ردا على الأستاذة صافيناز كاظم:
ردا على الأستاذة صافيناز كاظم:
بل نصف الرسول صلى الله عليه وسلم
بالعبقرية والبلاغة
أ.د/
جابر قميحةفي صحيفة الوفد الغراء ، وتحت عنوان " بشر رسول يتلو ما يوحى إليه " كتبت الأستاذة الفاضلة صافيناز كاظم ما يعبر عن رفضها أن يوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبقرية والذكاء والبلاغة . وقالت إن هذا لا يجوز بنص القرآن الكريم ، واستشهدت بست آيات ، ليس في آية واحدة منها ما يؤيدها فيما ذهبت إليه ، مثل قوله تعالى " قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ .... " سورة الكهف 109 .
وبعد الآيات التى لا تدل من بعيد أو قريب على هذا الحظر الذي ذهبت إليه تقول بالحرف الواحد " الخلاصة في كل هذا أن بعض الناس يتصورون أنهم يمدحون الرسول النبي الذي أنزل الله سبحانه وتعالى عليه الكتاب ، وجعله لا ينطق عن الهوى ، بكلمات مثل " عبقري " و " بلاغة " الرسول . وذكاء النبي السياسي ... إلى آخر هذه الصفات التي يمكن أن يمجد بها أي إنسان عادي لم يختره الله سبحانه تعالى لحمل الرسالة إلى عباده . إن نبينا الكريم ليس نابليون ، ولا بسمارك ولا أيا من زعماء السياسة ، وإنه صاحب رسالة إلهية ربانية مرسومة له ، ينطق بلسان الوحي المنزل عليه ، ولا يتصرف من تلقاء نفسه : إنْ حربا أو سلما أو عهدا أو معاهدة ، بل هو ينتظر الأمر الإلهي لينفذه ... "
**********
وفي إجمال أقول إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنقض هذا الحكم الأخير ؛ فأغلب تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم كانت من تلقاء نفسه بإرادته البشرية دون وحي . ومن ذلك ( في الحرب ) أنه لما عين مكانا لنزول الجيش سأله الحباب بن المنذر " أهذا منزل أنزلكه الله ــ أي أوحي إليك به ، ومن ثم لا يكون لنا الحق في إبداء الرأي ــ أم هي الحرب والخدعة والمكيدة ؟ فقال عليه السلام " بل هي الحرب والخدعة والمكيدة " فأشار عليه الحباب بموقع آخر ، وأخذ برأيه . وتكرر الموقف نفسه في غزوة خيبر . وفي السلم : مثال ما ليس فيه وحي : ما أشار به على أصحاب النخل بعدم تأبيره ، ثم رجع عن رأيه ، وقال لهم " أنتم أعلم بأمور دنياكم " . أما ما نزل فيه وحي فهو مذكور على سبيل الحصر ، ولا يملك النبي صلى الله عليه وسلم مخالفته ، وعلى المسلمين أن يسلموا به تسليما .
**********
ولكن هذا الإجمال الموجز لا يغني عن التعرف على طبيعة أفعال النبي صلى الله عليه وسلم . وقد أجمع الفقهاء أنها نوعان : مالا يعتبر تشريعا ــ وما يعتبر تشريعا :
أولا : الأفعال التي لا تعتبر تشريعا :
وهي الأفعال التي صدرت منه ، بمقتضى طبيعته البشرية كالأكل والشرب والمشي والنوم ، وما فعله اعتمادا على خبرته وتجربته كالزراعة والتجارة والحرب ... الخ والمسلمون لا يلزمون بأخذ أنفسهم بهذه الأعمال وإن كان بعضهم يلزم نغسه بها كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
& ويلحق بذلك الأفعال التي تصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى الوحي السماوي ، ولكن دل الدليل الشرعي على اختصاصه بها : كتزوج مازاد على أربع ، وصوم الوصال ، ووجوب التهجد . فهذه الأفعال لا تعتبر تشريعا للأمة ، ولا يجوز الاقتداء بالنبي فيها .
ثانيا : الأفعال التى تعتبر تشريعا : كالأفعال التى بينت ما في القرآن من إجمال : فالقرآن قد أمر بالصلاة وقال عليه الصلاة والسلام " صلوا كما رأيتموني أصلي " محددا عدد الصلوات ، وركعات كل صلاة . وهذه الأفعال يجب على المسلمين الاقتداء بها .
وقد تصدر منه الأفعال ابتداء ، فإن عرفت صفها الشرعية من وجوب ، أو ندب ، وجب الاقتداء بها ، وإن قصد بها القربة كان فعلها مستحبا ، وإلا دخلت في المباح .
**********
وما المانع الشرعي أو اللغوي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعبقرية ، وهي كلمة قرآنية . كما أنها عربية أصيلة :
جاء في لسان العرب : قال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن " العبقري " فقال : يقال : هذا عبقري قوم كقولك هذا سيد قوم وكبيرهم وشديدهم وقويهم ". فهي تعني السيادة والعظمة ، والتفوق في مجال الصفات الإنسانية وهو معنى قريب مما ذكره العقاد في " عبقرياته " .
وبه وصف النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال " لم أر غبقريا يفري فريه " أي يقطع ويحسم الأمور مثله . والعبقرية والذكاء والفراسة وبعد النظر وحسن التصرف كلها صفات اتسم بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث نبيا ، وأكتفى بشاهد واحد : كانت سنه خمسا وثلاثين سنة ــ أي قبل بعثته بخمس سنين ــ عندما حال دون وقوع مذبحة بين القبائل من قريش : كل قبيلة تحرص على نيل شرف حمل الحجر الأسود لوضعه في مكانه . فأتى بثوب ووضع فيه الحجر ، وطلب من كل قبيلة أن تمسك بطرف من الثوب وفي المرحلة الأخيرة حمله هو ، ووصفه موضعه . لقد أدبه ربه فأحسن تأديبه ، وبالوحي والمعاناة ظهرت عبقريته في أفعاله " البشرية " في أقوى مظاهرها في مجال السياسة والإدارة والعسكرية ، وقد فصل العقاد القول في ذلك بكتابة "عبقرية محمد" . فهل لو جاء أحدهم ووصف نابليون أو بسمارك بالعبقرية ، ننكر هذه الصفة ونحرم على المسلمين وصف النبي بها ؟!!
وأغرب من كل ذلك أن تحرم الأستاذة الفاضلة أن نصف النبي صلى الله عليه وسلم " بالبلاغة " ، مع أنها صفة كان يعتز بها أيما اعتزاز . جاء غي كتاب الشفا للقاضي عياض " قال له أصحابه : ما رأينا الذي هو أفصح منك !! فقال : وما يمنعني ؟! وقد أنزل القرآن بلساني ، لسان عربي مبين "
وقال مرة أخرى : أنا أفصح العرب ، بيد أني من قريش ، ونشأت في بني سعد " . فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها ، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها ، إلى التأييد الإلهي الذي مده بالوحي الذي لا يحيط بعلمه بشري " .
وقد أوتي جوامع الكلم ، وخص ببدائع الحكم ، وعُلـّم ألسنة العرب ، فكان يخاطب كل أمة بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ... وليس كلامه مع قريش والأنصار ، وأهل الحجاز ، ونجد ، ككلامه مع أقيال حضرموت ، وملوك اليمن .
فكيف يا أستاذة صافيناز لا يجوز أن نثني على نبينا ونصفه بالبلاغة ، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أمر نبيه أن يكون " الأسلوب البليغ " آلية من أهم آلياته في مواجهة الكفار والمنافقين . يقول تعالى " أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا " النساء(63) .
أي قويا بالغ التأثر ، كما قال الإمام الشوكاني في فتح القدير .
لقد أفاض الجاحظ في وصف البلاغة النبوية في كتابه " البيان والتبيين " والدكتور مصطفى الشكعه في سفره الضخم " البيان المحمدي " ، وأعتقد أن الأستاذة صافيناز اطلعت على بعض هذه الكتب أو كلها .
ولا يفوتني ــ وأنا من قرائها ــ أن أشكرها ؛ لأن ما كتبته وجهني إلى كتابة هذا المقال . والحمد لله رب العالمين