ومن ذلك قوله تعالى: } فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ { [آل عمران184], وقوله: } وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ { [فاطر4]. فإن سبب تذكير الفعل (كذّب) في آية آل عمران وتأنيثه في آية فاطر أن الفعل في آية آل عمران يدل على القلة بخلاف الفعل في آية فاطر، أي أن الرسل الذين كُذّبوا في آية آل عمران أقل من الرسل الذين كذّبوا في آية فاطر، وبيان ذلك أن الرسل الذين كُذّبوا في آية آل عمران قد خصّصوا بصفةٍ وهي قوله تعالى: } جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ { بخلاف آية فاطر فإنهم لم يخصّصوا بشيءٍ، والمعروف أن ما خُصّص أقل ممّا لم يخصّص والله أعلم.