اغتراب النقد والمرجعية الفلسفية

د.محمد سالم سعد الله

اغتراب النقد والمرجعية الفلسفية

د.محمد سالم سعد الله

أستاذ الفلسفة والمنطق والفقه الحضاري / جامعة الموصل

هل اهتدت الظاهرة النقدية إلى ممارسات تجهيز البدائل ، وهل آمنت بضرورة إعادة التوازن إلى ميادين اللغة النقدية ، ثم هل كانت المسوغات الدلالية بموازاة المرجعية الفلسفيــة .. ؟

لا شك أنَ المسعى النقدي العالمي اليوم المتمثل بالطرح المنهجي النقدي ـ على صعيد ما بعد البنيوية تخصيصاً ـ حاول تقديم ( أجندته ) ومشروع تعامله مع الفكر واللغة بوصفهما حقلين مُحفِزين لإنتاج المعنى وتسويقه ـ الفكر لإنتاج المعنى واللغة لتسويقه ـ ، والمسار الفلسفي ممثلاً بـ( الفيلسوف ) يحاول تحجيم حرية التنظيم المعرفي للمتلقي إنطلاقاً من جهوده في عقلنة الطرح والتفلسف ، أما المسار النقدي الممثل بـ( الناقد ) فهو يعتمد على تحليل مكونات الظاهرة المنبثقة من التحصيل الفكري ، للتوصل إلى فرضيات الخطاب الباني لها .

وتنهض المناهج النقدية المعاصرة لاستثمار المسارين ( الفلسفي والنقدي ) وتقديم الرؤى المعرفية بوصفها الأرضية الفلسفية لكل البرامج اللغويـة السابقـة ، فالمعطى النقدي الحديث لا يُشكل سوى رصيدٍ تراكمي من النتاجات النقدية السابقة ، يتم الاهتداء إلى مُهيمناتها وتوظيفها في الطرح الجديد .

إنَ قوة المنهج النقدي ترجع إلى قوة الفلسفة المتبناة ، وأنَ قوة الفلسفة هي الكفيلة بتحديد هوية الضابط الفكري للتوجه النقدي .

وبعد أن استقت المناهج النقدية الحديثة خصوبتها من الثراء الفلسفي المتفاعل مع أسرار تنامي التفسير اللغوي للوجود ، حاولت الدخول في جدلية نقدية مع المشروع النقدية السابقة عليها ، ثم تصوير كل شيء على أنّه نص ، وبناء قاعدة جديدة لتفسير المعنى وكشفـه ، فضلاً عن سعيها لاكتشاف القواعد التي تنبني عليها الدوال .

وقد طورت المناهج النقدية الحديثة ـ لا سيما ما بعد البنيوية ـ الموقف النقدي تجاه اللغة ، وبنت منظومة تحليلية جديدة تنطلق من تعددية المعنى وغيابه ، فضلاً عن بنائها لمنظومة مفاهيم مزدوجة تسهم في تقديم بدائل مستمرة للمراكز المُهشّمة ، كما هو الحال في منظومة الكتابة ، والاختلاف .

إنّ التوجه النقدي لما بعد البنيوية دفعها إلى رسم خصوصيتها النقدية من خلال الطرح التفكيكي أي : معطيات جاك دريدا ، وانطلاقاً من ذلك اتجهت ما بعد البنيوية إلى تفعيل ممارساتها بوصفها منهجاً نقدياً ، وصياغةً متنامية لنقد الطروحات النقدية السابقة ـ لا سيما البنيوية ـ ، وإنكار سمة الثبوت التي تتصف بها الموجودات سواء كانت ذات حضور مجسَّد ( عياني ) ، أو حضور غير مجسَّد ( غير عياني ) .

وتتيح الممارسات الفكرية ، والنظم اللاهوتية امتداداً نقدياً ، ومنهجياً ، يُسوغ ولادة البدائل المناسبة للركود العقلي ، ويمنح إمكانية صناعة الوجه الشرعي للطروحات الحديثـة ، انطلاقاً من نسبية الحقائق ، وسببية الظواهر، وشمولية المعرفة .

وقد تبنت الطروحات الحديثة البحث في أزمة الإنسان ، الناشئة من اصطدامه بالموروث أولاً ، ودخوله في دائرة مُخلفات الحربين العالمتين ثانياً ، وإدراكه مشكلة الضياع النفسي في إطار النظام العالمي الجديد ثالثاً ، وكان من نتائج البحث في أزمة الإنسان : تأكيد الانفصام الدلالي بين الفرد والمجتمع ، وإضفاء صفة التقديس على التنظيمات المُحفزة للسلوك المعرفي للفرد من قبيل المؤسسات السياسية ، والسلطات التشريعية ، التي لا تسمح بإعاقة خططها لرسم القرار، وصناعة توجهات الإنسان .

ومن الشواخص المهمة على ما ذُكر: المسار النقدي لما بعد البنيوية ، الذي حدد بشكل منهجي تأزم العلاقة بين الفرد ومجتمعه ، وتحدث عن فصل بنية الفرد عن البُنى التي يُؤسسـها ، وليس ذلك حسب ، فقد اتجهت ما بعد البنيوية إلى تفعيل دلالة النص على حساب وجود الفرد ( الناص ) .