كيف تصبح كاتباً (6)

كيف تصبح كاتباً (6)

تطوير الموهبة

المران والتجريب

بقلم: محمد السيد

تعينت الموهبة، وأينعت بوادرها، وهبت على النفس الكاتبة محاولات التجربة، واستيقظت القريحة، وحانت لحظة القطاف، ودخل الوقت، وقت الجد، وامتلأت قداح الفكر، وأزهر الليمون في حقول الموهبة وراحت الهمة تراود القلم، ليسطر أول كلمات، لكن ساقية الجميع ما تزال بطيئة العطاء، شحيحة الود، تتدفق حيناً، لتتر نزاً أحياناً كثيرة، وأنت.. أنت يا صاحب الموهبة تنتظر خوض اللجة على أحر من الجمر، تريد أن تذهب في بحر الكتابة أبعد شوط، مغامراً بالبدايات، من أجل الوصول العاجل، ظناً منك أن الحلم ذو جناحين شديدي المراس، وبهذا يسلمك التعجل لقطف البراعم قبل تفتح أزهارها، وقبل وضع القدم الأولى مرات ومرات، تجس الديار، وتختبر التجربة، هل هي طرية تنزلق فوقها بدون أنيس؟ أم هي صلبة متماسكة مختبرة متراصة مجربة، لا تخاطر اليد بالرسم فوقها، مادام المداد يزرع الثقة في أرجاء الساقية ذات النبع المدرار.

إنك إن فعلت ذلك، تكون قد خضت التجربة نائياً بنفسك وقلمك عن امتلاك نواصي الأقلام والفكر والأساليب والصياغات، وبالتالي قادماً تقاتل في ساحات لم تختبر بنفسك وعورة مسالكها، وتلون فنونها، ولم تستعرض جهودك بصورة مبدئية مع من سبقك، ومع من هو ناصحك وموجهك، وبكلمة مختصرة لم تبدأ البداية السليمة التي تقتضي منك لكي تنجح أن تسير الخطوات مثقلاً بداية بسؤال طويل عريض، طرح عليك مرات ومرات، ولكنه الآن بعد أن تعينت الموهبة، وهبت رغائب خوض التجربة، يلح في الطرح ليقول:

أ- عفواً ما الذي تهدف إليه تماما؟ وها أنت تجد نفسك أمام الصدى يتردد في جنبات نفسك، وفي عميق فؤادك المؤمن ليؤكد:

- أنك وجدت امتلاك ناصية الكلمة واستخدامها أهم وسيلة من وسائل البلاغ الرسالي..

- وأنك تريد أن تضيف صوتاً بلاغياً جديداً متميزاً يتنصر للمعنى البلاغي الإيماني..

- وأنك بهذا تعمل في المجال المناسب الميسر لما خلقت له.

- وأنك جاد في خوض معركة الذود عن حياض الحق بالكلمة العليا، وذلك لكبح جماح الباطل وكسب الساحة لإنقاذ الإنسان من كل التزوير الذي يطل عليه من بوابات الاتصال المختلفة ليل نهار، وأنك مستعد لدفع الثمن الذي يترتب على خوضك التجربة، وقد يكون ثمناً باهظاً في الكثير من الأحيان. فإذا أنت أيها الموهوب سمعت كل ذلك الصدى يتردد، ووقفت على الأهداف، وعرفت ماذا تريد، وفي أي الاتجاهات تسير. انطلق سؤال آخر يقول لك:

ب- كيف تصنع في البدايات؟.. لتجد نفسك أمام بوابتين، إحداهما مباشرة، والثانية تأتي في ما بعد..

1- فأما المباشرة فتحتاج إلى:

 أ- فحص المعاناة..

لما كانت الكتابة الصادقة المؤمنة ناتجة بصورة أكيد ة عن المعاناة التي يواجهها الكاتب، ويحس بها تتفاعل في دواخله، مقابل ما يرى وما يقرأ وما يسمع وما يعامل به من جميع الذين يحيطون به، فإن هذه المعاناة هي التي تولد الفكرة وتفتح أبواب القريحة لدى صاحب الموهبة، ومن هنا فإن عليه مباشرة أن يتناول القلم والقرطاس ويسجل الفكرة المتولدة، ومحاور معالجتها، قبل أن تغيب في طيات المشاغل اليومية، فيبحث عنها فلا يجد منها إلا أطلالاً باهتةً غير مكتملة التكوين.

والمبدع في الكتابة، الذي يبتغي أن تُسمع أفكاره، وتؤخذ نتيجة معالجاته لمعاناته، هو ذلك الكاتب الذي يختار لكل موضوع من موضوعاته المستجد من المعالجات والأسلوب والأفكار، بما يثير الانتباه، ويصنع إضافة جديدة، تستحق عناء الاطلاع والقراءة وصرف الوقت، بل وتنشئ حواراً وأخذاً ورداً واهتماماً وإثارةً إيجابيةً ينتج عنها مزيداً من التسويق والانتشار وتركيز المكانة والمكان والاعتراف الراسخ، ويكون ذلك كله بعد الكثير من تقليب التفكر بالمعاناة وفحص تشكيلها وعناصر تكونها في نفسه ومظاهر تقلبها في خارجه والمحيط ومدى قوة تأثيرها، وصمود حجتها، والاستجابة لها سلبياً أو إيجابياً وأسباب ذلك كله.. ومن ثم يأتي دور.

ب- التجريب والتمرين: وهما يبدآن بارتياد الأرض عن طريق المزاولة المغلقة أولاً (أي غير المنشورة) وهذه المهمة تحتاج إلى مخالطة المجربين ومحاولة محاكاتهم، واستشارتهم في كل البادرات الكتابية.. ثم الإعادة والتصويب والتركيز.. حتى إذا لاقت البادرات استحساناً وقبولاً وثناءً، دفع بالبادرة إلى الأمام نحو النشر ثم الواحدة تلو الأخرى، حتى تبلغ مبلغ رسوخ القدم، وقد تستمر هذه الحالة زمناً ليس قصيراً فلا ييأس صاحب الموهبة ولا يكل ولا يتراجع.. فكل مريد يحتاج إلى من يسهل له الطريق، ويشذب السلوك، ويرقق اللسان والقلب.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له أبو بكر رضي الله عنه: "لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك، فمن أدبك (أي علمك)؟ قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".

ولتعلم أخي المقبل على الكتابة أنك مقبل على فن وعلم عظيمين كريمين عاليين في الغاية والوسيلة، وذلك لأنك في إقبالك هذا حامل هم الإبلاغ الرسالي السامق، وقد قيل في ذلك: "إنك لا ترى علماً هو أرسخ أصلاً، وأبقى عرفاً، وأحلى جنىً، وأعذب ورداً، وأكرم نتاجاً، وأنور سراجاً من علم البيان، الذي لولاه لم تر لساناً يحوك الوشي، ويصوغ الحلي، ويلفظ الدرر، وينفث السحر، ويقوي الشهد. والذي لولا تخفيه بالعلوم، وعنايته بها وتصوره إياها لبقيت مستورة، واستولى الخفاء على جملتها وفي ذلك ما فيه من ضياع الحق، وخفوت صوته، وانتشار الجهل وعلو مكانته".

أما الثانية التي تأتي فيما بعد فهي:

2- النزول إلى الساحة: وفي هذه المرحلة يكون صاحب الموهبة قد غدا داخل المهنة، وفي طلب المهمة الغالية، وهو في هذا محتاج لأن تكون خطواته متجهة إلى الأمام دائماً وأبداً.. فيتوقى الهنات والنزول والخذلان، وهو في ذلك وإن كان لا يمكنه بلوغ مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم البياني –فحسبه إذ بلغ مرحلة المهنة- الاقتداء في بيانه صلى الله عليه وسلم ما وسعه الاقتداء، فيتنزه قدر الإمكان عما يعتري أصحاب القلم واللسان من العيوب التي تنزه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال صاحب إعجاز القرآن في ذلك: "لا يعتري رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعتري البلغاء في وجوه الخطاب وفنون الأقاويل، من التخاذل، وتراجع الطبع، وتفاوت ما بين العبارة والعبارة، والتكثر لمعنى بما ليس فيه، والتحيف لمعنى آخر بالنقص منه، والعلو في موضع والنزول في موضع.."(1)

وأول ما يتبادر إلى الذهن لتقديمه نصيحة لكل من يتقدم من الكتاب المؤمنين إلى الساحة ليتنزل فيها هو: أن يكون متمكناً واثقاً من انطلاقه من خلال عقيدة راسخة تقول: إن الحقيقة الكلية لهذا الكون ولهذا الإنسان ولهذه الحياة ومآلها جميعاً ومصائرها إنما هو معروف وثابت ومثبت فيما نزل على قلب رسولنا الكريم من آيات الله وما جرى على لسانه من وحي يوحى، وهو (أي الكاتب) غير محتاج للتجربة داخل نفسه أو داخل غيره أو فيما يحيط به ليجد الأجوبة الكبرى على تلك الحقائق الإيمانية الكبرى. إذ أن الكثيرين من كتاب العرب وأدبائهم ومن نهج نهجهم داخل أمتنا تاهوا وضاعوا في الجري لاكتشاف الحقيقة، فحولوها إلى محاولات تدميرية للغة وللتراث وللقيم ولكل معنى إيماني، على اعتبار أن هذا الذي يخوضونه إنما يمثل ثورة على واقع وتاريخ وقيم قمعية وسلطوية وغير سلطوية، وهو ما جعل هؤلاء أعضاء خارجين على مجتمعاتهم منسحبين منها راكضين خلف أمزجة وأهواء فردية مهزومة داخلياً وخارجياً، مريضة بمجموعة من الأفكار الفردية النزعة، النرجسية الرؤى والعمل، عدوة لمنطق التغيير والتطوير المنسجمين مع طبائع الأشياء، وسيرورة التاريخ، والمحكومين بالثوابت والمتغيرات. ولسوف نتطرق في الحلقات القادمة (إن شاء الله) إلى كيفية السير قدماً إلى الأمام دون تعثر.

(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ص286.

يتبع