التطابق والاختلاف .. حول إعادة كتابة النقد الإسلامي المعاصر

د. محمد سالم سعد الله

 التطابق والاختلاف .. حول إعادة كتابة النقد الإسلامي المعاصر

د. محمد سالم سعد الله

[email protected]

 في بداية الحديث يمكن طرح التساؤل آلاتي : هل يحضر الهم النقديّ الموجود في دوائر الصراع في المجتمعات الغربية ، في التطور النقدي والمنهجي الإسلامي المعاصر ، وهل يتم تمحيص المشاهد الجدلية في ذلك الصراع ، وغربلتها لتكون مؤهلَة لاستقبال المتلقي والمثقف العربي والإسلامي ، وهل تم تحقيق الهوية الإسلامية عند امتلاك وتبني الطرح النقديّ الوافد ، وفي حال التسليم بتحقيق ذلك - أي بكون الهوية واقعاً عينياً - هل كانت الأولوية بتقبل الطرح المنهجي : مصلحة الناقد ، أم مصلحة البيئة النقدية الاجتماعية ... ؟ .

أسئلة كثيرة ، واستفسارات منهجية عديدة ، لأنَ الخُطى التي يتم تبنيها تختلف عن الخُطى التي يراد تحقيق الهوية بظلّها ، فالطرح النقديّ العالميّ يريد من الناقد الدخول في عالم  النص واقتحام حصونه ، والطرح النقديّ الإسلاميّ يريد من الناقد تحقيق الهوية أولاً ، ثم اقتحام النص ثانياً ، وما دام المساران مختلفين ، فإنَ النتائج ستكون مختلفة أيضاً ، والسمات النقدية للطرحينٍ ستكون متباينة .

إنّ النظام النقديّ المعاصر يعتمد على نظامٍ واعٍ لتحولات انفتاح الإنسان ، وتعامله مع الآخر ، وإدراكه أهمية التواصل مع الأصوات المتعددة ، المانحة لرسائل تعين في بيان منزلة الآخر ، وترسم موقعاً متعالياً للأنا .

إنّ المسيرة النقدية المعاصرة لم تفسح المجال للإتجاهات النقدية التقليدية ، أو (المُقلِدة) من ممارسة نشاطاتها بعيداً عن التبعية والتسليم لآراء الآخر ، وقد قاد هذا إلى تحقق ثنائية       ( الدونية والفوقية ) في الساحة النقدية العالمية .

ويمكن القول أنّ محاولات أو مقاربات النقد الإسلاميّ المعاصر لم تخرج عن التبعية للآخر على صعيد التنظير والتطبيق ، بل لم تمارس فرديتها في بناء خصوصية فنية نقدية يمكن أن يُشار إليها بالبنان .

ويقتضي التوجه السابق تحديد أهم الأسباب التي أسهمت بشكل فاعلٍ في بقاء مسيرة النقد الإسلامي المعاصر في إطار المزالق والمعوقات ، وليس في إطار المكاسب والإنجـازات ، ويمكن تقديم أهم الأسباب بالآتي :

1.     بروز نقاط الضعف المنهجيّ والفنيّ في تقديم ممارسات النقد الإسلاميّ المعاصـر .

2.     عدم الاهتمام بالتغيرات الحاصلة في البنية النقدية العالمية على صعيد التحولات المنهجيّة والتغيرات الأدبية .

3.   انشغال نقاد الأدب الإسلاميّ المعاصر بالنصح والإرشاد في تقديم نتاجاتهم ، أكثر من اهتمامهم بتقديم النتاجات الأدبية والنقدية بصورة جمالية فنية .

4.   عدم استطاعة النقد الإسلاميّ المعاصر من مجاراة النقود المنهجيّة العالميّة في صعيد البنيوية وما بعد البنيوية ، نظراً للبون الشاسع بين النقدين : ( الإسلاميّ ، والغربيّ ) .

5.     انحسار الأدب الإسلاميّ بين أروقة ميادين العبادة ، وألسنة الدعاة .

6.   يتصف رجال الأدب الإسلاميّ المعاصر ونقده ـ في الغالب ـ ببعدهم عن الختصاص الدقيق في الأدب والنقد ، ويقود هذا إلى وصف نتاجاتهم بكونها ممارسات متموضعة من خارج النقد ، وليس من داخله ، وقد خلق هذا فجوة كبيرة بين ما يطرحه هؤلاء النقاد ، وبين طروحات النقد المنهجيّ المعاصر .

7.   عدم الإتفاق على صيغة منهجية اسلامية واضحة في مقاربة النصوص الإبداعية ، ويمكن الحديث عن مشروع اعادة كتابة النقد الإسلاميّ المعاصر من خلال محورين هما :

الأول : من تخبطات النقد العربيّ إلى اتزان النقد الإسلاميّ .

الثاني : من الابتـــداء إلى الانطـــلاق .

 

          المحور الأول : من تخبطات النقد العربيّ إلى اتزان النقد الإسلاميّ .

إنّ الساحة النقدية العربية المعاصرة بحاجة إلى مشروع نقديّ يحاول إعادة التوازن التنظيريّ والتطبيقيّ إليها ، نظراً لعجز النقد العربيّ عن تقديم أجندته ، وبرنامجه ذي الخصوصية المنشودة ، بعيداً عن الدوران في فلك الطروحات النقدية الحديثة ، وقد يمنح هذا الأمر فرصة كبيرة لتقديم النقد الإسلاميّ المعاصر ، بوصفه بديلاً عن الطرح النقديّ العربيّ ، الذي لم يمتلك بعدُ ناصية الطرح المتوازن والدقيق ، ولم يكتسب هويةً مميزةً يمكن تبنيها في كشف الأبعاد الجمالية للنصوص .

إنّ النقد العربيّ المعاصر يُعاني اليوم من أزمات معرفية وثقافية ، يمكن تحديدها بالنقـاط الآتية :

1.   صيرورة النقد العربي الحديث إلى تكتلات تراتبية ، لمجموعة من المقولات الغربية ،  التي لا تمتلك الفحص الدقيق لمناسبتها ، أو عدم مناسبتها للنص العربي أو واقعه .

2.   الانبهار المعرفي بآفاق النقد الغربي الحديث ومعطياته ، والتسليم - في الغالب - بجميع النبرات التي تصدر عن هذا النقد .

3.   تقمص المناهج النقدية الحديثة ، وتفريغ محتوياتها في الدرس النقدي والتحليلي للنصوص العربية : التراثية والحديثة ، بحجة أنَ النصوص العربية - لا سيما التراثية ما زالت بِكراً لم تُكتشف جمالياتها بعد .

4.   استقبال معطيات النقد الغربي الحديث المتمثل بمناهجه المتعددة - لا سيما موضوع البحث هنا : البنيوية ، وما بعد البنيوية - من دون النظر إلى الخلفيات الفلسفية ، أو المرجعيات اللاهوتية ، أو التميز الحضاري والثقافي ، أو السلوك الدوغمائي المسُيطر عليها ، والخطر يتمثل في قراءة النص المقدس - القرآن الكريم - بآليات لا تُفحص برؤية علمية دقيقة ، وحذرة .

5.   عدم الثقة بالموروث النقدي العربي الأصيل - في الغالب - ، وعدم الثقة في هذا الإطار صرف جلَ النقاد العرب المحدثين من الماضي الزاخر ، إلى الحاضر الغربي المُمركز .

6.   الأقلمة المفتعلة التي اصطبغت بها بحوث النقد العربي ، وأسهمت - بشكل كبير - في تقديم مواقف مُدجنَة قيَدت الفكر العربي بمحدودية حركة المكان .

7.    غياب الهم النقدي عند النقاد العرب المعاصرين من قبيل غياب تحديد نظرية نقدية عربية تقوم على أسس عربية أصيلة ، موغلة في القِدم ، ومتجذرة في الواقع الحداثي ، وانطلاقاً من ذلك يمكن التساؤل : ما الذي يجمع بين الناقد عبدالله ابراهيم وسعيد الغانمي وفاضل ثامر من العراق ، مع عبدالله الغذامي من السعودية ، مع علوي الهاشمي من البحرين ، مع كمال أبي ديب ومحمد عبده وعلي عقلة عرسان من سوريـا ، مع عز الدين اسماعيل وجابر عصفور ومحمد عبد المطلب من مصر ، مع عز الدين المناصرة وبسام قطوس من الأُردن ، مع سعيد بنكراد وعبد الفتاح كليليطو ومحمد مفتاح من المغرب ، مع عبد السلام المسدي ومصطفى الكيلاني من تونس ، مع مطاع صفدي وعلي حرب من لبـنان ، ... ، والجدير بالإشارة إلى أنّ هناك محاولات نقدية عربية لوضع نظرية نقدية عربية معاصرة ، لكنها محاولات لم تكتسب شهرة واسعة بسبب فرديتها ، وعدم تناسقها مع مجمل الطرح النقدي العربيّ .

8.    تبعية خطاب النقد العربي المعاصر لخطاب السلطة السياسية ، وقد أدى هذا إلى تهميش فاعلية الخطاب الأول وقولبته ، وتسييره لخدمة الخطاب الثاني ، والدوران في ساحته .

وقد أكدَ بعض النقاد العرب على معاناة النقد العربي الحديث ، حيث ذكر ( عبد العزيز حمودة ) : أنَ الناقد العربي يعيش شرخاً ثقافياً ، نتيجة الثنائية الآتية : الانبهار بمنجزات النقد الغربي ، واستصغار المنجز العربيّ ، ويُبين أنَ الحداثة العربية كانت نتيجة لهذا الانبهار لا سبباً له ، ويذكر أنَ المعادلة أصبحت تتحول من التأثر بالآخر إلى الاندماج فيه([1]) .

ويضيف " أنَ الحداثيين العرب أضافوا إلى سوء الفهم والتشويه ، غُربة المفاهيم المستوردة ومصطلحها النقدي ، أي أنَ الفكر الحداثي العربي في حقيقة الأمر وُلِد محكوماً عليه بالغربة([2][2]) ، فضلاً عن أنَ القطيعة المعرفية مع التراث ولَدت فجوة وفراغاً ، وجاء الفكر الغربي بوصفه البديل لملئ ذلك الفراغ([3])

      ويشير ( حمودة ) في موضع آخر إلى أنَ المعطى النقدي الغربي وحداثته هو نتاج بيئتـه ، وهو حاصل ارتقاء مجموعة أفكار ساعدت في نشوء ذلك النقد ، وذلك الفكر ، وهو بالطبع لا يناسب النصوص العربية ، ونقدها([4])

     أما الناقد ( سعد البازعي ) فيذكر أنَ مناهج النقد الأدبي في الغرب متحيزة في جوهرها للأنساق الحضارية التي نشأت فيها ، وأنَ الناقد العربي أمامه طريقان([5]) :

         الأول : تطبيق تلك المناهج مع مضامينها ، وتوجهاتها الفكرية والمعرفية .

         الثاني : إحداث تغيير جوهري في هذا المنهج أو ذاك ، والنتيجة اختلاف المنهج المُعدَل عن المنهج الأصل .

ويؤكد في الإطار نفسه : على أنَ القول بتحيز مناهج النقد الغربي ، هو قول بتحيز المناهج النقدية كلَها ، ونحن في حاجة ماسة إلى الموروث الفكري والنقدي العربي ، لتعزيز الموقف النقدي العربي المعاصر([6]) ، وفي الاتجاه نفسه يذكر ( محمود أمين العالم ) : " أنَ التيارات النقدية العربية بشكل عام ، ما هي ألا أصداء لتيارات نقدية في الفكر الأوربي "([7]) .  

     في حين يذكر ( مطاع صفدي ) - في معرض حديثه عن السؤال العربي للفلسفـة - : أنَ السؤال العربي للفلسفة يبقى سؤالاً خارج الفلسفة ، ما دام لم يدخل تاريخها ، لذلك يتأرجح هذا السؤال بين أن ينضوي تحت خطاب الفلسفة التقليدي ، أو أن يقف وحده في العراء ، فضلاً عن أنَ السؤال العربي المعاصر يريد خرق الحاجز التراثي ، ويدخل في تنظير الخطاب الفلسفي الغربي المعاصر ، ولن يكون لهذا السؤال حضور إن لم يتأصل ليصبح هو السؤال الفلسفي الخاص بعيداً عن التبعية([8]) .

وبناءاً على ما سبق يمكن القول : أنّ مقولة ( النقد العربيّ المعاصر ) لا تُشكل سوى وهم منهجيّ أيديولوجي ، تأتى من ( أنا ) مفتعلة متضخمة ، لا تُبصر إلاّ نفسها ، من خلال وهمها الميتافيزيقي ، ولا تنظر إلى الآخر إلاّ من خلال تعاليها ، الذي لا يستند على أبجديات التعالي وسماته ، فليست هناك منهجية عربية معاصرة في التعامل مع النصوص الإبداعية ، ويرجع السبب في ذلك إلى غياب الخصوصية العربية النقدية ، لأنّها تنظر بعين الآخر ، وتقرأ بأدواته ، وتحليلاتها لا تحمل هويةً ذات مفاهيم خاصة تسهم في بناء منهج عربيّ نقديّ مميـز ، وقد اتسمت علاقة استقبال النقد العربي للمنهجيات الغربية بالخصائص الآتيـة :

1.     تلخيص المقولات النقدية .

2.     التوصيف والمبالغة فيه .

3.     التأثر المبالغ فيه بالآراء النقدية والتسليم لها .

4.     المُؤآلفة بين مقولاتٍ متباينة .

5.     رجحان كفة المُعوقات والمزالق ، على كفة المكاسب والتناسب في ميدان التعامل مع النقد الغربي المعاصر والتأثر به .

6.   فساد النتائج النقدية بسبب فساد مقدماتِها ، وقد تأتى هذا من محاولة النقد العربي تجاوز مرحلة التأخر النقدي الحديث ، من خلال تطبيق مفاهيم تجربة حضارية عبرت عن مراحل نموها في بيئة مخصوصة ، إلى بيئة حضارية أخرى لا تتمتع بمراحل النمو نفسِـها .

إنّ الساحة النقدية العربية المعاصرة ، تتسم بالتخبط المنهجيّ ، ما بين تبنٍ للبنيوية وللتفكيكية ولمدارس التحليل النفسي وطروحات النقد النسوي ومعطيات منهجي الحفريات والأنساب وغيرها ، وهذه الساحة بحاجة ماسة إلى منهج نقدي متزن يستند على خلفية فلسفية رصينة ، تُنظم المقولات ، وتحاور النصوص ، وتقدم معطياتها الفكرية والمعرفية والثقافية ، وهذا المنهج يجب أن يتصف بالأصالة ، والحداثة ، ووضع الأنا بشكل متناسق ومتوازن في حوارها مع الآخر بشكل غير متعالٍ ، من قبيل عدم تعظيم الجانب الفردي على حساب استصغار الجانب الجماعي .

ولعلّ المنهج النقدي الإسلامي المعاصر هو الأقدر على تسلم مقاليد هذه الساحة النقدية لأسباب كثيرة من أهمها :

1.     شهرة هذا المصطلح ، وقربه من ميادين الدراسات المنهجية العربية .

2.     تنوع الكتابات العربية وكثرتها في معالجة قضايا هذا المنهج .

3.   تجنب مقولة النقد العربي للإبتعاد عن الخوض في مزالقه الأيديولوجية والإقليمية ، والخلافات المفتعلة القائمة في طروحاته .

4.   الإبتعاد عن تركات النقد العربي على صعيد التداول والممارسة ، بسبب محاولته لإختزال اللغة والأدب والنقد في خصوصية عربية غائبة .

 

             خطوات منهجية لإعادة كتابة النقد الإسلامي المعاصر :

إنّ النقد الإسلامي المعاصر مطالب اليوم بتجديد فكره النقدي ، ومحاولة اعادة طروحاته بما يُؤهله لقيادة مجمل الطرح النقدي المعاصر ، ويتمثل ذلك من خلال صعيدين اثنين هما :

الأول : ساحة النقد العربـي .

الثاني : ساحة النقد الإسلامي .

والنهوض بهذه المهمة يقتضي تحقيق مجموعة خطوات منهجية ، يمكن تحديدها بالآتي :

1.  الانطلاقة المنهجية الأولى يجب أن تكون من تحديد علاقة الانفصام بين الفرد وخالقـه ، أي تحديد علاقات الأزمة الناشئة بين العبد وربه ، ومحاولة تنظيم التواصل بين مملكة الأرض ، ومملكة السماء .

2.   تطوير البنية النفسية للأفراد لتكون متوازنة مع التغيرات الحاصلة في البنية الاجتماعية  والاقتصادية للمجتمع ، وهذا التطوير بحاجة إلى فلسفة تحتويه ، والفلسفة الإسلامية قادرة على احتواء ذلك .

3.     بيان تبعات انغماس الإنسان بالمنهج العلمي التجريبي الفيزيقي ، وبعده عن النهج الروحي الميتافيزيقي .

4.   تحديد العلاقة المنهجية بين أركان الحدث الكلامي (Speech Act  ) : الناص والنص والمتلقي ، انطلاقاً من تحديد موقف النقد الإسلامي من دعوات فلسفة عزل الإله الغربية .

5.   وضع أسس نقدية لبيان الرؤية الإسلامية من ثنائية الدال والمدلول ، وامكانية أو عدم امكانية تعدد الدال ، واختلاف المدلولات ، أو تغييبها للوصول إلى مرحلة لا نهائية الدلالـة .

6.   تحديد الموقف النقدي الإسلامي من بنية الهوامش الاجتماعية ، التي تسهم في انعاش الطرح النقدي المعاصر ، وممارساته المنهجية من قبيل ( المؤسسات الاجتماعية ، والسلطات السياسية ، والدوائر والبورصات الاقتصادية ، والفكر الاجتماعي المعيش ) .

7.   رسم خصوصية نقدية إسلامية في التعامل مع النص النسويّ ، ووضع فلسفة للأُنوثة ، تقدم إمكانات الاستفادة من الإبداعات النسوية ، ومحاولة تصنيف تلك النقود ، وبيان أهميتها ، فضلاً عن تصوير منزلة المرأة في الإسلام ، ومشاركتها للرجل في نتاجاته وإبداعاته .

8.   إنشاء مدرسة نقدية إسلامية تُدين بولائها للمنهج النقدي الإسلامي ، وتقدم طروحاتها انبثاقاً من الطرح الأكاديمي ، الذي يتسم بالانحياز الكامل للدقة العلمية الرصينة .

9.   محاولة رفع الوعي النقدي الإسلامي عند النقاد العرب من خلال تحديدٍ اصطلاحيّ منضبط لمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة ، ومصطلحات المناهج النقدية الغربية كالبنيوية ، وما بعد البنيوية ، والتأويلية وغيرها .

10.    تحديد موقف النقد الإسلامي المعاصر من المقولات النقدية لما بعد الإستعمارية ( ما بعد الكونيالية ) ، وطروحات الدراسات الثقافية المتنوعة ، ونقود ممارسات المجتمع ما بعد الصناعيّ ، وتقديم المواقف الإسلامية البديلة عن ذلك ، أو على الأقل الدخول في حوار علميٍّ معها .

11.    تحديد الموقف النقدي الإسلامي من مفهوم النزعة الإنسانية ، ودور هذه الأخيرة في بناء النص النقديّ والأدبيّ ، بعيداً عن مهيمنات البنية والأنظمة الدلالية والأنساق النصية .

12.   خلق عناصر قوة نقدية داخل وعي الناقد ، بضرورة الإيمان بمستقبل النقد الإسلامي المعاصر ، والمراهنة على أحقيته في امتلاك الواقع النقدي العربي في المستقبل .

13.    محاولة تفعيل مسار جديد لإعادة تنظيم قدرات الإنسان المبدع ، من خلال خلق مسار جديد للغة يبتعد عن الهم الذاتيّ ، ليدخل في نظام لغوي اجتماعي ذي صبغة إسلامية ، بحيث تكون النتيجة : إنّ قوة الفكر النقدي الإسلامي الجديد يعبر عن قوة اللغة الجديدة المستخدمة لحمل أفكار مخصوصة .

 


 

المحور الثاني : من الابتــداء إلى الانطــلاق .

لقد وقفت المحاولات النقدية الإسلامية المتواضعة ـ والبائسة أحياناً ـ أمام تطور النقد الإسلامي ، ومثلت حاجزاً كبيراً أمام انتشاره ، بسبب اتجاهاتها السطحية في تقديم التنظير ، وسوء التعامل مع النصوص في ميدان التطبيق ، ومن تلك المحاولات ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ :

1.     الاتجاه الإسلامي في الشعر الحديث ، مأمون فريز جرار .

2.     الأدب الإسلامي ( إنسانيته وعالميته ) ، عدنـان النحوي .

3.     الحداثة في ميزان الإسلام ، عوض بن محمد القرنــي .

4.     في الأدب الإسلامي المعاصر ، محمد حسن بريغــش .

وفي مقابل ذلك قدمت محاولاتٌ نقديةٌ أخرى النقدَ الإسلاميَّ بوصفه المنهج المتزن ، الذي يستطيع مقاربة النصوص الإبداعية ، والذي يمتلك أُسس بقائه ، وامكانية تكيفه مع المتغيرات النقدية الآنية والإستقبالية ، ومن تلك المحاولات :

1.     الإسلامية والمذاهب الأدبية ، نجيب الكيلاني .

2.     مدخل إلى الأدب الإسلامي ، نجيب الكيلاني .

3.     في النقد الإسلامي المعاصر ، عماد الدين خليل .

4.     محاولات جديدة في النقد الإسلامي المعاصر ، عماد الدين خليل .

5.     نظرية الأدب الإسلامي ، عماد الدين خليل .

6.     جماليات الأدب الإسلامي ، محمد إقبال عروي .

إنّ المنهج النقدي الإسلامي المعاصر مطالبٌ اليوم ببناء إنسانية الإنسان ، ومحاولة ترميم الفكر ، واعادة انشاء القيم كما أرادها الإسلام ، لا كما نريدها نحن ، زمطالبٌ بالدعوة إلى اعادة هيكلة الفكر العربيّ من خلال تقديم البديل الأمثل لهذا الأخير ، الذي تجب أن يتصف بالمحافظة على الأصالة والحداثة ، بمعنى امتلاك الماضي ، واحتضان الحاضر ، والتطلع إلى المستقبل من دون الجنوح نحو أحد هذه العناصر على حساب الآخر ، فضلاً عن دور هذا المنهج في المحافظة على بقاء مشروعية الإنسان في الإبداع ، في مقابل فلسفة المناهج النقدية الحديثة التي ترمي إلى هدم الإنسان عبر هيمنة البنية عليه ، منطاقة من عزل النص عن ناصه ، واضفاء صفة التقديس على المنتوج لا على المنتِج ، ثم الإيمان بضرورة الإنتماء إلى مقاربات الناقد ، وتقديسها ، بوصفها انتاجاً جديداً ، أو بوصفها تأليفاً ثانياً يضاف إلى التأليف الأول .

على الأدب الإسلامي أن يعي أنّه بحاجة إلى أن يتحول إلى برامج توجيهية عالمية متحيزة ، وليس برنامجاً ساذجاً اقليمياً ، يدعو إلى عبادة الله ( عزّ وجلّ ) ، والحث على كسب رضوانه فحسب ، ويجب الإيمان بذلك إذا علمنا أنّ نظريات الأدب عبر مراحل تطورها في التاريخ الغربيّ ، لم تمثل سوى برامج توجيهية ، وسيناريوهات معدّة أساساً لإمتلاك الإنسان ، والسيطرة على مقاليد السياسة والإجتماع ، ويمكن التمثيل عاى ذلك من خلال القول : إنّ الناقد كان يعيش على ما يكتبه الأديب ، أما الآن فالعملية معكوسة ، إذ أصبح الأديب يعيش على مل يقوله الناقد ، بسبب توجه هذا الأخير إلى امتلاك النص ، والتلاعب به ، ومحاولة تأليفه بشكل مغاير عن شكله الإبداعيّ الأول .

لقد وُلِدَ النقد الإسلامي المعاصر في ظلّ تأزم العلاقة بين الفرد ومجتمعه أولاً ، ثم انفصال العلاقة بين الفرد وربه ثانياً ، وانقطاع التواصل بين العالم الواقعي ( الفيزيقي ) ، عن العالم الغيبيّ ( الميتافيزيقي ) ، وقد تأتى هذا بسبب التوجه العالمي إلى انكار الحقيقة الفلسفية المطلقة ـ وهي الغيب ـ ، وتطبع الدعوات المنهجية المختلفة بالطابع العلماني الدنيوي المادي ، الذي يُحول علاقات الإنسان إلى علاقات بين الأشياء ، وتتحول هذه الأخيرة ـ من ثمّ ـ إلى سلسلة من الرموز والإشارات والأشكال ، وقد قاد هذا إلى تصعيد الوعي الغربي تجاه دونية الآخر ، وتحديد الطبيعة الفوقية التي تحكم الآخر من خلال قطبية الأنا .

إنّ مسؤولية النهج النقدي الإسلامي تتجلى في تحديد نقطتين مهمتين هما :

1.     تحديد البنية التحتيـة للفـرد .

2.     تحديد بنية العلاقة مع الخالق .

تتضح النقطة الأولى من خلال عقلانيتها في المجتمع الغربي ، وخرافيتها في المجتمع العربي ، لأنّ البنية التحتية للفرد الغربي تتجلى بكون الإعتقاد والتدين شيء ، والسلوك الفردي والخلق شيء آخر ، فلا علاقة رابطة بينهما ، ولذلك فالأخلاق والتنظير والتطبيق وجميع الممارسات ، لا تخضع لأي معيار خلقي أو عرفي أو حتى ديني ، في حين أنّ البنية التحتية للفرد العربي تتجلى بكون الاعتقاد والتدين يمارسان رقيباً مهماً في تحديد أبجديات السلوك والتصرف الذاتي بعيداً عن الفوضى والتفلت من معايير الخلق العام أو الخاص ، وبهذا يمكن القول أنّ البنية التحتية للفرد الغربي يتضح فيها الانقطاع التام بين توجهات الفرد من جهة ، وتوجهات الدين من جهة أخرى ، والعلاقة هذه معكوسة تماماً في البنية التحتية للفرد العربي .

أما النقطة الثانية فتحدد بالقول : إنّ العلاقة مع الخالق هي علاقة عمودية تتصف بالترابط الدائم بالفعل وبالقوة ، بالعمل وبالفطرة ، أما العلاقة مع الآخر فهي علاقة أفقية تتسم بالانقطاع والتواصل ، حسب مقتضيات العلاقة وشدة ترابطها ، وإذا ما اضطربت العلاقة الأولى اضطربت الثانية .

إنّ المنهج النقدي الإسلامي المنشود هو وليد شرعي للفلسفة الإسلامية الشاملة ، التي تعطي للروح كما تعطي للعقل ، وتهتم بالإنسان كما تهتم بنتاجاته ، وتفسر ابداعاته ، كما تحلل مقولاته للوصول إلى ما ورائيات الدلالة ، ولهذا فإنّ هذا المنهج يتسم بالثورية القائمة على روح العصر ، وعلى محاولاة المنهج والثقافات المختلفة ، إنّه ثورة على العزلة والتقليد والعرف والتوارث ، إنّه ارتباطات مفاهيمية مع القومية والوطنية والأممية والعالمية ، إنّه اصطدام بالقواعد الساذجة التي تصور الأدب على أنه دعوة اصلاحية ، أو مرآة عاكسة للمجتمع ، أو خطبة وعظية للأفراد ، إنّه صِدامٌ مع أولئك الذين ادعوا امتلاك ناصية طروحاته ، وأسس بقائه ، إنّه نتاجات لمختص ، واستلهامات لباحث ، ومعطيات لمنظِر ، إنّه ثورة على الشكل كما هو ثورة في المضمون .

إنّ الغاية المعرفية التي يجب أن يضطاع بها النقد الإسلامي المعاصر هي : اعادة الناقد ( المختص ) إلى حقل المسؤولية المعرفية والثقافية ، التي من المفترض أن يقوم بها ، في استكشاف الأسس الفكرية التي نهض عليها هذا النص أو ذاك ، فضلاً عن اعادته إلى حقل الكفر بكلّ الفكار الجاهزة ، والدعوة إلى التحرر من تقديس الأسلاف ، وسطوة التنظير الغربـي المعاصر .

على النقد الإسلامي أن يكون جريئاً ، غير مُهادن ، أو مجامل ، عليه أن ينبثق من الواقع النقديّ أولاً ، ومن الواقع الديني ثانياً ، وعليه صوغ مشكلات تخلف الواقع بصياغة نقدية فنية وجمالية ، تنتج الأفكار ، وتصوغ النظريات ، عليه احتواء النصوص المتزنة والمبدعة ، والبحث عن الأفكار العقلانية المنتظمة ، وغربلة جميع النصوص التي تعكس هشاشة مبدعها ، ووضاعة نتاجها ، عليه أن يخرج من ديكتاتورية الأسماء إلى الأسماء المبدعة ، عليه أن يحطم حواجز الخوف من الآخر ، كي يقتحم مملكته ، ويكتسب لغته ، ومن تعلم لغة قوم أمن مكرهم .

وكما أنّ العلمانية تحتاج لرسلٍ مبدعين لصياغة الشهوات ، وصناعة الأفكار ، بحيث يتحول الإنسان عندهم إلى إنسان خارق ( سوبرمان ) ، يتحول إلى إله جديد يستطيع أن يُبدع في كلّ شيء ، ويقدم الحلول لجميع المشكلات ، كذلك الإسلامية التي تحتاج إلى مبدعين يعملون بوصفهم بدلاء للرسل ، ينطلقون من قدرة العقلانية المسلمة على تقديم الحلول لجميع المشكلات ، وحلّ الأزمات ، لكن من دون أن يتحول الفرد المسلم إلى إله ، بل على العكس يتحول الفرد المسلم إلى جندي من جنود الإله ، يحكم بأمره ، ويتمثل لأوامره ، من خلال استخدام العقل الحاكم في مفاضلة الأمور ، واطلاق الحكم الصائب المناسب .

إنّ الناقد الغربي المعاصر مشتت بين ادراك حقيقة الدين ، أو نقدها ، وعدم التصديق بهـا ، وهو بذلك سلك مسارين لتوضيح حقيقة الدين في سلوكياته ، والمساران هما :

1.     الدين بما تدين أنت ، لا ما يفرض عليك .

2.     البحث عن الدين الجديد ، الذي يمتلك أسباب بقائه وتطوره .

أما الناقد الإسلامي فهو مدرك لحقيقة الدين ، ومؤمن بها ، والدينُ عنده دينٌ إلهيّ يمنحُ الأفراد خياراتهم ، ويدعوهم إلى التأمل والتدبر والتفكر والعمل والممارسة والسعي والإبداع ، وهو لا يقف أمام حرية الإنسان ، لكنه يحاول تنظيمها في إطار خطوط منسقة متسقة ، تحفظ للإنسان كرامته ، وتمنحه إنسانيته .

إنّ المنهج النقدي الإسلامي المعاصر مهيءٌ لتسلم الساحة النقدية العربية ، التي حاولت قراءة النصوص العربية بأدوات منهجية غير عربية ، وتبنت وانبهرت بمعطيات لا تنسجم وطبيعة النص العربي ، مما قادها إلى طمس هويتها ، والغاء خصوصيتها .

وتتحدد المهمة الأساس لهذا المنهج بيان الظروف الفكرية للنقد الغربي ، بمعنى آخر بيان الخواء الفكري الذي استند إليه النقد الغربي المعاصر من قبيل فكرة سقوط الإله وموته ، وعزل النص عن ناصه ، والدعوة إلى علمانية النص ، والبحث المتولصل عن البديل لاندحار الدين وتلوث مفاهيمه ، فضلاً عن تحديد العامل النفسي للمنطاقات النقدية الإسلامية ، بوصف هذا العاملِ المثيرَ الأساس لسلوكيات الأفراد وتوجهاتهم .

وإذا استطاع النقد الإسلامي ـ ممثلاً برواده ونقاده ـ من تحديد تلك المهمات ، والعمل على ممارستها وتفعياها ، فإنّه سيتوصل إلى النتائج الآتية :

1.     نقد الظواهر الأدبية بتجديد سماتها ، وتعليل تحولات شكلها ، وبيان ميزات مضامينها .

2.     تحديد اشكالية النقد في علاقته بالفلسفة من جهة ، وبالسياسة والإقتصاد والإجتماع من جهة أخرى .

3.     تحديد منعطفات النِتاجات النقدية المتمثلة بالآتي :

ـ منعطف النِتاج الإبداعـي          صناعة المُنظِر .

ـ منعطف المنتوج الإبداعي          صناعة الأديب .

ـ منعطف الناتج الإبداعـي          صناعة الناقـد .

4. تحديد الأبعاد المستقبلية لتطور حركة النقد المعاصر ، انطلاقاً من القول : إنّ النقد ما هو إلاّ عبارة عن فعل الحياة الذي يسري في عروقه .

           


 


([1]) ينظر : المرايا المقعرة : 31 - 32 .

([2]) المصدر نفسه : 190 .

([3]) المصدر نفسه : 195 .

([4]) المرايا المحدبة : 10 .

([5]) ما وراء المنهج : 267 .

([6]) ما وراء المنهج : 273 .

([7]) الجذور المعرفية والفلسفية للنقد الأدبي ، في كتاب : الفلسفة العربية المعاصرة ، ندوة : 75 . 

([8]) ينظر : نقد العقل الغربي : 22 - 30 .