ليست القصة " أهل سنة" وأقليات "..

البعض ينظّر هذه الأيام بمقولات توظيفية تخدم مواقف رائجة.. وتحولات تماوجية عاصفة، ومنها، مثلا، التأكيد على أن الأحزاب القومية واليسارية والعلمانية كانت حصراً على " أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية"، وأن أبناء الأكثرية : السنة بمصطلح هذه الأيام، نفروا، وابتعدوا، وآثروا الصمت، أو الأحزاب الأخرى الدينية وغيرها.. أو همّشوا، واستخدموا ديكورات وواجهات منخورة، مملوكة..

ورغم أن الكلام في هذا الموضوع طويل ويتجاوز مقالاً، أو بحثاً.. فإن الوقائع مخالفة تماماً لهذا الفيض السائد : زبد التمظهر، والتموّض، والعابر.. ذلك أن بنيان، وأسس، وروّاد مرحلة النهوض ضمّت أغلبية " سنية" من مختلف المناطق.. ولئن برزت قامات مسيحية كبيرة في فترات إحياء اللغة العربية، والكيان العربي، وأفكار جمعيات الإصلاح الداخلي للسلطنة العثمانية باتجاه انتزاع بعض حقوق العرب، وتطوير أوضاعهم الحبيسة بقيود الظلم، والتخلف، والإهمال، وقيام التنظيمات والجمعيات العلنية والسرية، والمعاجم والقواميس، والنشر .. فإن لبّ الحركة تلك، وجوهرها المنشّئ، ورجالاتها البارزين كانوا من العرب السنة بأغلبية ساحقة، ويمكن بالعودة إلى ذلك التاريخ، والأسماء، والجمعيات السرية والعلنية، ودعوات الإصلاح، والثورة التعرّف على تلك الحقيقة .

ـ في " الثورة العربية" التي قادها الشريف حسين ضد الوجود العثماني.. كان إلى جانبه في مواقع القيادة العليا والمستشارين عدد كبير من أؤلئك الرواد : مسلمين ومسيحيين، وكانت مواقفهم القومية بارزة، وضد الاتفاق مع الإنكليز المخادعين، ووقفوا بجرأة في مواجهة" اتفاقية سايكس ـ بيكو" واغتصاب فلسطين، وواصلوا دأبهم في مرحلة الاستعمار الفرنسي بتلك الريادة ونضالاتهم ضد الاحتلال، والتقسيم، والتجزئة، ولأجل الاستقلال الناجز بقيادة ضمّت لفيفاً واسعا من الطيف السوري. وكانت" الكتلة الوطنية" التجسيد لذلك التنوع والاختلاط.. والذي تواصل في مرحلة الاستقلال وإقامة النظام الديمقراطي .

ـ وكما كان الإجماع على قيادة سلطان باشا الأطرش للثورة السورية الكبرى تعبيراً عن تلك الحالة الوطنية الراقية.. جاء اختيار فارس الخوري" المسيحي" وزيراً للأوقاف، فرئيساً للوزراء تجسيداً مبهراً للوطنية السورية الجامعة، وللتنوع، ووعي الأكثرية وإيمانها بالروح الوطنية، وتجاوز الحالة السورية لجميع الخندقات الدينية والمذهبية .

                                              ***

أسباب كثيرة قادت إلى انقطاع حركة الإصلاح الديني، والتجديد، وبعث موقد الاجتهاد والتغيير.. بقيادة لفيف من الرواد.. كان الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده، وأرسلان، والطهطاوي، وكثير تعبيرا عنها.. وكأن ارتكاسة حصلت فأدّت إلى النكوص والتراجع نحو التشدد والماضوية، وتقديس النص.. فحدث ذلك الفراغ ضمن تحولات عالمية حادّة قسمته إلى معسكرين يفرضان الانتماء لأحدهما، حتى ولو عن طريق " حركة عدم الانحياز" ف" الحياد الإيجابي".. كما أن نهوض أوربا قوميا، وإنجاز عديد بلدانها وحداتها القومية بوسائل مختلفة.. شكّلت الحواضن المهمة لبيئة مساعدة على نشوء الحركات اليسارية والشيوعية والقومية، بما في ذلك بعض الأحزاب المتأثرة بالفاشية والنازية كالقومي السوري الاجتماعي.. إلى جانب الأحزاب البرجوازية، وتفكك الكتلة الوطنية وتفريخها حزبين من صلبها، فإضعاف لدورها..

ـ كان طبيعياً ولأسباب مفهومة أن تتجه فئات واسعة من " الأقليات القومية"، خاصة من أصول كردية، إلى الأحزاب الشيوعية لأنها لا تجد نفسها في الأحزاب القومية العربية، بينما لم تستطع الأحزاب الإسلامية، خاصة حركة الإخوان المسلمين استقطاب العديد من هؤلاء، وأن تكون " الأممية" الإطار الجامع الذي يمكن أن يحقق ذات هؤلاء.. فأقبلوا عليها ..

ـ ولئن كانت بصمات المسيحيين العرب واضحة في نشوء وتأسيس الأحزاب القومية : حزب البعث وحركة القوميين العرب.. فإن مرحلة الصعود عبر المرحلة الديمقراطية شهدت إقبالاً كبيراً من الطبقة الوسطى وأبناء الريف باتجاه البعث والقوميين العرب، وكان ثقل" السنة" بارزاً في قيادات وأطر البعث.. في المدن الكبرى والضواحي والأرياف..واستمر ذلك ـ في سورية ـ حتى الوحدة السورية ـ المصرية التي فرضت حلّ الأحزاب.. فاهتزّت تركيبة البعث نتيجة ذلك حين غادرته قطاعات واسعة من أبناء المدن باتجاه الحركة الناصرية، أو اليأس من العمل السياسي، بينما كانت تركيبته في بقية الأقطار من أغلبية سنية، واختلاط سني شيعي في العراق لا يعرف حدود التفرقة والتمييز ..

ـ والحقيقة المؤكدة أن حجم تنظيم البعث مع انقلاب الثامن من آذار لم يتجاوز ال500 عضو حين قبلت قيادته إسباغ الاسم والشرعية على ذلك الانقلاب، خصوصاً بعد استفراده بالحكم، وما عرفته المرحلة من تصفيات متتالية طالت ـ بشكل عام ـ العناصر المنتمية للسنة في الجيش، واستقدام أعداد كبيرة من الاحتياط لملء الفراغ كان جلّهم من الطائفة العلوية وبقية الكيانات المذهبية، كما انفكاك التحالف الهش بين العسكر من البعثيين والناصريين وما أعقبها من تسريحات، وباسم الا نفصاليين قبل ذلك، أدّى إلى بدايات خلل واضح في التركيبة الداخلية للجيش والحزب بطغيان أبناء الريف فيهما، وبأغلبية واضحة "لأبناء الأقليات" فيهما .. وبما راكب ذلك الخلل الذي اتسع وتضخّم مع جملة الممارسات متعددة الخلفيات... ثم مع نظام الطاغية الأكبر واستناده بالأساس على ابناء الطائفة العلوية في الجيش والأجهزة الأمنية، ومنها على بقية مفاصل الحكم والدولة .

                                                          ***

لقد كان الأسد الطاغية طائفياً في عمقه يتغطّى بالكاذب من شعارات البعث والأمة، والقومية، والتقدمية، والعلمانية فيهينها ويدوسها وينخرها في ذات الوقت الذي يركز ابناء العائلة والضيعة والعشيرة والطائفة في المراكز الحساسة، وينصّب نفسه الناطق باسم الطائفة وحامي حماها، ومحقق مصالحها، ورافع" مظلوميتها" التاريخية.. مثلما وضع نفسه بموقع حامي الأقليات الأخرى من " بعبع " الأكثرية ..

ـ والحق أن النرجسي، الخبيث حافظ الأسد كان همه الرئيس البقاء في الحكم وتأبيده باستخدام جميع الأساليب المحققة.. من المقايضة بكل شيء، إلى السمسرة، إلى اللعب بالنسيج الاجتماعي وشحنه بالتوتر وروحية العداء، إلى الموضعة الطائفية.. والإكثار من الواجهات السنية الرغوية في المناصب الوزارية والاستعراضية والاقتصادية، والإمساك بها من رقابها الرخوة، وتاريخها الهبائي . وحين أطلق شعاره في بداية انقلابه التفحيحي بأن " الحزب هو الشعب والشعب هو الحزب" فإنه أراد بذلك صيد عصافير انتهازية كثيرة، وإغراق الحزب باللصوص والانتهازية والنفعية والتفريغ والتقيّؤ، وخلط التاريخ فيه بين قلة مؤمنة به وبين أكثرية جاءته للمنفعة والوظيفة والسلبطة والامتيازات.. وتصدير أكثرية سنية في أعداده وهيئاته المنصّبة في مواقع قيادية..

ـ في جميع الحالات لم تكن المدينة بعيدة عن الاتجاهات القومية ابداً.. فهي التي حملت الهمّ والحلم القومي، وهي التي بشّرت بالوحدة وعملت لها، وهي التي ولّدت الفكر الحداثي، التقدمي.. ولم تكن محافظة، ولا يمينية كما يريد البعض وسمها بذلك من وحي طوفان السائد هذه الأيام . ناهيكم عن أن لغة، ومفردات أقلية وأكثرية لم تكن موجودة في قواميس الشعب السوري..وقد راحت تدبّ كالهسيس عبر ممارسات النظام الفئوية، ثم انفجر خزينها مع تطورات الثورة، ودفق الهجمة الطائفية القادمة من إيران، وردّ بعض الأوساط عليها بنفس الروح ...

ـ اليوم يريد البعض أن يصوّر " الأكثرية" وكأنها "بلوك" واحد يتنفّس نفس الهواء، وينطق بذات الخطاب المذهبي.. وكأن الجميع " أهل سنة" لا يعرفون الاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة، ولا علاقة لهم بالفكر القومي واليساري والعلماني والنهضوي والحداثي، ولا بالدولة المدنية الديمقراطية التعددية، وأنهم جميعاً على راي واحد، و"سنة" أولاً واخيراً، او خزان الحركات المتطرفة في مواجهة المليشيات الطائفية، والمشروع الإيراني المذهبي.. وهذا تقزيم، وتشويه لحقيقة بنيان الشعب السوري واتجاهاته، وتوجهاته.. وللدور الريادي لآلاف مؤلفة من الوطنيين السوريين ـ من أهل السنة ـ الأغلبية التي تفهم معنى الأغلبية ودورها، ومسؤولياتها في حمل أهداف الثورة والعمل على تجسيدها : وحدة سورية لجميع الشعب، ومساواة كاملة بين مختلف المكوّنات على أساس المواطنة .

عقاب يحيى

وسوم: العدد 623