كيف تصبح كاتباً (7)
كيف تصبح كاتباً (7)
السير قدماً
التأكيد الملح على العقيدة والسلوك
بقلم: محمد السيد
1 - لماذا التأكيد:
ليست الكتابة عبثاً من العبث، ولا هي نزوة نفس تائهة، تخط باليد ما لا تعرف عاقبته ولا موقعه من الناس ومن الأخلاق والمآل والأثر. إنها أمانة وعنوان: أما كونها أمانة، فلأنها كسائر المواهب التي منحها الله لهـذا الإنسان، بل تزيد عليها، كونها ممتدة التأثير والتحكم بالناس وأخلاقهم وعاداتهم وعلاقاتهم، وهي بهذا المعنى والأثر أمانة عهد بها لبعض الناس، يجب حفظها، وحسن التعامل معها، وربطها بالدين والسلوك السوي والتقوى والعقيدة السليمة.
وأما كونها عنواناً: فهي مفتونة بالعقل والتدبر، وبوابة للفكر النير، تخرج من قلب نازف بالتجربة والخبرة والمعاناة البريئة، لترتطم بالقرطاس ذوباً لطرف قلم أقضته مضاجع الغفلة، وكظمت غيظ عواطفه كلمات الله وتعاليمه، فهي كما قال زياد: ما قرأت كتاباً قط لرجل إلا عرفت مقدار عقله فيه، أو كما قال طريح بن إسماعيل: "عقول الرجال في أطراف أقلامها"، أو كما وجه يزيد بن المهلب ابنه حين استخلفه على خراسان فقال له: "إذا كتبت كتاباً فأكثر النظر فيه، فإنما هو عقلك تضع عليه طابعك"(1).
وفي قول الله تعالى: (فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)(2). مندوحة عما سواه في إثبات أن الكتابة أمانة، وأن الكاتب رقيب نفسه، وحسيبها على ما يخط يراعه بقلمه، لأن الويل ينتظره إن لم يؤد الأمانة، كما علمه الله إياها، ولذلك أردت في هذه السطور أن أعود لأؤكد على امتلاك العقيدة السليمة لعقل ويراع الكاتب، تتحكم بسلوكه، وتوجه موهبته، وتبني خبرته، وتصنع خياله وعبقريته، ليصبح إذا خط بيده فكره كما وصفه ابن المعتز في شعره:
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه تفتح نوراً أو تنظم جوهرا
2 - محاولات لاكتشاف الحقيقة بعيداً عن العقيدة:
قال ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر): "إن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال ومن جملته أني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذعان للمقدر فكان من أصعب التكاليف، وخصوصاً فيما لا يعلم العقل معناه، كإيلام الأطفال وذبح الحيوان مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك والآمر به، أرحم الراحمين"(3). إنها خلاصة عقيدة، العود فيها إلى ما قاله الله وقدره، وإلى ما نزل به الوحي وشرحه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحقيقة فيها تكون مرجعيتها قواطع وثوابت العقيدة، وليس الهوى والنزوة، أو العقل الذي نشأ وتربى ونما في حضن الوهم، وأوهام النفس المريضة البعيدة عن الله.
إن الحقيقة كل الحقيقة تجدها في راسخات كلمات الله المحكمات، وفي بيان رسوله القطعي الحكم. وفيما أجمع عليه المؤمنون في كل عصر ومصر، فلا تجري في البحث عن الحقيقة جري من أعشته كلمات تقال، ويراد بها الخداع؛ مثل قولهم : إنه لا أحد يمتلك الحقيقة!! فهذا كلام مخاتل فاسد الطوية، عقيم الفهم والإدراك ويراد به إخراجك أيها المؤمن من دائرة الاطمئنان والراحة النفسية إلى دوائر التيه، حيث لا تصل بعدها إلى أي يقين، وتمتلئ نفسك بشتى الأمراض، وتمتلك أمرك دواخل متقيحة متعفنة، غافية في طين لا ترفع عيناً عن جسد، ولا ترنو إلا من نافذة خيال لا يغادر النزوات ولا يفهم الواقع أو يرد عليه إلا من خلال ردات فعل كتابية وعملانية سلبية مبحرة في تلك الدواخل التي شرحنا حالها، وهو ما أراد أصحاب القول بعدم امتلاك أحد للحقيقة أن يصلوا إليه فوق رواحل من بناء فن كتابي، جعلوه حركة حملت كما قال أحد الناقدين: "الآثار المدمرة للواقع" في جريها خلف المثاليات النظرية الفلسفية، التي بنيت على مرجعيات تائهة في ضباب العقل البشري، القاصر عن إدراك سر كيف ولماذا، في كثير مما يدور حوله.
لذا يجب تنبيه الكاتب المؤمن إلى هذا المعنى الخطر، كي يحمي نفسه بالاطمئنان إلى الحقيقة المركوزة في عقيدته، كما وجب التأكيد على ذلك أكثر من مرة، من أجل تنبيه وعيه بمهمتين موكولتين إليه في هذا الخضم، ينميهما بالمران والتجربة. أولاهما: سيره دائماً إلى الأمام، وثانيهما: تعلق بصره وخياله بخدمة الإنسان الحثيثة في مهنته.
3 - انتفاش الباطل:
وينتفش الباطل، ويفرد ريشه، وذلك من أجل إحباط الحق الذي تحمله أيها الكاتب المؤمن، فلا يغرنك تقلبه في البلاد، ولا يوهنن عزيمتك أنك ترى وتسمع وتشاهد حفلات "الزار"، تقام في شتى الأرجاء، من أجل تكريم الشذوذ والاعوجاج، في محاولات لحرف مجرى نهر الحق، وجعله معزولاً عن التيار. ويتجلى هذا الانتفاش بصور شتى منها:
- الصخب الإعلامي الذي يثار حول هذا الكاتب أو تلك الشخصية ، بحيث ينقلب الفن إلى صفقات تديرها عقول وأيد مشبوهة، تبتغي الترويج لمن يقدم الخدمة الأكبر لأصحاب اتجاهات الهيمنة واستغلال الإنسان عامة لغايات أنانية فردية أو للون معين من البشر.
- الدعم والحماية المباشرة لمن يخدم بقلمه فكر الهيمنة ويروج له ولصوره العملية الحياتية الباطلة، وذلك عن طريق دعم وتسهيل سبل الانتشار، ودعم وتسهيل وسائل الاختراق للمجتمعات من أجل قيادتها نحول الالتزام بالباطل بعد بروز صورته المنتفشة.
- جواز المرور المفتوح إلى كل المناصب القيادية والثقافية، وإلى الهيمنة على معظم وسائل الإعلام الفعالة، بحيث يصبح الباطل من خلال هذه الترتيبات طعام الناس وشرابهم، الذي يشاهدونه ويسمعونه ويقرأونه ليل نهار، ليحاط بهم من كل الاتجاهات، فلا يرون إلى ما يرى أهل الباطل المنتفش على طريقة فرعون الموصوفة في القرآن الكريم: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
وبهذا يتيه السلوك العام، وينحدر، وتلهث السرائر والعلانيات البشرية خلف السراب المقروء والمسموع والمرئي، المبتغي تدمير هذا الإنسان، وجعله ترساً يدور لخدمة الآلة الصماء الكبرى، التي تاهت هي الأخرى خلف شهوة الحياة والرفاهية غير المتوازنتين، وغير المدركتين لمعنى الوجود الإنساني الحق في هذا الكون.
4 - تهافت ما يكتب بعيداً عن القضية:
مضت عقود طويلة منذ انطلاق هرطقات كتاب الشر الجاهلي، ومستقبل الثقافة في مصر لطه حسين ومروراً بالإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرزاق، وترتيبات سلامة موسى، وتخرصات لويس عوض، وتحرير المرأة لأحمد أمين وانتهاء بديكتاتوريات العلمانيين واليساريين، ومحاولات إقصائهم للإسلام وتصفية كل من ينادي به مرجعاً كاملاً صالحاً شاملاً لكل مجالات الحياة، ثم محاولاتهم اليائسة لدس السم في قراءات الناس ومشاهداتهم عن طريق الإبداع الأدبي الموبوء بالخنا والاعتداء على المقدسات والمسلمات الإسلامية، والترويج لكل ذلك خدمة للفكر التدميري الذي يبتغي إقصاء أمتنا وتهميشها، غير أن كل هذا الغثاء المتهافت من الفكر والسلطوية وما يزعم أنه (أدب)! لم يستطع أن يغير مسار الإسلام في تأثيره على مجتمعات المسلمين واحتضان المسلمين له بعقولهم وقلوبهم وعواطفهم، وفي كثير من تحركاتهم اليومية.. وذلك رغم ما قدم له من دعم مالي وإمداد إعلامي، وترويج سوقي، وتسهيلات مرورية إلى سطح الحدث، وأخيراً ما قدم له من احتضان سلطوي سخر في خدمة القمع والفردية.
فهل لذلك الإخفاق من سبب؟
نعم... فإن الانطلاق في الكتابة بعيداً عن المعرفة الربانية الحقة والعقيدة الإسلامية الربانية ومصدرها الأول والأساسي، يوشك أن يقود هؤلاء الناس إلى البوار والخبال في ميادين الحياة، مما يجعلهم يتخبطون ويهيمون على وجوههم جرياً خلف الأجوبة الضالة الحيرى على الأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسان عن حياته وما يعتريها من مفارقات وملابسات وتقلبات، وعن مصيره ومآله، وما يعنيه هذا المرور القصير به في الدنيا. وباختصار: عن موته وحياته، مرضه وصحته فقره وغناه، وصعود الأمم وزوالها: إلخ ما هنالك من أسئلة لن تجد لها جواباً حقاً إلا إذا رسخت عقيدة الإسلام السهلة البسيطة في صدرك وقلبك، وانطلق فيها عقلك وقلمك. . لأن الفلاسفة والمفكرين والعقلانيين الذين أعلوا عقولهم وأنهكوا فكرهم بحثاً وتقليباً لوجهات النظر في الأمور التي ذكرناها جميعاً بدون الهداية الربانية، لم يكتب واحد منهم جواباً يسد جوعة الناس لمعرفة الأجوبة السديدة.. واستمرت الحيرة والظلمة تسد أفق جميع البعيدين عن المعرفة الربانية، وظل المسلم المؤمن وحده - كاتباً كان أم أمياً - هو صاحب الطمأنينة والراحة النفسية المتولدة عن الإجابات الشافية المهتدية الصادر عن الله نبع المعرفة وأصلها.. ورغم أن ورثة الركام الفكري والمعرفي غير المستمد من النبع يصولون ويجولون اليوم بالمعارف المادية العلمية والتقنية، فإنهم في الحقيقة يقفون مذهولين أمام الاطمئنان اللامحدود الذي يتربع داخل حياة المؤمنين، رغم قصورهم التقني، ذلك لأن إجاباتهم السريعة والواثقة عن كل الأسئلة المحيرة، تشده أولئك العابثين، وتبعث فيهم ردات فعل غير متعقلة، بل خرقاء حمقاء متكبرة، تصدر عنها كتابات، ذات صورة أصلية غائمة السحنة، تائهة المعالم وصورة مقلدة تابعة.. فهي أشد تيهاً من الأصلية وأعظم في الضياع منها..
ففي حين يقول رب العزة في محكم ترتيله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فيحدد هذا الكلام معنى الحياة والعالم وغايتهما بأنهما مخلوقان لغاية عبادة الله وتسبيحه وذكره وترقية وسائل ذلك كله ما امتد الزمن، تجد رجلاً مسلماً ذا شأن في الكتابة والفكر مثل أحمد أمين يقلد الصورة المستوردة للمعرفة التائهة، ليسجل على نفسه في كتابه فيض الخاطر أفكاراً ممسوسة بالبعد عن الله، مثل: "لترى كيف تلعب الطبيعة بالإنسان لحفظ النوع"(4)، أو مثل: "ولك ما وضع من مبادئ أخلاقية، وقواعد قانونية إنما دفعت إليه الطبيعة لخدمة هذه العناصر الثلاثة"(5) أو مثل تقريره أن العلم كله يعمل كوحدة من أجل غاية واحدة هي "تحسين النوع"(6).
فالطبيعة هي المحركة، والغاية تحسين النوع.. وأين إذن الأجوبة الشافية؟ لا شيء سوى الدوران في المكان ثم في الخيال ولا يتسع المقام لأمثلة كثيرة من الكتابات العقيمة، التي لا تقود إلا إلى التردي بنوعية الإنسان، نتيجة لانحياز الكاتب إلى المصدر السقيم للمعرفة..
هذا والله أعلم.
الهوامش:
1 - من كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء ص 100.
2 - سورة البقرة / آية 79.
3 - صيد الخاطر/ دار الكتب العلمية - بيروت ص 36.
(4) (5) (6) فيض الخاطر ص 63 ط 5 نشر مكتبة النهضة.. مصر.
يتبع