وثيقَةُ الحُديبيةِ
يَبقى صُلحُ الحُديبيةِ وثيقةً راشدة محكمة..ومرجعيِّةً تاريخيِّةً رائدةً للدبلومَاسيِّةِ والسيِّاسيِّةِ البشريِّةِ..ومن مشاهدِها وعِبرِها:في طريقِه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المدينةِ إلى مكةَ المكرمة قاصداً العمرة .. حَرنَت ناقةُ الرسول صلى الله عليه وسلم فقَال اصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم:خَلأَتْ القَصْواءُ..فقالَ صلى الله عليه وسلم:"مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكَّةَ"يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ "وَاللَّهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يَسْأَلُونِي فِيهَا صِلَةَ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا"فَطمأنَ بذلك الرسولُ النًّاسَ أنَّه لا يُريدُ حرباً بل يَمدُ يَدَه للسلامِ..وأنَّه لا يُريدُ بمكةَ وأهلَها شراً كما كان شأنُ حملَةَ الفيلِ( حبسَها حابسُ الفيلِ)..وتَفَّهَمَت قريشٌ الرسالة..وبَدَأت تُرسِلُ الوفودَ للحوارِ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فكان يتعامل مع الفود بدبلوماسية رفيعة تناسب طبيعة ومستوى كل منها دون الدخول بتفاوض..لأنَّه لمْ يَجد فيهم أحداً صاحب قرارٍ..ولمَّا حطَّ رِحالَه في الحُديبيةِ أرسلت قريشٌ (عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ) وهو رَجُلُ حَربٍ..فأدّركَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم مغزى الرسالةِ فأمرَ أنْ يَستقبلَه وهو بينَ أصحابِه.. وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ إلى جَنبهِ مُدججٌ بالسلاحِ..وأرادَ عُرْوَةُ أنْ يختبرَ المعنوياتِ فقالَ لِرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(لَكَأَنِّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْكَ غَدًا)..فردَّ عليه الصديق القويُّ الوَقُورُ أبو بكرٍ الصديق رضي اللهُ عنهُ:(امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ..أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ.. ؟) ومدَّ يَدَه يُريدُ مسَّ لحيَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لينال من هيبته..فقرع الْمُغِيرَةُ يدَه بعَقبِ رُمحِه قائلاً:(أَمْسِكْ يَدَكَ عِنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكَ).فتفَّهمَ عُروةُ الرسالةَ ونَقلَها إلى قُريشٍ قائلاً:"يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ..إِنِّي جِئْتُ كِسْرَى فِي مُلْكِهِ..وَجِئْتُ قَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيَّ فِي مُلْكِهِمَا..واللَّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي أَصْحَابِهِ..لَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءٍ أَبَدًا..فَرُوا رَأْيَكُمْ"وتَفَّهَمت قُريشٌ الموقفَ تماماً..فَبعثَت سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وهو صاحبُ رأي ودهاء وقرارٍ فيهم..فَلمَّا رآه رسُولُ اللهٍ صلى الله عليه وسلم قالَ:"قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ"فاستقبلَه وفاوضَه وتجاوزَ صلى الله عليه وسلم كُلَّ المُعوِّقاتِ التي تحولُ دونَ بلوغِ الغاياتِ والمقاصدِ الاستراتيجيِّةِ منْ خطتِهِ..واعترضَ على بن أبي طالب رضي الله عنه على كلمات أصر عليه مفاوض قريش فأمره صلى الله عليه وسلم أن يكتبها..واعترض عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله بشدة على الوثيقَةِ لِقسوةِ بُنودِها قائلاً:"فَعَلَامَ نُعْطِي الدنية فِي دِينِنَا؟"فردَّ علَيه صلى الله عليه وسلم:"أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ..لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ..وَلَنْ يُضَيِّعَنِي"وهم كذلك في جدلٍ حولَ الوثيقة وصلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو..وقد حرَّرَ نفسَه من سُجونِ قُريشٍ..فقال سُهَيْلٌ:يَا مُحَمَّدُ ، قَدْ لُجَّتْ الْقَضِيَّةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكَ هَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم :"صَدَقْتَ"فقال سُهَيْلٌ:رُدَّه لقُريشٍ..وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ:يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ..أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي ..؟ فَازدادَ الأمرُ تَأزُّماً..فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"يَا أَبَا جَنْدَلٍ..اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ..إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا..وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ"وعالجَ رسولُ اللهِ المُوقفَ بما أشارت أمُّ سَلَمَة رضي الله عنها..وهناك تفاصيل ودروس في غاية الأهمية والرشد لا يتسع المقام لذكرها..وفي العودة أنّزلَ اللهُ تعالى قولَهُ:"إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا"أجل إنَّهُ لفتحٌ وفتحٌ كبيرٌ..حقنَ اللهُ به دماءَ النَّاسِ..وحقّقَ اعترافاً رسمياً بكيانِ الإسلام ورسالتِه..وأسقطَ هيّبةَ قُريشٍ..فالتحقت خُزاعةُ وهي منْ كُبرى القبائلِ العربية بكيانِ الإسلامِ تُناصِرُه..ورَفعَ عن كاهلِ المسلمين أعباءَ جبهةِ قُريشٍ..ومنحَتهم فُرصةَ التفرُّغِ لجبهةِ المنافقين وحُلفائِهم من اليهود بنفسِ الرُوحِ مِنَ الجديِّةِ والرُشدِ..وليؤصلِ منهجيةِ الحُكمِ الراشدِ لدولةِ الحقِ والعدلِ والتعايُشِ الأمنِ بينَ النَّاسِ كما أصلّتها وثيقةُ المدينةِ الراشدةِ..وبعدُ..فهلاَ تأملَ الناسُ كُلٌّ في مُوقِعهِ..وكُلٌّ على قدرِ مَسؤوليِّتِهِ هذه الوثيقةَ الراشدةَ ..؟ آملُ ذلك..واللهُ المُستعانُ.
وسوم: العدد 626