أفكار في الإصلاح والتغيير(1)

أفكار في الإصلاح والتغيير ( 1 )

(فقهاء) لا (خطباء)...!!!

د.فواز القاسم / سورية

[email protected]

كثر الحديث في الآونة الأخيرة في الأوساط السياسية والثقافية عن الإصلاح والتغيير في عالمنا العربي والإسلامي ، فمنهم من يرى بأن الأوضاع العربية قد وصلت إلى درجة من التهرؤ بحيث لم يعد ينفع فيها الإصلاح ، بل لا بد من التغيير الجذري .! وحتى التغيير نفسه ، منهم من يراه من الداخل ، ومنهم من يراه من الخارج ، وهكذا ...

وللحقيقة نقول : بأن القرآن العظيم ، كان قد فرق في هذه القضية الهامة ، ووضع نقاط الحقيقة فوق حروفها ، منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً ، وإن من يقرأ القرآن العظيم ، ويرزقه الله نعمة التذوّق والفهم لآياته ، يجد نوعين من السنن الربّانية التي تحكم هذا الكون ، فهناك : السنن أو النواميس الكونية : وهي التي تنظم عمل الجزء الأبكم من الكون ، كالأرض والشمس والنجوم والكواكب وغيرها … وهناك : السنن أو النواميس الشرعية : وهي التي تنظم حياة الإنسان في هذا الكون من حيث إيمانه وعلاقته بربه ، أوعلاقته مع بني جنسه ، أو مع المخلوقات الأخرى في هذا الكون من حوله ، وهكذا …

ولو رحنا نتأمل هذه السنن أو النواميس أو القوانين الشرعية التي تنظم علاقات الإنسان في هذا الكون لوجدناها لا تقل أهمية وصرامة عن السنن والنواميس والقوانين الكونية ...

فكما أن حركة الشمس والأرض والنجوم والكواكب ، ومن ورائها تقلّب الفصول ، وتعاقب الليل والنهار ، وجريان الرياح ، ونزول الأمطار ، وتناول الغذاء ، وشرب الماء ، وتنفس الهواء ، وغيرها ، تخضع لقوانين صارمة لا تتخلف

فكذلك حركة الإنسان على ظهر هذا الكوكب ، وعلاقاته الحضرية والاجتماعية تخضع لقوانين مماثلة ، في وحدة قانون رائعة ، تدلّ على وحدة الخالق الأكيدة …

ومن هذه القوانين التي لا تتخلف ، قوانين : بناء الأمم وانهيارها .. وقوانين : صعود الدول وسقوطها ...

وقوانين : وحدة الشعوب وتشرذمها ... وقوانين : الإصلاح والتغيير في الأمم التي يتكلم الناس عنها ، وعشرات القوانين غيرها ...

فالأمة ، أية أمة ، لكي تنهض لا بد لها من شروط محددة وقوانين ثابتة لا تتخلّف …

والأمة ، أية أمة ، لكي تحافظ على نهضتها لا بد لها من التقيّد الصارم بهذه الشروط والقوانين ...

وعلى كل من ينشد الإصلاح والتغيير في هذه الأمة أن يقرأ التاريخ جيداً ، ويفهمه بعمق ، ويلتزم بقوانينه ونواميسه ، التي تحكم الأحداث والظواهر التاريخية وتوجّهها ، لأن أي خروج على هذه القوانين ، هو كالخروج على قوانين أكل الطعام وشرب الماء وتنفس الهواء ...

والذين يتقنون ( فقه ) هذه القوانين وتطبيقها ، هم الذين يستحقون الحياة من وجهة نظر التاريخ ..

وهذا يعني : بأن الأمة التي يتولى زمام أمورها ( فقهاء ) بحيث يفقهون قوانين بناء الأمم وانهيارها ، وصعود الدول وسقوطها ، ووحدة الشعوب وتشرذمها ، وإصلاح المجتمعات وإفسادها ، وعشرات القوانين غيرها ...

ثم _ وهذا هو الأهم _  يحسنون تطبيق هذه القوانين واستثمارها ، فإنهم يقودون أممهم إلى النهوض والتقدم لا محالة ...

أما الأمة التي يتولى زمام أمورها ( خطباء ) يحسنون مجرّد التلاعب بالألفاظ لإلهاب المشاعر والعواطف فحسب ، فإنها تظل تتلهى بالأماني التي يحركها أولئك الخطباء ، حتى إذا جابهت التحديات الحقيقية فإنهم لا ( يفقهون ) ما يصنعون ، وآل أمرهم إلى التخبط والفشل الذريع ، وأحلوا أقوامهم وأوطانهم دار البوار ...!!!

ولو تتبعنا تاريخ الإسلام الحقيقي ، الذي تمثل واقعا في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه الراشدين رضوان الله عليهم ، لوجدنا هذه الحقائق قد تجلت في أبهى صورها ...

فلقد تغلب ( فقه ) الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، على ( خطابة ) أبي جهل وأعوانه من المشركين ، وانتهى كل منهما بجماعته إلى المصير الذي يعرفه التاريخ ...

وحين حلل القرآن الكريم نتائج تلك المنازلة الخالدة بينهما ، ذكر أن كل واحد من المؤمنين ( أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ) يعادل عشرة من المشركين ( أتباع أبي جهل ) ، وذكر العلة : (( بأنهم قومٌ لا يفقهون)) الأنفال ( 65)

أي لا يفقهون قوانين : تكوين الأمم والجماعات ، ولا قوانين : تعبئة المقدرات ، ولا قوانين : بناء الحضارات ، ولا قوانين : صناعة الحياة ، ولا قوانين : النصر أو الهزيمة ...!!!

  

وإن مما تتفتت الأكباد أسفاً له ، أن ( يفقه ) الأعداء هذه القوانين في عصرنا الراهن ، فيطبقوها ، ويحصلون على نتائجها ، قوة وتمكينا وانتصاراً ، بينما تغفل أمتنا عنها ، وتكون النتيجة كالذي نرى من الذل والهوان والانكسار ...!

فلقد طبق الكيان الصهيوني في مواجهته مع العرب والمسلمين منذ عام ( 1967 ) وحتى هذه اللحظة جانباً من ستراتيجية الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأوجد لشعبه مثلاً أعلى يضحي من أجله ، ثم وحّد صفوفه ، وأحسن إعداده ، وأتقن الانتفاع بمقدّراته ، وأحسن الإستفادة من جغرافية المواجهة ، وقوانين التعبئة ، وعشرات ( القوانين ) غيرها ...

بينما طبق العرب في المقابل ( ارتجالية ) أبي جهل ، وخطبه الرنّانة ، التي قالوا فيها :

( والله لا نرجع ، حتى نرد تل أبيب ، فنقيم فيها ثلاثاً ، نذبح الجزور ، ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتغنينا أم كلثوم ، ونقذف إسرائيل في البحر ...!!! )

والتقى الجمعان ، وكانت النتيجة كما نعرفها جميعاً ...

انتصار ( الفقه ) و ( فهم القوانين ) و ( تطبيق السنن ) على ( الغباء ) و ( الغوغائية ) و(الخطابة)...!!!

ولا تزال مأساة الأمة مستمرّة منذ ما يناهز القرن ، لاستمرار أسبابها ...

ولا تزال تتوالى عليها الهزائم تلو الهزائم ، والانتكاسات تلو الانتكاسات ، وهي تغط في سبات عميق ...

ولقد حاولت جاهداً في هذه السطور ، أن أضم صوتي إلى أصوات كل الشرفاء والمخلصين  من أبناء هذه الأمة ، وأن أضيف جهدي إلى جهودهم ، لنميط اللثام عن تلك ( القوانين ) التي تحكم الأمم ، و( النواميس ) التي تنشيء الحضارات ، عسى الله يهيء لهذه الأمة من ( القادة القدوة ) و ( المجدّدين الربّانيين ) من ( يفقهها ) و ( ويطبقها ) ...

(( وَقُلِ اعْمَلُوا ، فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) (التوبة:105)  صدق الله العظيم .