النقد الأدبي ومفهوم الجودة
الدكتور كمال أحمد غنيم |
إذا كان الأدب بأقسامه عملية إبداع؛ فإن ما يصدر عنه ليس إلا إنتاجاً، يخضع للمفاضلة، التي ينتج عنها مدى شهرة الأديب، وقدرته على التأثير، ولعل هذه المفاضلة تقوم على معايير الجودة، أو مقاييس الجمال، أو مفهوم مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات، التي تصل بنا إلى (علم النقد)، الذي طغى عليه تفسير دقيق هو: (التمييز بين “الجيد" و"الرديء").
وقد احترمت التجربة الإنسانية أداء الناقد، على الرغم من أن معظم عمله يعتمد على النص الأدبي، وقد دخل النقد دائرة الإبداع من باب واسع، لأنه يشمل إدراك ماهية الأدب المنتج، ويتجاوز ذلك لوضع معايير الجودة التي تنبني عليها الأحكام النقدية، ثم يأتي دور تطبيق معايير الجودة، للمفاضلة والتمييز، لينبثق عن كل ذلك دفع قوي نحو التزام الأدباء، بتلك المعايير المؤدية إلى إنتاج أكثر جودة...، كما ينبثق عن كل ذلك دفع قوي للأديب، نحو إبداع معايير تطبيقية داخل النص المنتج، تنافس معايير الناقد، ليكتشفها من ثمة ناقد جديد، فتستمر دائرة الإبداع، الساعي نحو جمالية أفضل في الأداء، وأجدى في التأثير والبناء، وأقدر على المشاركة في النهوض الحضاري.
وإذا استقرأنا النصوص الأدبية والنقدية أدركنا تجذر مفهوم الجودة في الضمير الإنساني والوعي البشري، ففتنة آدم في الجنة كانت منبثقة عن الطموح للأجود الذي زينه الشيطان، وقربان هابيل حظي بالقبول الرباني دون قربان قابيل، لتوفر معايير الجودة فيه، وامتحان الإنسان أمام الله وفي هذه الدنيا امتحان جودة، وقد كفل عدل الله للإنسان معايير الاختيار عندما هداه النجدين، وأعطاه القدرة على تمييز الأفضل، بل إن النص القرآني قام إعجازه في الأساس على مفهوم الجودة، حيث تحدى الله عز وجل أصحاب اللغة والكلام أن يأتوا بسورة مثله أو أفضل (أو أجود) منه.
ولو تأملنا تاريخ النقد الأدبي عند الأمم الأخرى سنجد مفهوم الجودة ماثلا في كل مرحلة من مراحله، والناس يدفع بعضهم بعضا لتكريس هذا المفهوم، وفق تصورات اجتهادية، يخطئ بعضها، ويصيب الآخر، من ذلك حكومة الإغريق القدماء، التي اهتمت بوضع معايير الجودة لمفاضلة المسرحيات والنصوص الأدبية، حيث كانت تعقد مسابقة إبداعية، يسند الحكم فيها للجنة أو هيئة محكّمين، تدرس النصوص الأدبية، وتختار ما تراه صالحاً، وتدفع به إلى التمثيل أمام الجمهور، الذي يمثل المفرزة الثانية في تقدير الجودة والتميز، فعلى قدر تشجيع الجمهور وتفاعله مع الأعمال الفنية المقدمة، يصدر الحكم على جودة إنتاج إبداع فلان، وتميزه عن إبداعات الآخرين، مع الاحترام للاختلاف الدائر حول قدرة الجمهور -الذي يجمع المتخصص وغير المتخصص- على النقد أو الحكم!
وإذا كان هابيل قد دفع الثمن غاليا لجودة قربانه؛ فإن النابغة وفق بعض الروايات التاريخية قد حظي بغضب حسان بن ثابت في الجاهلية، في "خيمة الجودة" بسوق عكاظ، فقد وردت في (الموشح) للمرزبان رواية أبي عمرو بن العلاء عن هيئة الجودة النابغية تلك، فقال: إن الأعشى أتى النابغة، فكان أول من أنشده، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصاري:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ولـدنـا بني العنقاء وابنيّ محرق |
|
وأسـيـافـنا يقطرن من نجدة فـأكـرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما |
دما
فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن ولدك، وقد أورد الناقد القديم قدامة بن جعفر رأي من مالوا لوجهة نظر النابغة، فبيّن أن مواطن ضعف الجودة في شعر حسان كما رآها النابغة تمثلت في قوله: "الغرّ"، وكان ممكناً أن يقول: البيض، لأن الغرّة: بياض قليل في لون آخر غيره كثير، وقالوا: فلو قال البيض، لكان أكثر من الغرّ. وفي قوله: "يلمعن بالضحى"، لو قال "بالدجى" لكان أحسن. وفي قوله: "يقطرن"، لو قال "يجرين" لكان أحسن إذ كان الجريان أكثر من القطر.
وقد روى كتاب الأغاني أن حسان بن ثابت قام غاضباً، فقال للنابغة: "والله لأنا أشعر منك ومن أبيك"، فقال له النابغة: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت المنتأى عنك واسع
ونجد أن النابغة قد وضع في الروايتين معايير الجودة، وفق تصوره كناقد له مكانته، التي جعلت الناس يضربون له تلك الخيمة من أدم، وجعلت الشعراء يُقرّون بتميزه وقدرته، من خلال إلقائهم الشعر بين يديه لتقييمه، والمفاضلة بعد ذلك بين الشعراء، ولم تقتصر المعايير التي وضعها على إبراز مواطن الضعف؛ بل على إبراز مواطن الجودة، وقد حظيت الصورة الشعرية المبتكرة عنده باعتبار كبير، من خلال بيته الشعري الرائع، الذي ذكره حجة على التمييز بين القوة والضعف.
ولكن مفهوم الجودة حظي بتدافع الآراء واختلاف الأذواق، ولم تكن معايير الجودة في يوم من الأيام معايير ثابتة مجمعاً عليها، إلا في بدهيات ما، وحقائق لا يسهل طمسها، وقد ظل هذا الاختلاف بيئة خصبة للنمو الحضاري، والبحث الدائم عن لؤلؤة مستحيلة، تتفق عليها الأذواق، ولعل هذا الفهم هو ما تفسره ردود قدامة بن جعفر على رأي النابغة ومن ناصروه في الحكم على قصيدة حسان، ورأى أن الباعث لحكم النابغة هو ميله إلي مذهب الغلوّ أو المبالغة، واعتبر أن حسان مصيب إذ كانت مطابقة المعنى بالحق في يده، وقال مفنداً رأي النابغة: "فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله: الغرّ، أن يجعل الجفان بيضاً، فإذا قصّر عن تصيير جميعها أبيض نقص ما أراده، وإنما أراد بقوله: الغرّ، المشهورات، كما يقال يوم أغرّ ويد غرّاء، وليس يُراد البياض في شيء، بل تُراد الشهرة والنباهة.
وأما قول النابغة في: "يلمعن بالضحى"؛ أنه لو قال: "بالدجى" لكان أحسن من قوله: بالضحى، فهو خلاف وعكس الواجب، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء، فأما الليل فأكثر الأشياء مما له أدنى نور وأيسر بصيص، يلمع فيه، فمن ذلك الكواكب، وهي بارزة لنا، مقابلة لأبصارنا، دائما تلمع بالليل، ويقل لمعانها بالنهار حتى تخفى، وكذلك السرج والمصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار، والليل تلمع فيه عيون السباع لشدة بصيصها، وكذلك اليراع حتى تُخال نارا.
وأما قول النابغة، أو من قال: إن في قوله في السيوف: يجرين، خير من قوله يقطرن، لأن الجري أكثر من القطر، فلم يرد حسان الكثرة، وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس، ويتعاودونه، من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا: سيفه يقطر دما، ولم يُسمع: سيفه يجري دما، ولعله لو قال: يجرين دما، لعدل عن المألوف المعروف؛ من وصف الشجاع النجد إلى ما لم تجر عادة العرب به".
واستفاضتنا هنا في نقل كلام (قدامة بن جعفر) نابعة من الرغبة في تصوير تدافع مفهوم الجودة من النقيض إلى النقيض في بعض الأحيان، ولا شك أن ما يمكن إفرازه من وراء هذه المشادة، وذلك الاختلاف هو خلاصة، تنتقي الجيد من كلام النابغة، وتوظف الصحيح من كلام قدامة، وقد نجتهد في ذلك، وقد نكون أكثر دقة؛ إن امتلكنا الصورة الشمولية، والمعطيات الأكثر سعة، للوصول إلى حكم أدق، ولا أقول أصوب، بل أقول قد يكون أقرب إلى الصواب، وكم من فضيلة تكمن بين رذيلتين، وكم من صواب يسكن في الرأيين المختلفين، ولعل إقرار النبي صلي الله عليه وسلم لمن اجتهدوا في تقدير صلاة العصر يوم بني قريظة فيه الدليل الواضح على ما نقول.
وقد حفل النقد العربي بحديثه عن معايير الجودة، حتى وصل الأمر بالناقد (محمد سلام الجمحي) إلى تقسيم الشعراء إلى طبقات، وفق مقاييس الجودة، التي اجتهد في وضعها واعتبارها، في كتابة النقدي الرائع (طبقات فحول الشعراء)، فهو قد اعتمد معيار الجودة عنصراً أساسياً، وقصد به روعة التعبير والتأثير، كما وضع ضمن مقاييسه: كثرة إنتاج الشاعر، وتنوع الأغراض الشعرية، بالإضافة إلى عنصر الزمن.
ولم تسلم معايير ابن سلام من نقد الناقدين، واعتراض المعترضين، من ذلك الاعتراض على مبدأ التصنيف الرباعي لكل طبقة من الطبقات، القائم على نوع من التحكم في العدد، فكل طبقة من الشعراء وفق معاييره لا بد من أن تتكون من أربعة شعراء فقط، لا أكثر ولا أقل! وقد اعترف بتأثير هذا المبدأ على نزاهة حكمه، واكتفى بالاعتذار الواضح عن تأخير الشاعر أوس بن حجر، وجعله في الطبقة الثانية، نتيجة هذا التقسيم الرباعي القاسي، وعبّر بهذا الاعتراف عن أمانة علمية واضحة، تكفّر عن خطئه ذاك، وتجعلنا من بعده نكسر المبدأ الرباعي، ونضع (أوس) وفق رأي ابن سلام وحكمه ومعاييره في مكانه الطبيعي.
وبعد، فإن لمفهوم الجودة مع النقد الأدبي تاريخ حافل، يؤكد على هذا المفهوم الرائع، الساعي إلى الأفضلية، منسجماً مع مبدأ تعمير الكون في كافة الأصعدة، ويمكننا هنا أن نشير إلى تتابع المذاهب الأدبية عبر التاريخ النقدي والأدبي، للتأكيد على تنامي مفهوم الجودة، وتدافع الناس نحو الأفضلية، التي قد تبقى قاصرة في كثير من الأحيان عن الدقة المطلقة، لكنها تبقى الأكثر دقة، والأقرب إلى الصواب، في دفع متنامٍ، قدّره رب الخلق، سبحانه وتعالى، في قوله الكريم:
(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ) (الحج:40).