مشكلة تراجع التعليم..!
صالح خريسات
كنت آمل لو أن وزارات التربية والتعليم، في الوطن العربي، أو اللجان المختصة في هذه الوزارات، وهيئات التعليم العالي، تستطيع أن تحدد لنا بالتاريخ، السنة التي بدأ التعليم يتراجع فيها في الوطن العربي؟ وفي أي سنة وصل إلى ما يمكن أن نصفه بالفساد؟!
إننا إذا افترضنا، أن التعليم بدأ بالتراجع، قبل ثلاثة عقود من الزمن، فهذا يعني، أن هيئات التدريس، في المدارس، وفي الجامعات كافة، وكل القيادات العاملة في البلاد، هي نتاج هذا التراجع، فماذا يرتجي منهم، أو من الأجيال التي تتلمذت على أيديهم؟! وهل من الممكن تقويم تلك القيادات، وإصلاحها؟! وما السبيل إلى ذلك؟!
أما إذا افترضنا، بأن التعليم بدأ بالتراجع قبل عقدين من الزمن، ووصل الآن إلى ما يمكن وصفه بالفساد، فهذا يعني أن المسؤولية تقع في المقام الأول، على عاتق القيادات التربوية الحالية، التي ما تزال تعمل، وهل أن عشرين سنة، لم تكن كافية للإصلاح؟ وكم من الزمن تحتاج هذه القيادات، لإنقاذ عملية التعليم؟ وما هو الوضع السليم، الذي تريد أن تصل إليه هذه القيادات؟ وهل أن التعليم فيما مضى من الزمان، كان على أحسن حال؟!.
إن الافتراضات السابقة، لا تلغي فكرة تراجع التعليم في الوطن العربي وانحرافه، بدليل حاجة الوزارات وهيئات التعليم العالي، إلى تطوير التشريعات، كوسيلة لمعالجة الخلل القائم، وإنقاذ عملية التعليم. وهي لا تستقر على حال، منذ عقدين من الزمان، سواء في سياسة التعليم وأنظمته، أو في المناهج التعليمية.
وجه الغرابة في الموضوع، أن الوزارات مستمرة في رفع شعار تطوير التعليم، وليس إصلاحه، وهي لا تكاد تبحث مشكلة تراجع التعليم، على الرغم من اعترافها بوجود هذه المشكلة. والشواهد القائمة الآن، تدل على أن هذه الوزارات في واد، والتعليم في المدارس الحكومية والجامعات أيضاً، في واد ثان.
وهذا يعني، أن تراجع التعليم، يعود لأسباب داخلية في الوزارات نفسها، وقد يكون لأسباب فردية، بسبب سوء استخدام الصلاحيات، أو الانفراد باتخاذ القرارات، دون إجراء المزيد من الدراسات، بقصد الوقوف على أسباب المشكلة، كما قد تكون ذات طابع إداري، إجرائي، أو سلوكي، أو تدريبي، أو تشريعي، إذا لم يكن التشريع يوافق واقع الحال، ويمس جوهر المشكلة؟!
وإذا كنا نؤيد الوزارات، ونوافقها، في طموحها نحو تطوير التعليم، فإننا نأمل من هذه الوزارات، عدم التسرع وراء هذه الطموحات، ليس من باب رفضها، ولكن لتكون متمشيةً مع الواقع والمعقول.
فالواقع، أن تراجع التعليم، يجد صدى كبيراً له، مما يعني أن أسباباً أخرى كثيرة، تستلزم الدراسة والبحث.
فهل أجرت هذه الوزارات، المزيد من الدراسات لمعرفة الأسباب، التي تدفع المعلم نحو التصرف بطرق سلبية، أو غير مسؤولة؟ لأن الطالب بالنتيجة، هو نتاج المعلم نفسه ! وهل يحترم المعلم وظيفته، ويقدر مهنته، ودوره الرائد في حياة الأجيال؟ وهل أن سياسة وإجراءات التوظيف لمهنة المعلم صائبة؟!
لماذا لا يثق الناس بقدرات المعلم في المدارس الحكومية، ويشككون بمستوى التحصيل في المدارس الخاصة؟ لماذا ظهرت الحاجة إلى الدروس الخصوصية؟! لماذا لا توجد برامج تدريبية خاصة للمعلمين، ولا نقصد الدورات؟!
هل إن قضية الرواتب والأجور المحدودة، هي أحد أسباب تراجع التعليم في بلادنا؟ هل يثق المعلم بالوزارة وقراراتها الإدارية؟ أم أن انعدام الثقة، هو أحد أسباب تراجع التعليم؟!.
إن مما يؤسف له، أن الذاكرة ما زالت تحتفظ بصورة مرعبة ومنفرة، للمدير القبضاي، والمعلم الشرس، في مدارس أيام زمان، فعوضاً عن الشوارب الطويلة المشدودة إلى أعلى، هناك القامة الطويلة والحواجب المعقودة، ويتحدث الناس بإسهاب بالغ، عن طرق التعذيب، والعقاب النفسي، والبدني، التي كان المعلمون يتفننون بها لمعاقبة الطالب الذي تأخر عن حل واجبه، أو الذي لم يحضر معه دفتر النسخ، أو قلم الرصاص، أو ذاك الذي تأخر عن الحضور إلى المدرسة، لانشغاله بجمع الغلال، أو ذهابه إلى السوق لبيعها، أو ذاك الذي لم يستطع، أن يجيب عن سؤال من أسئلة المعلم.
فمن صور العقاب البدني، التي صاحبت ظاهرة التعليم في الوطن العربي، أن المعلم فيما مضى من الزمان، كان يشد الطالب من ناصيته، ويبطحه أرضاً، على مرأى من جميع زملائه، وينهال عليه باللكمات والعصا، مستعيناً بأقدامه الثقيلة، وبالمعلمين الآخرين، الذين يفزعون لنجدته، والمشاركة في عقابه، ليؤدبوا المدرسة به على حد زعمهم.
وكانوا يتفننون بضرب الفلقة، ويلزمون أحد الطلاب برفع قدمي زميله، بينما يختار المعلم طالباً آخر، ليبدأ بالعد. وينهال المعلم على قدمي الطالب المسكين، ضرباً بالعصا الثقيلة، بلا رحمة ولا شفقة.وكانوا يلزمون الطالب، بالوقوف جانباً، ووجهه إلى الحائط، وهو يثني ركبته لساعات طويلة، ولا تلامس قدمه الأرض.وكانوا يضعون القلم، بين أصابع التلميذ، ويضغطونها لمرات عديدة، وكانوا يفركون أذنه بالحصا، أو يجلدونه على القفا.
أما العقاب النفسي، فقد كان المعلم يعلق لوحة على ظهر الطالب، يكتب عليها"حمار" أو "هامل" أو "كسول" أو "لا يصلح". وكان الطلاب يخرجون خلفه في زفة، وهم يضربون على أكياسهم، أو حقائبهم، ويرددون عبارات مؤذية. وكان أسلوب حبس الطالب في الصف، إلى غروب شمس ذلك اليوم، يتكرر باستمرار، ولأتفه الأسباب..! فكيف يعود مثل هؤلاء الطلاب، في اليوم التالي، إلى المدرسة؟ وكيف يواجهون نظرات التلاميذ إليهم؟ وأين كانت وزارات التربية والتعليم، آنذاك، عن مثل هذه السلوكيات، التي أفسد التعليم، وأخرت البلاد عن النهضة لعقود طويلة؟! وأين كان وعي المعلم نفسه، وهو الرجل المتنور، في البلاد؟
إن الذاكرة الصعبة، لا تحتفظ لهؤلاء الرواد، إلا بالصورة المرعبة المنفرة، إلى جانب العصا، والكرش الضخم، والصوت المجلجل، والألفاظ العجيبة، والجنزير، والبصق في الوجه،والصفع، وإطلاق الألقاب..!
وأستطيع الجزم، بأن هؤلاء المعلمين، غرسوا في نفوس الأجيال المتعاقبة في الوطن العربي، التي تتلمذت على أيديهم، أسوأ مرض عرفه الشعب العربي كله، وهو ما يسمى بالطاعة العمياء. وفي الحقيقة، أن هؤلاء التلاميذ، تعلموا الجبن، وانعدام الجرأة على قول الحق، وعدم القدرة على مساءلة المخطئ، أو التمرد على المسيء، المتسلط، ومحاولة رفض أوامره الشريرة. فقد كان المعلم العربي، قدوة سلبية، لأنه لم يكن منفتحاً، ولم يكن مثقفاً، ولم يشجع الطالب على التعلم، بل شجعه على الهروب من المدرسة، إلى الشارع، أو إلى الحقل، طلباً للحرية والكرامة الإنسانية، ولم يرث أحد من المعلم العربي، سلوكاً يحبب إليه التعلم والتعليم، ولو أن وزارات التربية والتعليم، أجرت دراسات ميدانية، للوقوف على أسباب هروب الطلاب من المدارس، وعدم قدرتهم على مواصلة التعليم، في ذلك الزمان البائس، فإن النتيجة بالتأكيد، يكون سببها، الوزارات نفسها، والمعلم السيئ، والمعلم الشرس، أو المعلم الذي يمارس دور الشرطي. وقد وعت هذه الوزارات متأخرة، مساوئ هذه الظاهرة، عندما قررت منع العقوبات النفسية والبدنية، عن الطلاب، كوسيلة للتوجيه أو التعلم، أو التربية الحديثة، ولكن للأسف، حدث هذا بعد فوات الأوان.
أما الجانب الآخر، في مشكلة تراجع التعليم في الوطن العربي، فيظهر لنا عندما نترك للمعلمين أنفسهم، فرصة تحديد أسباب التراجع في عملية التعليم، فإنهم يضعون أصبعهم على الجرح،حين يشيرون إلى مشكلة التعيين، بعيداَ عن متطلبات مبدأ الجدارة، والاستحقاق، وتكافؤ الفرص. وهم لا ينفكون عن التعبير عن سخطهم، تجاه الوزارات، وشكواهم ما زالت مستمرة، من كثرة النفقات والمصاريف، وأن الراتب لا يسد احتياجاتهم، ومتطلبات معيشتهم، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، مع وجود الارتفاع الفاحش في الأسعار، و تكاليف المعيشة، والعيش في شقق كأنها العلب، إلى جانب المرض، والتعب، وتقاليد الحياة الاجتماعية.
وإذا قلنا، من المفترض أن يكون المعلم، أكثر استعداداً وتقبلاً، للتعامل مع الوزارة بإيجابية أكثر، وخاصة إذا ما عرف الحقائق عن الإمكانات الفعلية للدولة،التي ينتسب إليها، وأن القوانين تفرض عليه، أن يكون أكثراً استجابة، والتزاماً، بالقوانين، فإن المعلمين، يجيبون بأن على الوزارة، اتخاذ الخطوات اللازمة، لتهيئة الظروف، والأسباب، لبقاء المعلم ملتزماً بقواعد النظام، والقانون، والسلوك القويم، والأداء الجيد.
فعلى الوزارات إذن، أن تتخذ خطوات معقولة، من بينها، وضع قواعد مدروسة، للتوظيف، وتحسين سلم الرواتب، ووضع برامج تدريبية جديدة، ومكافآت للموظفين، عن طريق الترفيع الميداني، للمعلم الجيد.
ويتحدث المعلمون في الوطن العربي، عن شروط التوظيف، وأن يكون المرشح للتعيين، مؤهلاً من النواحي الصحية، والأخلاقية، والقانونية، ومتطلبات الوظيفة، من حيث التخصص الدقيق، لكي تتهيأ للوزارة، فرصة تعيين المعلم المناسب، في المكان المناسب.
فمن الضروري مثلاً، تعيين أفضل المتقدمين للخدمة، في وزارة التربية والتعليم،والتعليم العالي، بالتنافس مع القطاع الخاص، في اجتذاب واستقطاب المرشحين الأكفاء، كأن تقوم لجان خاصة، بمقابلتهم، وترغيبهم في العمل مع الوزارة، عن طريق الكشف لهم عن مزايا الوظيفة، في الوقت الحاضر، وفي المدى البعيد، وحتى سن التقاعد. ومن هذا المزايا، على سبيل المثال : الرواتب الجيدة، والعلاوات المختلفة، وعوائد التأمين الصحي، والتأمين على الحياة، والاستفادة من الإسكان، والزيادات السنوية، والترفيع، والمشاركة في برامج التدريب، وحضور المؤتمرات والندوات المختلفة، والاستفادة من الإجازات المختلفة، ومن عوائد التقاعد، والمكافآت والادخار.
ومن الضروري جداً، عند دراسة الطلبات الموجودة، أن تتحقق لجنة التعيين، من تحقيق أمرين هامين : الأول، تطبيق قواعد الجدارة والاستحقاق، عند التعيين، بحيث لا يعين إلا الأشخاص الأكفاء، والأمر الثاني، أن يعمل الموظف المناسب في المكان المناسب، ويتكافأ المرتب الذي يتناسب مع مستوى وظيفته، ومؤهلاته الشخصية.
نذكر كل هذه المسائل مجتمعة، لأن الأمر الذي لا خلاف عليه، بين قادة الفكر الإداري، وخاصة خبراء السلوك، أن جمهور الموظفين، يتأثر بقرارات الإدارة العليا، أو الوزارة, من حيث مستوى العدالة، والحياد، والموضوعية، في معاملة الموظفين.
ولا شك أن نتائج مواقف الإدارة، لها أكبر الأثر في نفوس، ومزاجية، ومعنويات، وأخلاق الموظفين، ومدى التزامهم، أو عدم التزامهم، بقوانين وتشريعات الإدارة، أو الدولة وأنظمتها.
إن تطبيق قواعد الجدارة، والاستحقاق، والتخلي عن المحسوبية، بمختلف أنواعها، هو مطلب وطني وقومي، من جميع المسؤولين، في كل الوزارات وليس وزارات التربية والتعليم وحدها.