الخطاب النظري للأدب الإسلامي قراءة نقدية

صالح محمد العبيدي

الخطاب النظري للأدب الإسلامي

قراءة نقدية

بقلم: الدكتور صالح محمد العبيدي

كلية التربية - جامعة الموصل

إن الخطاب النظري للأدب الإسلامي ليس حديثاً كما يتصور البعض، بل هو قديم قدم النتاج الأدبي الإسلامي، ذلك أن هذا الخطاب النظري قد مرّ بمرحلتين هما:

1 – الخطاب النظري القديم، الذي بدأ مع ابن سلام الجمحي في كتابه الطبقات، ومن ثم تبلور علمياً وبيانياً مع سلسلة طويلة من نقادنا القدامى، كالقاضي الجرجاني، وابن رشيق، وقدامة بن جعفر والجاحظ، وعبد القاهر الجرجاني، وابن الأثير.. إلخ، وهذا الخطاب افتقر إلى النظرية التي تلم شتات مقولاته النظرية ذات التوجهات الأدبية والنقدية، فبقي خطاباً مشتتاً تعوزه الشمولية والتفاعل والانسجام المعرفي بين عقول منشئيه.

2 – الخطاب النظري الحديث: والذي بدأ مع مطلع القرن التاسع عشر، وما زال مستمراً إلى الآن، وتجلى هذا الخطاب في كتابات سلسلة من المفكرين والباحثين من ذوي الاتجاه التاريخي، فضلاً عن المبدعين للأدب الإسلامي، وكان الغالب في اتجاهات هؤلاء الدارسين الاتجاه الإصلاحي الذي يدعو إلى النهضة والصحوة من ذلك السبات الطويل الذي أمات الفاعلية العقلية للحضارة الإسلامية، وأحالها إلى هامش تقليدي واتباعي بعد أن كانت فعلاً محركاً للإنسانية جمعاء.

ونحن بدورنا لا نستطيع في هذا الموجز التعرض لكلا الخطابين، ولكننا سوف ندرس الخطاب النظري الحديث ابتداء من العقد الستيني للقرن العشرين فصاعداً، لأن هذه الفترة –خصوصاً- شهدت تطوراً ملحوظاً في إنتاج سلسلة من الدراسات النظرية التي حاولت وضع اللمسات الأولى لبناء خطاب إسلامي شمولي وإنساني وعقلاني، يعمل على تأسيس نظرية أدبية من منظور إسلامي، ولقد حقق هذا المشروع الأدبي الإسلامي إنجازات لا بأس بها في إطار التنظير والتطبيق، متحدياً العقبات التي تحاول الإطاحة بطموحاته المشروعة، وحتى يستمر هذا المشروع، فلابد من أن يمتلك جهازه المفهومي وآلياته النظرية ونتاجه الأدبي الذي يتماشى مع تصوراته العقائدية والفكرية.

وستكون مهمتنا في هذا البحث رصد الجهاز المفهومي لهذا الاتجاه الأدبي الإسلامي، مؤكدين على الكيفية النظرية التي من خلالها بدأ الدارسون الإسلاميون وغيرهم، يعون حقيقة الإشكالات المفهومية والإصطلاحية لأدبهم الإسلامي، فضلاً عن الجذور التاريخية لهذا الأدب، وستكون قراءاتنا للخطاب الأدبي الإسلامي وصفية تقييمية بعيدة كل البعد عن النبرة الشعارية الصاخبة، والرؤى الديماغوجية المؤسسة على التهويل والتعميم والأحادية أو السكونية، والتقليد الأعمى.

1 – ماهية الخطاب النظري للأدب الإسلامي: ونعني بالماهية سلسلة المؤشرات الجوهرية المشكلة لذاتية الخطاب وبنيانه الشمولي، كالمفهوم والتعريف والمصطلح، والانتماء الوجودي والتاريخي للأدب الإسلامي، وقد نتج عن دراسة هذه الماهية من قبل الباحثين سلسلة من الإشكالات المعرفية، ونجد أن أولى هذه الإشكالات كامنة في التسمية أي (الأدب الإسلامي) وهل هي قادرة على استيعاب نتاج المسلم وغير المسلم؟ ثم إشكالية الشكل والمضمون التي ما تزال إلى الآن مثار نزاع بين الباحثين، فهل الأدب الإسلامي أدب مضمون أم شكلي، أم أنه يوازن بينهما؟ ثم إشكالية الآليات النوعية المنتجة لهذا الأدب، هل هي كامنة في تراثنا الإسلامي، أم مستعارة من المنهجيات الغربية؟ الإشكالية الأخرى تكمن في قضية الانتماء التاريخي لهذا الأدب الإسلامي، هل جذوره قديمة أم هو مستحدث؟ وهناك إشكاليات أخرى بعضها متعلق بالنتاج الأدبي الإسلامي، هل يصل إلى مستوى الطموح المعرفي المرتجى منه، أم أنه صورة اتباعية لأدبنا القديم، والآخر متعلق بالنقد الأدبي الإسلامي، هل له خصوصية الإسلامية، أم أنه مستعار من الغرب.. إلخ..

وسوف نستعرض بعض هذه الإشكالات المعرفية، علّنا نجد الفرصة التي تتيح لنا دراستها جمعاء، وسيتركز حديثنا حول الإشكاليات الآتية:

أولاً: إشكالية المفهوم:

تتمركز إشكالية المفهوم في مدى الثبوتية والحصرية أو المرونة والتسامح التي يمكن فهمها من مصطلح (الأدب الإسلامي) وهذه الإشكالية تتمركز في شقي التسمية، حيث إن الأدب الموسوم بالإسلامي، قد يخرج الأدب غير الملتزم إسلامياً، ثم إن هذا الأدب الأخير قد لا يتوافق مع الإسلام ظاهراً ولكنه قد يتوافق أو يتساوق معه في أبعاده الضمنية، فإذا ما كان على هذه الشاكلة فهل يمكن أن نعده إسلامياً أم لا؟ زد على ذلك أن الأدب بمفهومه الحداثي الثوري الرافض للتقليد والنمطية قد يخرج برمته طبقاً للشروط الالتزامية التي تفرضها التسمية، وإذا ما أدركنا أن مساحة هذا الأدب العربي الحداثي وكذلك غير العربي هي واسعة وقد ينضم تحتها شعراء إسلاميون كثُر أدركنا حجم الفاجعة التي سوف تحلُّ بهم لو فهم (الأدب الإٍسلامي) ضمن معيار سكوني التزامي صرف، ثم إن كلمة أو صفة (إسلامي) هل تحيل على المسلم فحسب أم غير المسلم، مع فهمنا أن (ياء) النسب قد تتيح نوعاً من المرونة والشمولية في إطار المفهوم، ولكن البعض قد يتعللون بأن صفة هذا الأدب إسلامية، تقوم على الحصر والمنع وبذلك يقصون من دائرتها شعراء لا حصر لهم كان بالإمكان تعبئتهم لصالح الإسلام لو أحسن هؤلاء الفهم الصحيح لمقاصد هذه التسمية، ذلك أن الفن الإسلامي بمفهومه العقيدي يمثل (أوسع نظرة جمالية منفتحة على الإنسان والآفاق لأن نظرة (الإسلامي) في جوهرها نظرة كونية، ولأن الإنسان المسلم إنسان كوني لا تحده حدود إقليمية أو العنصرية أو حتى الأرضية، والفن الإسلامي فن منفتح على شتى المذاهب الفنية، ما دامت منسجمة في اتجاهها وتفاصيلها مع حركة الكون والإنسان الإيجابية في سبيل الحق والعدل الأزليين وفي إطار الجمال المبدع بعيداً عن التزييف والكذب والتناقض)(1)

وكان الأستاذ (محمد قطب) قد أعلن سابقاً بأن (الفن الإسلامي ليس وقفاً على المسلمين وحدهم من الفنانين!) وهذه النظرية الانفتاحية المعبرة عن منطق الإسلام المتسامح قلما نجدها عند الباحثين الإسلاميين.

فمثلاً نجد من يتحدث عن الأدب الإسلامي بحيث لا يتجاوز مفهومه عنده الكلمة الطيبة التي (أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها) ويصف هذا الأدب بأنه (الأدب السمح العف الكريم الذي يدل على الشخصية الإسلامية وتميزها فرداً وجماعة، وسلوكاً ومظهراً والتزاماً)(3)، وواضح من المفهوم أن الأدب لا يحقق مقاصد الكلمة الطيبة ومصاديقها إن لم يكن دينياً وتربوياً، فالأدب بحكم قوانين إبداعه لا يمكن أن يتشكل بحسب هذه (السومترية) التي يريدها الباحث، فضلاً عن ذلك فإن الأديب المنتج لهذا الأدب لابد أن يكون إسلامياً كما وصفه الباحث عقيدة ومظهراً وسلوكاً، أي أن يكون ملتزماً بحسب معايير التصور الإسلامي، وبذا يخرج الأدب غير المسلم أو غير الملتزم، ومن هنا يكون هذا المفهوم حصرياً، مائعاً، وضمن منطق الحصرية والتصوير ذاته. نطالع أيضاً هذا المفهوم الذي طرحه (بريغش) الذي يقول عن الأدب الإسلامي بأنه (أدب متميز لا يبدعه إلا أديب إسلامي موهوب، ولا يتذوقه إلا سوى الفطرة، ولا يتشكل ويتكامل إلا عبر التجربة الأدبية التي يخوضها الأدباء الإسلاميون أنفسهم، ولا تحدد شروطه وموازينه وأساليبه وأشكاله إلا من خلال التصور الإسلامي الواضح، الشامل والتجربة الواقعية الحية للأديب المسلم)(4).

نعم قد يكون من حق الأديب المسلم أن يحوز كل هذه الامتيازات (الإبداع، التذوق، التجربة الأدبية) ولكن ليس من حقه أن يحتكر الإنتاج الأدبي الإسلامي وحده، ما دام في السعة الإنتاجية تفعيل لمجال الإبداع من جهة، ومن جهة أخرى توسيع مساحة المشاركة كي تكون الفائدة أعم، خصوصاً إذا كان نتاج المشاركين من خارج الدائرة الإسلامية لا يتعارض مع التصور الإسلامي بمفهومه الشمولي والإنساني، وإذا كان ثمة مقياس للتفاضل –في إطار العملية الإبداعية- فهو ليس دينياً قطعاً وإنما هو فني، ثم إن عملية التذوق لا تحدد بالنوايا والمقاصد المعنوية الأخلاقية (سوى الفطرة) وإنما تحددها الضوابط النصية والجمالية كالسياق والظرف والدلالة، كما إن المؤثرات الأسلوبية هي التي تتحكم بتجديد نوعية الاستجابة الجمالية، بصرف النظر عن أي مؤثر خارج نصي، ذلك أن هذا المؤشر الأخير إذا ما تم تسليطه على النص كمقياس للتذوق السليم فإنه سوف يركز فقط على الخصائص والمؤشرات الإيجابية ذات التوجهات التعبوية والإرشادية متناسياً الغايات الجمالية والإبداعية التي تحملها النصوص الأدبية، كان بالإمكان توسيع مجال القراءة والتوقف عن التوصيفات التقييمية للقراء.

تبقى مسألة (التصور الإسلامي) وهي محط اتفاق بين الدارسين إذ أن الأدب المتسم بالطابع الإسلامي يجب أن يتشكل وفق المنظور الإسلامي، مع الأخذ بالاعتبار المنظورات الأخرى التي يمكن من خلالها توسيع دائرة الفائدة المعرفية، إذ أن التصور الإسلامي منفتح وواسع أو متسامح، ويدعو إلى التفاعل ولا يمكن له أن ينفصل عن المنظورات الأخرى وهو يعيش في خضم إفرازاتها المعرفية، وشواهدها الحضارية، التي يمكن لها أن تدعم رؤيته وتعزز فاعليته في المحيط العالمي، ومن هنا نعتقد بأن مفهوم الأدب الإسلامي يسمح بالمرونة والاتساع من حيث إنه (يرتبط بالكشف عن الحاجة الفكرية والأدبية إليه، والدور العقائدي المنوط به، وبيان التطورات التي أسهمت في نموه، وتوضيح علاقته بغيره من الآداب والمذاهب والأنساق المعرفية وجلاء دوره في منظومة الفنون والمعارف الإنسانية)(5).

إن التأصيل النظري للمفهوم يعني ضمناً أن يتشكل النتاج الأدبي تبعاً لمحولاته وتوجهاته المؤصلة، وأي خطأ في التصور المفهومي سيكون مردوده سلبياً على النتاج الذي يترتب عليه أن يرتكب الخطأ ذاته، ولقد لمسنا نظرياً من خلال استعراضنا المفهومي هذا، أن الباحثين متفقون على تضييق مجال الرؤية المفهومية للأدب الإسلامي باستثناء جماعة التوسيع والانفتاح المذكورين آنفاً، وآخرين تضامنوا معهم في هذه الرؤية، ولكن الغالبية العظمى تدعو إلى الحصر والمنع والتصوير في تشكيل المفهوم للأدب الإسلامي، خوفاً على هذا الأدب من التشويه والإغراق، وتبعاً لهذا القلق اللاموضوعي، المتفاقم في قلوب بعض الدارسين، فإن الحاجة العلمية دفعت بعض المتفائلين بالخاصية التوسيعية للأدب الإسلامي إلى تحديد الدوائر الأدبية وموقف الإسلام منها.

ولقد تم تشخيص ثلاث دوائر أدبية هي(6):

1 – دائرة الأدب الملتزم بالتصور الإسلامي، وهي دائرة لا تقتصر على أدب الدعوة بل تتسع لتشمل أي موضوع يدور حول الكون والحياة والإنسان.

2 – دائرة الأدب المباح، وهو أدب لا يخالف التصور الإسلامي، وإن لم يلتزم به وهي دائرة تتسع للأدب الجمالي المحض أو الأدب التسلية أو الترويح عن النفس.

3 – دائرة الأدب الذي يخالف التصور الإسلامي ويضاده، وهذا الأدب الذي يرفضه الأدب الإسلامي ويعد التصدي له من أول واجباته مهماته لأنه أدب العقائد والمذاهب (الأيديولوجيات) المنحرفة عن الإسلام، أو أدب العبث الهدام أو أدب الجنس أو أدب الحداثة الفكرية المدمرة لا الحداثة بمعنى التجديد في المضمون والشكل.

ونحن نتفق مع الباحث في الدائرتين الأولى والثانية، ولكننا نتحفظ على الدائرة الثالثة. نعم هناك أدب ماجن، وهدّام ومؤدلج قد يؤثر على العقيدة والسلوك، ولكن هل المشكل كامن في حقيقة طرح هذا النوع من الأدب أم في الواقع الذي يفرزه، ويدفع الأديب إلى تصويره، إذا أراد التماس الحقيقة الموضوعية، بشقيها الإيجابي والسلبي. إن الأديب مسؤول عن هذا التشخيص الازدواجي، إذا ما كانت مقصديته متمركزة في كشف الحقيقة لإدانة ما هو سلبي فيها، وتشجيع ما هو إيجابي فيها أيضاً، يبقى ذلك النوع من الأدب الإغرائي والإغوائي الصرف، البعيد كل البعد عن الأهداف والغايات النبيلة والمعرفية، هذا النوع يستحق الإدانة والمجابهة، كما أننا ندعو الدارسين إلى التمهل في إطلاق الأحكام المعيارية التعميمية على أدب حداثي برمته استناداً إلى ديانات شاعر قالها في لحظات بؤسه ومأساته.

إن مسألة التعبير عن الأدب المتضمن للقيم والفضائل الأخلاقية، المسندة إلى تصور معين تحيل هذا الأدب إلى أدب عقائدي والتزامي ذي غايات دعائية، قد تخرجه عن وظيفته الحقيقية وهي "أن يكون أميناً لطبيعته(7) وطبيعته تفترض أن يكون الخطاب الأدبي إبداعياً وجمالياً بالدرجة الأولى، وأن لا يخضع تماماً لمعيار التصور والرؤى العقائدية، التي قد تحيله إلى أدب تعبوي ذي مؤشرات جمالية محدودة، خصوصاً إذا ما فهم المبدعون التصور العقائدي بمفهومه الضيق، لا الشمولي والعالمي، ونحن بطبيعة الحال لا ندعو إلى إفراغ النصوص من إيديولوجياته الرئيسية والسياسة لأن الإيديولوجية مهمة وفعّالة، يقول (بارت): "البعض يريد نصاً بلا ظل، مقطوعاً عن الإيديولوجية المهيمنة، كأنهم يريدون نصاً بلا خصوبة، بلا إنتاجية، نصاً عقيماً: إن النص في حاجة إلى ظله، وظله: هو قليل من الإيديولوجية"(8) بشرط أن لا تكون هذه الإيديولوجية مسلطة من على النص من الخارج، بل تظهر في النصوص الأدبية استجابة لسياقات ثقافية وجمالية اقتضت بمظهرها فيها، وإذا ما أراد الأدب الإسلامي أن يكون فاعلاً ومؤثراً وذا مكانة مميزة في سلم الأدبيات العالمية فلابد أن يسقط من حسابه مفردات السلطة والهيمنة، والمقاصد المسبقة التي تتشكل النصوص تبعاً لتوجهاتها الإيديولوجية، إذ أن هذا النوع من الإنتاج الأدبي سوف يفتقر إلى معايير القبول والانسجام لدى الآخرين، ولا يكون فاعلاً إلا في دائرته المنتجة له والمتعاطفة معه.

أما أن يكون الأدب الإسلامي منطلقاً (من التعبير الفني عن قيمة الحقيقة (المركب الشعوري القلبي) أو (المقاصد والنوايا) حيث تربت هذه القيمة على فكر حمل التصور أو العقيدة الإسلامية)(9) وهذا يعني أن يفقد الأدب خصوصية الفنية وأن يتشكل تبعاً لما يفرضه عليه التصور أو العقيدة من معايير صارمة قد تفقده طبيعته، ثم أين هي النظرية الإسلامية التي نستطيع تلمس صورة الأدب فيها؟ ونعني هنا النظرية الأدبية والمنهاج الفني الذي يخضع له المبدعون للنتاج الإسلامي. أن يخضع الأديب عقله ومشاعره لتصوره العقائدي دون أن يكون له خصوصية أو مجرد رؤية يعبر من خلالها عن أسلوبه الخاص وحاجاته المكبوتة وتطلعاته، فهذا يعني ضمناً أننا ننتج أدباً دينياً أو عقائدياً غايته الدعوة والإرشاد، والوعظ فحسب، ثم نلصق به سلسلة من الجماليات كي نعبر عن اهتمامنا بالشكل، وهنا نتساءل: هل الرؤية الإسلامية ذات السعة التصورية الشمولية تعجز عن التعامل مع أدوات تعبيرية من مستوى فائق؟ ليس من المطلوب التعبير عن هذه الرؤية بأقوى ما يمكن من الأساليب التعبيرية أو التوقف عن الأدوات التقريرية البالية الفاقدة لجدواها وحيويتها، خصوصاً في عصر أصبح فيه القارئ واعياً ومثقفاً وذا استجابة معقدة لا تستجيب بسهولة لكل ما هو مطروح في النصوص الإبداعية فضلاً عن النصوص الاستهلاكية، إن الدكتور عماد الدين كان محقاً تماماً في قوله "إن كثيراً من المثقفين والأدباء الإسلاميين يتصورون الأدب الإسلامي خطابة وتقريراً وإرشاداً، دعوة للضلال والمارقين إلى التزام الطريق القويم، ومحاربة البدع والأهواء.. إن هذا التصور الساذج الذي يصل إلى حد اليقين لدى فئة من المثقفين ليقف حجر عثرة في طريق فن الإسلامي يتصدى لهذا السخف، ويكون عملاقاً شامخاً بمستوى العقيدة التي يعبر عنها، والرؤية التي ينفذها، والدعوة التي يستمدها، هذا التصور يمارس تخريبه المتعمد حيناً، وغير المتعمد أحياناً.. إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه، وتحويل الأدب الإسلامي إلى تعاليم وخطب وإرشادات ونصائح ليس إحساناً ولا إتقاناً"(10).

ثانياً: إشكالية التعريف:

وسبب هذه الإشكالية الانقسام الحاصل بين الدارسين للأدب الإسلامي، حيث يرى البعض منهم أن خصوصية الأدب الإسلامي إنما تكمن في جماليات الشكل والاستراتيجيات التكنبكية، في حين يراها البعض في الثيمات والمضامين، في حين أكد البعض على المزاوجة بين الشكل والمضمون، وسوف نتابع سلسلة التعريفات التي أطلقها هؤلاء الدارسون تباعاً وكما يأتي:

1 – فالأدب الإسلامي بحسب تصور الأستاذ محمد قطب: "هو الإنتاج الأدبي الذي ينسق مع مفاهيم الإسلام، مع الرؤية الإسلامية للكون والحياة والإنسان"(11)

وهذا التعريف يعد قطب الرحى في إطار التعريف بمصطلح الأدب الإسلامي، وسوف يتابعه دارسون عديدون وهو تعريف شمولي ومتسامح، خصوصاً أن الإنتاج الأدبي لا يصدر عن الرؤية الإسلامية وإنما (يتسق) معها، وهذا يعني أن النتاج غير الإسلامي الذي يحمل أبعاداً ضمنية إسلامية يدخل في عموم هذا التعريف، والتعريف في مجمله مضموني لأنه لم يحدد الخصيصة النوعية لهذا الإنتاج الأدبي.

2 – التعريف الآخر للدكتور (سعد أبو الرضا) الذي يقول: "إن الأدب الإسلامي صياغة التجربة الحياتية صياغة جميلة معبرة موحية من خلال التصور الإسلامي لهما"(12).

واضح أن التعريف يركز على الجانب الشكلي إلا أنه حدد الضابط الشكلي بـ (التصور الإسلامي) الذي ذكره بهذا الإطلاق، فأصبحت الميزة الشكلية لا تتشكل من خصوصيتها وإنما من شروطه وضوابطه، ومع السعة التي يحققها التعريف بتغيبه صاحب التجربة الحياتية، إلا أن هذه السعة سرعان ما تصطدم بحاجز الاحتواء الكلي الذي يجعل ما سبق صادراً عنه لا غير، دون أن يحدد الباحث عذابات احتوائه وحركته، والتعريف في نهاية الأمر ذو منحى تركيبي يحاول أن يوازن بين الشكل والمضمون.

3 – ويقول (محمد حسن بريغش): "الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يعبر عن التصور الإسلامي في الحياة بكل أبعادها وألوانها"(13).

ومع أن التعريف منح صفة الشمولية للتصور الإسلامي عندما خضع كل ألوان الحياة وأبعادها له، إلا أنه قصر مجال إنتاج الأدب الإسلامي على الأديب المسلم فحسب تعريفه (عن التصور الإسلامي) فهذه (العن) تجعل هذا الأدب صادراً عن هذا التصور، فيتصف الأدب هاهنا بصفة الأدب الديني، فيتحول الأديب إلى منبر إعلامي، فيفقد بذلك هويته الأدبية، وهذا التعريف يندرج ضمن التعريفات المضمونية.

 4 – ويرى الدكتور (الطاهر محمد علي) أن الأدب الإسلامي هو "الفن الراقي الذي يعبر عنه الأديب في تجربة شخصية. وأن تكون غايات الأديب قائمة على التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون"(14). لولا أن هذا التعريف قصد غاية الأديب الأولى والأخيرة على التصور الإسلامي فحسب، وتجاهل الغايات الجمالية والفنية التي ينتجها الأدب، لكان له ميزة متفردة من بين سلسلة التعريفات آنفة الذكر. إن الفن الراقي حتى يتحقق فإنه يتطلب ضمن مستويات الحد الأدنى، الموازنة بين شروط الأدب وشروط العقيدة أو التصور. أما أن يكون القصد التعبير عن التصور الإسلامي، فإن مبدأ القيمة قد يطيح بمكاسب الجمال لهذا الفن الراقي. والتعريف بالرغم من دعوته الشكلية إلا أنه أهمل مقياس صدقها الفني، وأعلى من قيمة المضمون جعل (التصور) الغاية أو القصد من التعبير، ومن هنا فهو تعريف مضموني.

5 – أما الدكتور (عبد الرحمن رأفت باشا) فيرى أن الأدب الإسلامي هو "التعبير الفني الهادف، عن وقع الحياة والكون والإنسان على وجدان الأديب تعبيراً ينبع من التصور الإسلامي للخالق عز وجل ومخلوقاته"(15).

إن تحديد مجال التعبير بوصفه (هادفاً) يعني أنه ملتزم وجدي ونافع، وطبقاً لذلك فإن وجدان الأديب المنفعل والمتفاعل مع المؤشرات الوجدانية (الحياة، الكون، الإنسان) لن ينتج إلا أدباً التزامياً إيجابياً ومتفائلاً، وهنا ينتفي شرط المعاناة القائم على الصدق في التعبير، ذلك أن المشاعر مؤدلجة وخاضعة للتصور العقائدي، وهذا التعريف مضموني أيضاً.

6 – أما تعريف الأستاذ (محمد إقبال عروي) فهو تعريف صياغي يقول فيه: "الأدب الإسلامي تعبير فني وجمالي يعتمد على مختلف الأشكال المتاحة والممكنة في معالجة قضايا الحياة وفق تصور الأديب ورؤيته الإسلامية"(16).

ونعتقد بأن هذا التعريف من أوفق التعريفات التي ركزت على قيمة الخصيصة الأدبية والإبداعية وليس ذلك فحسب، بل أنه وسع من مجال التوظيف الأدبي، ولم يقصره على جنس أدبي مخصوص، كما أنه لم يهمل دور الأديب المنتج للتجربة الأدبية الإسلامية، فقد منحه حق التعبير عن تصوره الخاص فضلاً عن رؤيته الإسلامية، زد على ذلك أن كلمة (وفق) لا تجعل الأدب صادراً عن هذين التصورين، وإنما تجعله مواكباً لهما، وواعياً لمتطلباتهما الإيديولوجية بعيداً عن الإقحام والإسقاط القسري، وهذا التعريف كما هو واضح يعلي من قيمة الشكل على المضمون.

7 – وهناك أيضاً تعريف للشاعر (محمد المجذوب) يقول فيه بأن الأدب الإسلامي: "هو الفن المصوّر للشخصية الإنسانية من خلال الكلمة المؤثرة"(17)

وهذا التعريف يخالف إلى حد ما التعريفات السابقة، كونه لم يحدد المجال التصوري لهذا الفن، وأنه أيضاً وسّع مجال المرجعية الأدبية ليجعلها إنسانية، تخص التجارب الإسلامية وغير الإسلامية، وهو أيضاً يشترط الكلمة المؤثرة كمقياس تعبيري وأسلوبي لهذا الأدب قد يقصي هذا التعريف من دائرة التعريفات بالأدب الإسلامي ويجعله مرفوضاً من قبل الدارسين الإسلاميين، ولو أن التعريف جاء وفق الصيغة الآتية: "الأدب الإسلامي: هو الفن المصور للشخصية الإنسانية عبر الكلمة المؤثرة، ومن خلال التصور الإسلامي" لكان أكثر دقة وانسجاماً، والتعريف كما هو واضح شكلي محض.

8 – يبقى أخيراً تعريف الشاعرة (عليّة الجعّار) حيث ترى أن الأدب الإسلامي: "إبداع فني يرتبط بالقيم الإسلامية والأخلاق الإسلامية، هو أدب يخاطب الوجدان من خلال رؤية إسلامية"(18).

لاحظ أن شروط الإبداع متعلقة بمدى مثول القيم الإسلامية في الأدب، بمعنى أن الخطاب الديني هو الذي يصنع فرادة هذا الأدب، وحتى يكون الأديب مبدعاً فلابد أن يكون إسلامياً تبعاً لهذا الحصر والتقييد الذي أقامته الشاعرة، التي اهتمت بتحديد مجال الرؤية والأثر الانفعالي لهذا الأدب في المتلقي، في حين أهملت خصوصية الأدب والأديب، والتعريف كما هو واضح مضموني صرف.

 وبعد هذه الجولة التي استطلعنا من خلالها سلسة من التعريفات بالأدب الإسلامي، فإننا نستطيع تسجيل الملاحظات الآتية:

الملاحظة الأولى: تتعلق بماهية الخطاب الاصطلاحي للأدب الإسلامي، إذ أن معظم التعريفات تنحو منحىً مضمونياً، وبذلك نستطيع أن نقول إن الأدب الإسلامي هو أدب مضموني بالدرجة الأولى، وأن الشكل الفني إنما يأتي موظفاً لخدمة المضامين والقيم الإسلامية، أي بوصفه وسيلة تعبيرية لا غير دون أن يكون له خصيصة نوعية تميزه وتكسبه قيمة معرفية وعالمية.

ونحن نعتقد بقيمة الشكل بوصفه صالحاً كمقياس للمفاضلة بين الأدباء والأدبيات العالمية، ونعتقد أيضاً بأن المضمون هو إفراز موضوعي للشكل، بوصف هذا الأخير هو الذي يتحكم في صياغته وتوجيهه تبعاً للحاجات والضرورات الإبداعية لا الإيديولوجية، ونعتقد في أن تصور رؤية الخطاب النظري الإسلامي تكمن في فصله بين الشكل والمضمون، دون أن يعي حقيقة التداخل العضوي بينهما، ونرى أنه متأثر بالرؤية الكلاسية التي وجدناها عند نقادنا القدامى عندما فصلوا بين اللفظ والمعنى.

والملاحظة الثانية: تتعلق بمسألة إهمال دور الأديب التي حاولت مجمل هذه التعريفات تجاهله وهو جزء محوري في عملية الإرسال الأدبية للخطابات الإسلامية، في حين ركزت على تمديد ماهية الأدب الإسلامي بوصفه (إنتاجاً أو فناً، أو إبداعاً، أو تعبيراً) وعلى التصور الإسلامي بوصفه المعيار النوعي لتوجيه النصوص وجهة التزامية. إن إهمال دور الأديب يؤدي إلى خلخلة المنظار المنطقي للخطابات النظرية للأدب الإسلامي التي شغلها موضوع الأدب ولم تهتم بمنتج هذا الأدب، لأنها وضعت في اعتبارها أن تحديد رؤية الأدب الإسلامية تعني بداهة تحديد هوية الأديب، وتناست الرؤية الأدبية والجمالية التي هي مثار خلاف بين الأدباء والباحثين، فهي ركزت على الثابت (الرؤية الإسلامية) وأهملت المتغير (الرؤية الإبداعية) وكان المفروض التركيز على الثاني واتخاذ موقف محدد منه ينسجم مع التصور الإسلامي، وما دام هذا الأخير محط اتفاق بينهم فهو ليس مشكلاً، كي يحتاج إلى هذه السلسة من التأكيدات الجماعية.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة: فقد شخصها الأستاذ (محمد إقبال عروي) عندما أكد على أن هذه التعريفات للأدب الإسلامي (تقع في خطأ منطقي فهي تعرف "العام" بشيء أعم منه فالأدب الإسلامي عام يعرف بالرؤية الإسلامية أو التصور الإسلامي الذي هو أعم منه وأشمل.. وبعض التعريفات لا تجيب بدقة عن موضوع الأدب الإسلامي(19) فأغلب هذه التعريفات ذات صياغات تعميمية اختزالية، لا تبين لنا الكيفيات ولا المكونات والخصائص الفنية، فهي ليست واضحة وتفتقر إلى الضبط المنطقي، والرؤية الشمولية والصدق الفني والشعوري.

ثالثاً: إشكالية المصطلح والبدائل المقترحة:

إن المصطلح كما هو متداول ومعروف يتحقق من خلال تواطؤ عرفي حول اسم مخصوص يكون إشارة أو علامة لذلك التصور الذي تريد الجماعة المتواضعة عليه أو المعتقدة به التعبير عنه، ومن هنا فإن المصطلح يشتمل على الرمز والتصور، وحتى يكون هذا المصطلح فاعلاً ومؤثراً، فلابد أن يشتمل على شروط القبولية، باستيفائه لمتطلبات الشكل والمضمون، كما أن المصطلح ليس مغلقاً –كما يتصور البعض- بمجرد تسميته وتسجيله، وإنما هو منفتح ما دام ينمو في نسق معرفي متطور عبر الزمن، ومتفاعل مع الأنساق المعرفية الأخرى، ومن هنا فإن المصطلح قد يتغير ويتبدل إذا دعت الحاجة المعرفية إلى تغييره، كما يجب أن تحقق في المصطلحات المختارة سمات الفرادة والجدة، فلا تكون مرادفة لتسميات أخرى قد تشترك في معناه، كما يجب أن يتوفر في المصطلح معايير الحصر والمنع والمواضعة، والتواصل الإبلاغي، فلا يكون المصطلح واسعاً أو فضفاضاً، ولا ملبساً أو غامضاً. وبخصوص مصطلح (الأدب الإسلامي) فإن هذا المصطلح بالرغم من كفايته الشكلية والتصورية، وتحقيقه لمقاصد المنتسبين إليه، إلا أنه رغماً عن ذلك واجه بعض الاعتراضات من لدن البعض وهذه الاعتراضات هي(20):

1 – التعارض بين الإبداع والدين، والأدب ينسب للغة ولا ينسب للدين، وإن نسبته للدين يخرج كثير من الأدب العربي من هذا النطاق.

2 – إن الإسلام أكبر من أن يحصر بمصطلحات ضيقة باسم الأدب.

3 – إن إطلاق المصطلح سيؤدي إلى قيام الآخرين بمعارضته ونقضه.

4 – إن إطلاق المصطلح سيوقعنا في حيرة أمام الطوائف والمذاهب الإسلامية المختلفة.

5 – كما أنه (أي المصطلح) سيسلم الأدب الإسلامي بأنه أدب دعوة.

وبالرغم من وجاهة هذه الاعتراضات، وأنها تدفع الباحثين والمنظرين للأدب الإسلامي إلى تشخيص مفهوم جديد للأدب الإسلامي، يكون أكثر مرونة وتسامحاً وشمولية كي تستفيد كل الأطراف المعنية بالتوصيل والاستجابة من هذا الأدب الإسلامي، إلا أن بعضها –نعني الاعتراضات- غير دقيق ومنطقي، فالأدب ليس حصراً للإسلام، وإنما هو تشخيص فني لنتاجه الذي ينحو منحىً إبداعياً وقيمياً. أما أن يعارض البعض المصطلح، فهذه مسألة طبيعية نابعة من إطار المساءلة والنقاش المعرفي، فالمصطلح ليس قدسياً بحيث لا يحتمل التعديل إذا لزم الأمر، ثم إن المصطلح قد يستوفي مجمل الطروحات للمذاهب الإسلامية ما دامت متفقة على الثوابت الاعتقادية المفهومة من كلمة (إسلامية) البعيدة عن التعصب والتهذيب الإيديولوجي. أما أن يؤدي المصطلح إلى إنتاج أدب الدعوة، فهذه المسألة متعلقة بمنتجي هذا الأدب ومنظريه، إذا أرادوا له أن يكون على هذه الشاكلة أم لا، أما المصطلح فلا يتضمن أي إشارة إلى هذا النوع من الإنتاج الأدبي (أدب الدعوة) إذا ما أخلت شروط الإبداع الأدبي بنظر الاعتبار.

ومن جهة أخرى نطالع هذا التشخيص لواقع تعامل الدارسين مع مصطلح الأدب الإسلامي والذي يجمله الدكتور (سعد أبو الرضا) على الوجه الآتي(21):

1 – إن بعض الباحثين منا لا يزال يتعامل مع هذا التركيب ببعض الشك فيه، إذ نرى أن هذا التركيب لا يتضمن آداب شعوب إسلامية أخرى غير الأدب العربي، ومن ثم يقترح هذا البعض أن يكون المصطلح "آداب الشعوب الإسلامية".

2 – يرى بعض الباحثين أن الأدب العربي كله أدب إسلامي.

3 – صفة (إسلامي) ركن أساسي في تركيب (الأدب الإسلامي) وقد دفعت بعضاً منا إلى تصور أن ذلك الأدب الإسلامي لا يصدر ولا يقبل إلا من المسلم الملتزم بدين الإسلام.

4 – وهناك من يريد تسمية الأدب الإسلامي بـ (الأدب المسلم) رائياً أنه بتلك الصفة (المسلم) يتجاوز النسبة النحوية في " الإسلامي".

إن هذه المشخّصات لواقع مصطلح الأدب الإسلامي لا ترقى إلى مستوى الإدراك التأملي العميق في خصوصية هذا المصطلح، ورواجه بين المسلمين وغيرهم ودقة دلالته، وصدق تعبيره عن محتواه التصوري، ذلك أن هذا المصطلح يمكن أن ينظر إليه من جهة أنه يستوعب كافة المنتوجات الأدبية الإسلامية لكافة الشعوب المتسمة بصفة الإسلامية، هذا إذا ما حاولنا تضييق المجال المرجعي للمصطلح، أما إذا قصدنا الانفتاح والشمولية الإنسانية، فإن كل المنتوجات الإنسانية الإسلامية الصرفة والمتوافقة معهما رؤيرياً، ولو بشكل ضمني، تندرج تحت مقصديات هذا المصطلح، أما تسمية (آداب الشعوب الإسلامية) فإنها تسمية إقليمية قد تثير الضغائن والعصبية بين هذه الشعوب، كما أنها يمكن أن توحي بأن لكل شعب أدبه الخاص الذي يتوافق مع أعرافه وتقاليده، فضلاً عن رؤيته الإسلامية، وهذا ما يتنافى مع مفهوم (الإسلامية) الذي يؤكد على الوحدة والشمول والتوازن.

أما بخصوص الأدب العربي وبكونه إسلامياً جملة وتفصيلاً فهذا تعميم غير منطقي، والناظر في خريطة الأدب العربي يعرف بداهة أن هناك أدباً يتعارض مع التصور الإسلامي خصوصاً أدب الدعوة الحزبية، والأدب الماجن، والغزل المكشوف، والمدح التكسبي المبالغ فيه. أما أن يكون الأدب العربي متأثراً بروح الحضارة الإسلامية وصادراً عنها بوصفه أحد إفرازاتها المعرفية فهذا صحيح. ولكن هذا لا يعني بتاتاً أنه لا يتعارض مع تصوراتهما العقائدية والفكرية.

أما بخصوص أن يكون الأدب متعلقاً بالأديب الإسلامي أو غير الإسلامي، فهذه مسألة سبق أن عالجناها آنفاً ولا حاجة إلى إعادتها، ولكن نقول فقط إن الأديب المسلم هو المعني الأول بهذا الأدب، أما الآخر فهو يدخل من باب المشاركة أو التضامن إذا تساوقت المقاصد نحو تحقيق الأهداف النبيلة والفضائل الشرعية.

أما تسمية (الأدب المسلم) فإنها تسقط بداهة لأنها تسقط من حساب خصوصية الأدب عندما تكون صفة لذاته لا لموضوعه أو لمنشئه، مما قد توحي بهما لفظة (إسلامي) لأن ياء النسب هي وصف للهوية لا للماهية.

ونجدنا نتفق مع الأستاذ (محمد إقبال عروي)(22) في تشخيصه لمصطلح الإسلامية بأنه "كمصطلح نقدي تتسم به الإنتاجات الأدبية الإسلامية، رؤية وإبداعاً، عقيدة وفناً"، وكذلك في اقتراحه مصطلح (الأبعاد الضمنية) بخصوص الأعمال الأدبية لغير الملتزمين بالإسلام، ذلك أن أعمالهم "لا تتضمن الإسلامية وإنما تحتوي على أبعادها، وهذه الأبعاد ضمنية وليست صريحة" ومن هنا يقترح (عدوي) ثلاث دوائر للأدب الإسلامي هي:

1 – دائرة الأدب الإسلامي.

2 – دائرة الأبعاد الضمنية ل الإسلامية.

3 – دائرة الأدب غير الإسلامي.

أما الدكتور (عمر الطالب) فإنه يستخدم مصطلح (المعيار الإسلامي) بدل (الأدب الإسلامي) وتأكيده على أن الأدب الإسلامي بوصفه (معياراً) يعني ضمناً أن هذا الأدب لا يشكل مدرسة أو مذهباً، حيث يرى الدكتور (عمر الطالب) أن المعيار الإسلامي هو "رؤية ترتبط في أساسها بالإسلام، ويهدف إلى إبراز أدب يحمل قيماً إسلامية ترتبط في عمقها بالنص القرآني"(23).

وتسمية (المعيار) قد تكون دقيقة إلى حد كبير، خصوصاً أن هذا الأدب الإسلامي ما زال متقوقعاً إلى الآن حول مفهوم الالتزام المحض، فضلاً عن أنه لم يتوسع لا زمانياً ولا كمياً، بحيث يتاح له أن يؤصّل له نظرية عامة تعبر عن أفكاره وقواعده النظرية، ونتاجاته الأدبية، إذ ما زال الخلاف إلى الآن حول سعة المرجعية التصورية لهذا الأدب هي كامنة في المسانيد التشريعية (القرآن والسنة) أم يمكن الاستعارة عن مذاهب إيديولوجية أخرى.

أما الرؤية الاستشراقية لهذا المصطلح فإنها تختلف إلى حد كبير عن غيرها من الرؤى، إذ كثيراً ما تم التأكيد ضمن دائرة الاستشراق الغربية، على أن مصطلح (الأدب الإسلامي) بمفهومه الزماني (العصور الأدبية) أو بمفهومه الحضاري لا يجسد خصوصية الأدب الإسلامي الملتزم ومن هنا فقد دعا البعض إلى النظر في "أدب الحضارة الإسلامية كلها ابتداء من عصر النبوة إلى الآن في إطار هذا المصطلح لأن الإسلام هو روح الحضارة العربية ولا يمكن النظر في أي مظهر حضاري في غيبة روح هذه الحضارة(24).

ويرى المستشرق الأمريكي (جوستاف فون جرنباوم) بصلاحية مقياس (الإسلامية) معللاً ذلك بأن (أربابها اندمجوا معاً في دين واحد، ووحدة الآداب ظلت متماسكة الأطراف لأن أصحابها توحدوا في تجربتهم الوجودية ومنازعهم الفكرية الأساسية، والانطواء تحت سلطان مبادئ تنص على الشكل وطريقة التعبير واشتراكهم في نظام سياسي واجتماعي عاشوا في ظله)(25)

ومنطق خلط الأوراق والانتقاء الجزئي الذي اعتمده المستشرقون دفعهم إلى مبدأ التوحيد بين الشعوب العربية و الإسلامية، فيأتي (الأدب العربي) مثلاً مرادفاً (للأدب الإسلامي) وهكذا.. وهذا ما نجده في المصطلحات العديدة التي استخدموها والتي نجملها على الوجه الآتي(26):

1 – فنجد مثلاً مصطلح (أدب الشرق المسلم) و(آداب مسلمي الشرق) أو آداب المسلمين، وشعر عالم الإسلام، وشعر المشرق الإسلامي.

2 – قد نجد مصطلح (الأدب الإسلامي) بطبيعته العامة، أو مصطلح (النثر الفني الإسلامي، أو الشعر الإسلامي، بطبيعته الخاصة).

3 – ذكر مصطلح (الشعر الديني) وهو يفسر شعر المدائح النبوية، والتوسل، والتمجيد بالأولياء.. وهذه المصطلحات (البدائل) التي يقدمها المستشرقون إنما تعبر عن مقاصدهم السالبة تجاه التراث الشرقي، الذي يريدون إفراغه من محتواه الإنساني العالمي، فيعملون على تجزئته حينما ينفعهم معيار القسمة، وأحياناً يعملون على توحيده من أجل خلط التصورات، والعقائد متعللين بالتداخل الحضاري وبوحدة الروح المحرك للحضارة الإسلامية وهو (الإسلام). إن صورة الإسلام لا تكمن في تراثه الوضعي، ولا في حضارته العريضة، وإنما تكمن في مسانيده التشريعية المعتمدة من لدن الملة الإسلامية وهي القرآن والسنة. فما وافق تصورات هذين الاسنادين التشريعيين فهو موافق لروح الإسلام، وما خالفهما فهو مخالف له أيضاً. أما أن نجعل الإسلام ثوباً فضفاضاً، ولافتة يقبع خلفها خليط غير متجانس فكرياً وعقائدياً، فهذا هو منطق المغالطة، الذي التزمه أغلب المستشرقين الغربيين، طبعاً، مع اعتذارنا للجهود العلمية التي بذلها بعضهم في سبيل خدمة تراثنا العربي و الإسلامي.

إن الإسلام بوصفه ديناً عالمياً وليس إقليمياً فحسب، إنما يعمل على تفعيل هذا الأدب الذي نرجوه إنسانياً ومتوازناً وخلاقاً، ذلك أن الإسلام "يطرح من خلال قرآنه وسنة نبيه رؤية جديدة تكون والعالم والحياة والإنسان رؤية تجيء بمثابة انقلاب شامل في كل الرؤى المحدودة، والمواصفات البصرية القاصرة، والأعراف والقيم والتقاليد والممارسات المبعثرة الخاطئة. رؤية تبدأ انقلابها هذا في صميم الإنسان، في عقله وقلبه وروحه ووجدانه وغرائزه وميوله ونوازعه لكي تصوغه إنساناً جديداً، قديراً على تحقيق التغيير المطلوب في بنية العالم، وصيرورة الحركة التاريخية(27).

ونعتقد بأن الخطاب النظري للأدب الإسلامي، إنما يعوزه الدقة الموضوعية والتأمل العميق قبل التعميم، والابتعاد عن النبرات الانفعالية والشعارات الخطابية، واللجوء إلى منهجية علمية أو نظرية معرفية محصنة يحتكم إليهما، فكرياً وعقائدياً، ما دام التصور الإسلامي هو منطلقها الأساس. ويترتب عليه أن يكون واسع الرؤية منفتحاً على الأنساق المعرفية والإنسانية، وهو طبعاً يحتاج لعنصر الزمن الذي "يتيح له فرصة الهضم والتمثيل لترجمة معاناة التجارب ترجمة صادقة، ثم طرح النماذج الني تتوفر فيها الأصالة والإبداع أمام شعرائنا الرواد وأدبائنا، ولعل مدرسة أدبية جديدة في أدبنا المعاصر تتبلور محاولاتها ليأخذ أدبنا مكانته بين آداب الأمم الأخرى، ويقوم بدوره عاكساً طموحاتنا الإنسانية وكاشفاً عن مثلنا وقيمنا الإسلامية، وبذلك نستطيع توصيل معطياتنا الفكرية والأدبية والفنية بكل ما تحمل من نبل وإبداع إلى المجتمعات البشرية)(28).

       

قائمة المصادر والمراجع:

الكتب:

1 – الأدب الإسلامي – أصوله وسماته: محمد حسن بريغش، دار البشير، عمان، ط1، 1992.

2 – جمالية الأدب الإسلامي: محمد إقبال عروي، المكتبة السلفية، الدار البيضاء، ط1، 1986.

3 – في الأدب الإسلامي المعاصر – دراسة وتطبيق: محمد حسن بريغش، مكتبة الحرمين، الرياض، ط1، 1982.

4 – في النقد الإسلامي المعاصر: د. عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، لبنان، ط1 1972.

5 – محاولات جديدة في النقد الإسلامي: د. عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1981.

6 – مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي: د. عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1987.

7 – مدخل إلى مناهج الدراسات الأدبية: د. عمر محمد الطالب، منشورات دار عكاظ، الرباط، 1988.

8 – مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي (المنهج والتطبيق): المناصرة، دار البشير،ـ الأردن، ط1، 1997

9 – منهج الفن الإسلامي: محمد قطب، دار الشروق، بيروت، ط5، 1981.

10 – نحو آفاق شعر إسلامي معاصر: حكمت صالح، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1979.

الدوريات العربية:

1 – الأدب الإسلامي بين المفهوم والتعريف والمصطلح: د. سعد أبو الرضا، مجلة الأدب الإسلامي، المملكة العربية السعودية، ع دار المجد، ع(7) 1995.

2 – حوار مع الشاعرة علية الجعار: حاورها عنتر مخيمر، مجلة الأدب الإسلامي، السعودية ع(7) 1997.

3 – صورة المرأة في الرواية الإسلامية والشهود الحضاري: محمد إقبال عروي، مجلة المشكاة، م(7) ع (25) 1997.

4 – مفهوم الأدب الإسلامي عند المستشرق الأمريكي حبرونباوم: عبده زايد، المشكاة، ع(27 -28) 1998.

5 – مفهوم الأدب الإسلامي ومميزاته: د. عبد القدوس أبو صالح، مجلة المشكاة، وجدة، ع (7-8-9) ط1، 1998.

6 – من بدائع الأدب الإسلامي: د. محمد بن سعيد الدبل، عرض: د. حسين علي محمد، مجلة الأدب الإسلامي، المملكة العربية السعودية، دار المجد، ع(7) 1995.

7 – وقائع مؤتمر (رابطة المستقبل الإسلامي "العالمية" بإستانبول): د. غريب جمعة، مجلة المشكاة، م (7) ع (25) 1997.

الهوامش:

(1) في النقد الإسلامي المعاصر: د. عماد الدين خليل، ص 39، 40، 41.

(2) منهج الفن الإسلامي: محمد قطب، ص 265، 266.

(3) من بدائع الأدب الإسلامي: د. محمد بن سعد الدبل، عرض: د. حسين علي محمد، مجلة الأدب الإسلامي، السعودية، دار المجد، ع(7)، 1995، ص39.

(4) الأدب الإسلامي –أصوله وسماته: محمد حسن بريغش، ص10،11.

(5) الأدب الإسلامي بين المفهوم والتعريف والمصطلح: د. سعد أبو الرضا، مجلة الأدب الإسلامي السعودية، ع(7) 1995، ص 94.

(6) مفهوم الأدب الإسلامي ومميزاته: د. عبد القدوس أبو صالح، مجلة المشكاة، وجدة، ع (7-8-9) ط1 – 1998، ص 17 – 18.

(7) نظرية الأدب: رينيه ويلك واستنه وارين، ت. محي الدين صبحي، ص 43.

(8) جمالية الأدب الإسلامي: محمد إقبال عروي، ص 96 نقلاً عن لذة النص: بارت، ص 53

(9) مقدمة في نظرية الشعر الإسلامي (المنهج والتطبيق): المناصرة ص 5

(10) مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي: د. عماد الدين خليل، ص 79، 80.

(11) وقائع مؤتمر "رابطة المستقبل الإسلامي العالمية" بإستانبول: د. غريب جمعة، المشكاة، م7، ع25، 1997، ص165.

(12) الأدب الإسلامي بين المفهوم والتعريف والمصطلح، مجلة الأدب الإسلامي، ع7، 1995، ص 95.

(13) في الأدب الإسلامي المعاصر – دراسة وتطبيق: ص 64.

(14) الأدب الإسلامي، أصوله وسماته: ص 74: نقلاً عن (الملامح العامة لنظرية الأدب الإسلامي) د. الطاهر محمد علي ص98.

(15) م، ن: ص76: نقلاً عن (نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد): د. عبد الرحمن رأفت الباشا، ص92.

(16) صورة المرأة في الرواية الإسلامية والشهود الحضاري: مجلة المشكاة، وجدة، ع(7-8-9) 1998 ص 229.

(17) الأدب الإسلامي – أصوله وسماته: ص 107.

(18) حوار مع الشاعرة عليّة الجعّار: حاورها عنتر منحيمر: مجلة الأدب الإسلامي ع (7) 1997، ص 14.

(19) صورة المرأة في الرواية العربية والشهود الحضاري، مجلة المشكاة ع(7-8-9) 1998، ص227.

(20) الأدب الإسلامي – أصوله وسماته: ص 33.

(12) الأدب الإسلامي بين المفهوم والتعريف والمصطلح: مجلة الأدب الإسلامي، ع(7) 1995، ص 94- 95.

(22) جماليات الأدب الإسلامي: ص 219 – 220.

(23) مدخل إلى مناهج الدراسات الأدبية: ص 229 – 239.

(24) مفهوم الأدب الإسلامي عند المستشرق الأمريكي جرونباولم: عبده زايد، المشكاة ع(27 – 28) 1998، ص 42.

(25) م، ن: ص 67.

(26) م، ن: ص 45- 47- 46.

(27) محاولات جديدة في النقد الإسلامي: د. عماد الدين خليل: ص9.

(28) نحو آفاق شعر إسلامي معاصر: حكمت صالح، ص 7 – 8.