من المسؤول عن هذا الدمار والخراب.. والقتل المعمم ؟؟...
ومن الذي أنبت، وقوّى، ومكّن هذا التخلف المريع، ومنح التطرف أدواته، وسيوفه، وتبريرات فعله ؟؟...
وهل يمكن أن تستقيم التفاسير والتحاليل بتحميل الآخر الأجنبي، والمؤامرة الخارجية، والصهيونية كنه ما يحدث كله ؟..أم أن بيت الداء ذاتي بالأساس.. ينبع من تلك البنى المسيطرة، وأولها، ورأس حربتها نظم الفئوية الدموية، وعصاباتها الطائفية، والنهبية.. وما فعلته بالبشر والأوطان وهي تضع الناس على حدّ سكين الخيارات الصعبة، وهي تدفع بخبث وتخطيط نحو الانفجار الطائفي، والإثني، وهي تغتال حريات وكرامة وحقوق الإنسان؟.. وهي تلعب من زمان بالنسيج الوطني، وبكل شيء كي تبقى وتتأبّد ؟؟...وهي تعجن المجتمعات والناس كي يصبحوا كما تريد : فاقدي الانتماء، والكرامة.. فلا يجدون غير العودة إلى سائد البنى القديمة، الماضوية ينفثون فيها عقداً متراكمة، ويبحثون فيها عن التعويض، والثأر، ويسحبونها لتكون البديل.. بوجود قوى لها مصلحة في قطف هذه الوقائع، وتوظيفها واستثمارها، وتوسيع قاعدة التشقيف على أسس دينية ومذهبية، وإحياء ذلك البعد التناحري في تاريخ الصراعات القديمة وتحويلها لرؤوس حراب متجددة الخطاب المكرر .
أليست تلك النظم التي حكمت عقوداً هي المسؤولة عن نحر المشروع الوطني ـ القومي عبر ادعاء الانتماء عليه بينما كانت تخونه بكل عهر الممارسات السياسية المنظمة، وعمليات التجويف والتجريف والتخويف، والإخضاع، والدجل ؟؟..وتبيع وتقايض فيه، وتعيد المجتمع إلى مرحلة ما قبل الدولة الوطنيةو، وتحيي البنى التي تعلن ـ نظرياً ـ أنها ضدها ؟؟..
ـ ألم تطلق العنان لكل الأفكار ما قبل وطنية وقومية وهي تشيد حصون وجدران مملكة الرعب، والنهب، والفساد والإفساد، وقتل اهتمام الإنسان بالشأن العام واستبدال ذلك بأفكار، وعادات، وعلاقات التقاطية، هجينة مهجّنة في مخابرها الأمنية، وقبور الحرية التي نصبتها ؟؟..
ـ ألم تدفع بالأمور منذ بدايات ثورات الربيع العربي لإجبار الناس على حمل السلاح دفاعاً عن النفس، والشرف، والأهداف.. وتطلق من سجونها، وقماقمها قيادات متطرفة، ثم تمكّنهم، بوسائل مختلفة، على البروز قوة متنامية .. ثم تمارس الفعل الطائفي الحاقد للدفع باتجاه التشويه، والحرف، وإجبار الاندفاع والأمراض على النمو في حواضن جاهزة.. بينما كانت تصفي في معتقلاتها ومقابرها آلاف الناشطين والقيادات الشبانية، وتقوم بإعطابهم، ونهشهم، واغتصاب شرفهم، وسرقة أعضائهم، ثم مَسْرحة تمكين بعضهم من الهروب إلى خارج البلاد كي تتفرّغ الثورة من أبنائها الحقيقييين، وتمنع ولادة قيادة من صلبها، وتمكّن عناصر أخرى اقل وعياً، والتزاما بأهدافها للصعود إلى مواقع القيادة، والتأثير.. ثم التحول إلى العّسْكرة التنينية، وفتح الأبواب للجميع : مؤسسات ودولاً وأجهزة مخابرات.. وعصابات، وشبيحة من كل الأنواع ؟..
ـ ألم يرفض المجرم، وريث الحقد المجون، الاستجابة لمطالب الناس وهي عادية، وإصلاحية وواجههم بالاغتيال والقنص والقتل والاعتقال المميت، وهو ينام على إرث العنجهية التي تحتقر حياة وحقوق الإنسان، وعلى تقارير مؤسساته الأمنية المتوحشة بأنه لا ينفع مع المواطن سوى الهرس، والبسطار، والإخضاع.. فمارس ذلك بكل جبروت العنف الذي يملك، وبذهنه أنها أيام ويقضي على الانتفاضة المتحولة إلى ثورة، وبالوقت نفسه يعمل على شيطنتها، ودمغها بمألوفهم : الفتنة والمؤامرة، ووضع نفسه في خندق المقاومة والوطني.. وهو الفاقد لأسّ الوطنية، والحفاظ على وحدة المجتمع والوطن ؟.
****
كثيرة الحقائق المرعبة التي قادتها نظم المافيات حدود التفجير، ثم راحت عبر ذلك تجمّع الوقائع الجديدة لإثبات منظومتها، وتفاسيرها المعدّة مسبقاً، ورشق الثائرين بما هي فيه من تبعية، وانتقام، وتخلف، وطائفية، وبثور حقد طافح ..
ـ وبالوقت نفسه فدول وقوى كثيرة، وأجهزة أمن خبيرة وعاتية وقفت بالضدّ لثورات الربيع العربي، ونظرت إليها بعدائية حاقدة باعتبارها بديل التبعية، والضعف، والاستبداد، وموقد تغيير الأوضاع في عموم بلدان الوطن العربي الكبير..بل والزلزال الذي سيدمّر السائد لبناء النظم التعددية الديمقراطية .
أشكال وأساليب التدخل كثيرة متنوعة، وفي مقدمها وضع بدائل للجوهر : الديمقراطية وحقوق الناس في المساواة، وفي بناء نظام آخر مخالف تماماً لنظم النهب والأحادية.. وأفضل تلك البدائل، وأكثرها قابلية على الحياة والتمدمد.. كان الدين والمذهب.. والإثني، إن كان عبر محاولة احتكار الانتفاضات الشعبية وتجييرها لجهة واحدة دون ذلك التنوع الفكري، والسياسي، اعتبارها إسلامية الغاية والمنطلق والروح والمآل، والانتقال عبر ذلك إلى فصفصتها : شيعاً وقبائل متناحرة، ثم الرسو على شواطئ الاقتتال المذهبي، والنكش في طيّات الزوايا المعتمة، والنائمة عن مشروعيات لإثنيات قديمة ووافدة.. والانطلاق من ذلك لإحداث حالة تفتيتية تبدو واجهتها ديمقراطية كجزء من حق الجميع في المساواة، ورفع الغبن والعسف والعنصرية ..بينما توغل وتتوغل كبديل للوحدة الوطنية.
ـ وما من شك، وبكل حيادية التحليل الموضوعي، أن إيران كانت فاعلاً مهماً في تجيير ما يجري وتوظيفه في خانة التسييس المذهبي، والدفع به نحو الخندقة المدججة بالسلاح، والمال والدعم، إلى جانب قوى محلية وإقليمية لها مصلحة في استبدال النضال الوطني ـ الديمقراطي بآخر ديني أو إثني .
ـ هنا، وبواقع ضعف القوى الوطنية، واليسارية، والعلمانية، وأزمتها التاريخية، وما لحقها من حصار، وخنق، وقلة أموال ودعم.. وما عرفه العمل المسلح من انزياحات غير طبيعية باتجاه الأسلمة العامة، ثم بطغيان التطرف وبروز ظاهرة داعش كحالة صارخة أقرب للخيال..قوي الاتجاه المتأسلم الذي راج يحاول التكويش على الثورة ومصادرتها لصالح أدلجة محددة، ومحاولة الفرض ـ بقوة السلاح والوجود على الأرض ـ نمطية معينة من التفكير، والأطروحات تتعارض مع ألف باء التعددية، والمساواة.. وبما يحيي الماضوية، والصراعات القديمة، ويعطيها مبررات جديدة للاقتتال، وتمزيق الوحدة الوطنية .
ـ إن المؤامرة ـ أية مؤامرة ـ ومهما بلغ شأوها، وخبث عناصرها، وقدراتهم على الفعل والتغلغل والتأثير لا يمكن أن تحيا إلا في بيئات مناسبة.. فكيف والحالة خصبة عندنا؟.. فكيف والإشكالية البنيوية تقدّم لها خصب الوقود، وتوفر مستلزمات كثيرة مجانية، واندفاعية.. ثم يغطس فيها مجتمعنا ليصبح أسيرها ؟؟.. ثم يفلت زمام القرار الوطني ويصبح الاتجاه العام رهنها وما تفعل، وتريد ؟؟...
ـ إن التمسك بالانتماء الوطني فوق جميع الانتماءات، وبالتعددية إطاراً وناظماً للحياة السياسية وبناء الدولة الحرة، والبحث عن التوافقات، والمشتركات لصياغتها في ميثاق تلتقي فيه، وتلتفّق جميع القوى المحسوبة على الثورة، من أقصاها لأقصاها هو الضمان الرئيس لمقاومة المؤامرة التي تريد إغراق الوطن وذبحه، وهو السبيل لإسقاط نظام مجرم يشكل إنهاؤه المدخل الطبيعي لعملية الانتقال، والخلاص، وهو المخرج من التطرف ومشانق إعدام الوطن الموحّد التي تعدّها جهات كثيرة ..
وسوم: العدد 623