صناعة الثقافة
صناعة الثقافة
|
بقلم: محمد السيد
|
عالم من الأصبغة والبخور ، يذر غبشاً ، يعبئ العقول قبل القلوب بعبء الاستكانة والعشق للجديد المدجج بمرح هو الموت؛ ينضج على صفيح ملتهب من روايات التغيير ، يحمل في طياته ما يتراءى أنه مستقبل شاب ،وأنتم تعلمون أن شباب أي إنسان لا يكون إلا غيمة عابرة قد تسّاقط رذاذاً خلال ومضات من الزمن ، ثم تخلف أرضاً يابسة تفوح منها رائحة الضياع في متاهة الشيخوخة المتآكلة الفاقدة للذاكرة..
هل حقاً ما قاله " روبرت فروست " :
" هي الأرض أحق الأماكن بالحب
لا أعرف مكاناً آخر من شأنه أن يفضلها "
وأين إذن الإنسان .. ؟ وأين المعتقدات ..؟ وأين أماكن الأرض وحبها الذي لا يفضله شيء عند فروست وأمثاله ومقلديه .. من أناس حملوا أرواحهم على أكفهم ، وتركوا المكان والأرض ، وراحوا يجوبون كل الأمكنة من أجل كلمات آمنوا بها وأحبوا مكاناً آخر غير الأرض تكون نهايتهم إليه ، وكل ذلك من أجل إنقاذ الإنسان من عشق الطين ، الذي قاده إلى حمأة صناعة ثقافة يريدها منبتة عن الماضي ، تائهة وراء مستقبل مستنسخ من صورة أخرى ، لا تمت أبداً إلى الإنسان السوي ..؟!
إن صناعة الثقافة على قاعدة راسخة من الزمان المستمر المتجدد ، والمكان الحامل للتاريخ والجغرافيا وحب فعال الإنسان السوي ، بعيداً عن الاستنساخ الببغاوي ، لا تمر أبداً من خلال صعلكة الشخصية الذاتية ، أو بمعنى آخر تسكعها على أرصفة الآخرين الماضين في مشروعهم الهيمني إلى نهاياته . لأن هذا السبيل إنما هو دخول في حفلة الموت الإنساني الأخلاقي والذاتي التي تنتظر هؤلاء الآخرين في إحدى زوايا الأرض ، ما داموا قد فقدوا عملياً ونظرياً فطرة البناء الإنساني الأصيل الذي أرسى الله فوقه البناء البشري السوي .
وهكذا فإن الثقافة يصنعها ويطورها ويُحدِّثها مثقفون أرسوا أحمالهم الفكرية والعملية فوق أرض صلبة من الذاكرة المصونة ،كما أنهم فتحوا أبواب الواقع ، وراحوا يتأملون تفاصيله وما يدور في باطنه من غليان واضطراب ودعوات محمومة لجعل ذات المثقف والأنا الشعرية حاكمة الرؤية ، وناقلة عدوى الانعزال عن المجتمع ، والسباحة في فراغ الرفض السلبي لكل ما هو أصيل نافع ، ومن ثم تأكيد تلك الفوضى الفكرية والثقافية والسياسية ، التي التصقت جميعها بمصالح كيانات صنعها لنا أصحاب مشروع الهيمنة ، فراح كل منا ينسج حولها هالات من التقديس والاحترام فكانت هي تلك الثقافة الجديدة ، التي أوجدت أمة لا يستطيع
زعماؤها أن يتفقوا على لقاء ، ليقولوا كلمة جادة بأحداث مدمرة تدور على ساحتهم ، رغم ما تختزنه هذه
الأمة من أسباب للوحدة متمثلة في اللغة والتاريخ والتوحيد والجغرافية والهموم والآمال .. صنعت ذات يوم الثقافة الحقة المتقدمة من الآخر بندية ، أضافت إلى واقع وحياة الإنسان ، لوناً متميزاً فائزاً بحظ وافر من الاحترام والتقدير والمثاقفة الكريمة العزيزة .
إن صناعة الثقافة المتجددة السوية لا تقوم على مثل هذه الفوضى السائدة في ساحتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية ، إذ يغني كل على ليلى مستوردة مزينة بزينة التغيير الزائف ، فأنت تجد من يحاول تسويق الليبرالية الغربية وأخذ كل ما عندها دون انتقاء ولا اختيار ، مع أن هذه الليبرالية بدت بوحشيتها ووجهها الشائه أكثر ما بدت مع حمى هذه الدعوات ، ولم يرتدع دعاتها عن غيهم .. ثم إنك لتجد عجباً من الذين ما يزالون يدعون إلى اشتراكية أو يسارية تجاوزتها الأحداث ، بل إن أهلها ذهبوا كل مذهب في محاولات للتنصل من تزمت تلك الثقافة وخشبية خطابها وبعده عن مصلحة الإنسان في حياة تقترب من فطرته .. وإنك لتسمع من أناس يدَّعون الثقافة يجهدون للوصول إما إلى عزلة ضمن خط الحدود الذي رسمته ( سايكس بيكو ) ، وابتلاع طُعْمِ الأنا المختلة المريضة ، وإما إلى عودة إلى المتوسطية التاريخية أو الفرعونية أو الفنيقية ، مع أن هؤلاء وأولئك يعيبون على الإسلاميين ماضوية مدعاة ، وعودة إلى القروسطية على حد تعبيرهم ..
إنه حشد من الدعوات والدعايات والادعاءات معسولة الحواشي ، ملغمة الأبعاد ، فالأفواه المرة لا تفرز إلا ريقاً مريضاً ، ينقل عدوى الأمراض في غياب الوعي ، فهي ( هذه الدعوات ) إذا نفذت إلى الأعماق ، لا ينفع معها الدواء ، وتتحول عندئذٍ الأجسام العليلة إلى حصون يحارب الأعداء خلف جدرانها .
وإذن فإن صناعة ثقافة جديدة راسخة ، تحتاج إلى ثورة كثورة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ إذ زلزل أركان الفوضى الفكرية والأخلاقية والدينية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة وراسخة في المجتمع العربي الجاهلي .. لكنه لم يخلع كل شيء ، بل إنه أرسى اللامع والنافع مما كان موجوداً ، واستوعبه بآيات ربه وممارساته الفذة ، ثم أطلقه إسلامياً عصرياً حداثياً بمعنى عصره ، لذا فهو قال : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، وامتدح ميثاق قريش حول حماية حقوق الإنسان ونصرة المظلوم ، ووافق العرب على ما كانوا يتحلون به من كرم وجود ، وارتفع به من قصد الشهرة والأنا إلى النفع العام ، والتوجه به إلى مرضاة الله ... وهكذا .. فإن الزلزال الذي أحدثه الإسلام في ثقافة العرب كان إضافة هامة إلى تاريخ الثقافة ، بما استوعب وما استجد ، وما أرساه فوق القواعد القيمة الموجودة ، وبذلك استطاعت تلك الثقافة أن تخترق المجتمعات الأخرى اختراقات كانت عميقة لصالح الإنسان في حياته بكل مكوناتها ..