مقال جرىء لاحمد بن راشد بن سعيّد

أحمد بن راشد بن سعيّد

معركة تدور رَحاها بين الجماهير وبين شراذم مرتزقة يحملون الجنسية السعودية، وفي غفلة من التاريخ، حظوا بشيء من النفوذ والمال، وتبوؤا مراكز صحافية بارزة، ولم يمض إلا قليل حتى طفقوا يعلنون ولاءهم الحقيقي وهويتهم الحقيقية، بل عقيدتهم الحقيقية. إنهم ليسوا سعوديين إلا بقدر ما يسمح لهم هذا الانتماء بترويج أجندتهم التي عرف القاصي والداني أنها صهيونية. نعم، صهيونية بكل ما تعني الكلمة من حقد على العرب، واحتقار للإسلام، واعتناق للأساطير التي أُسست عليها «إسرائيل». لا عجب، أن تقرأ في مطبوعاتهم وأقنيتهم مصطلحات الخطاب الصهيوني: حائط المبكى بدل حائط البراق، مسلح فلسطيني بدل مقاوم، قتيل فلسطيني بدل شهيد، الأرض الفلسطينية بدل الأرض المحتلة، القدس الشرقية من دون صفة المحتلة»، الجيش الإسرائيلي لا جيش الاحتلال، بل إن قناة كقناة العربية تذهب إلى ما لم يذهب إليه حتى الخطاب الأميركي الرسمي، إذ عند إيرادها خبراً عن الكيان الصهيوني، تنشر في الزاوية اليمنى للشاشة عبارة «القدس الغربية»، ما يعني الاعتراف بالجزء الشرقي من القدس عاصمة للكيان، وتصف جنود الاحتلال في البلدة القديمة بالقدس، والذين يدّنسون المسجد الأقصى كل يوم، بالشرطة، وهو تعبير عن قوة أمنية لدولة ذات سيادة. ولما انتقدت بشدة هذا الولاء المفضوح لإسرائيل في تدوينات عدة في تويتر، حاولت القناة تلطيف موقفها، فابتكرت عبارة «شرطة الاحتلال»، ولم تقلع عن غيّها؛ لأنه ليس خطأً عابراً، بل إستراتيجية، وأسلوب تحرير، إذ لم تُوجد القناة أصلاً إلا للدعاية للمشروع الأميركي والصهيوني في المنطقة، ولو حادت عن ذلك، لانتفت «شرعية» بقائها، ولسرّحت مذيعاتها.

في العقدَين الأخيرين، لم تشهد الأمة العربية حدثاً كبيراً إلا وجدت هذه الشراذم المنتسبة إلى السعودية تتناوله انطلاقاً من ولائها الحقيقي المتدثر بشعارات طنّانة مكرورة كالوطنية والحرب على «الإرهاب». يستند هولاء إلى معطيات على الأرض تمنح زعيقهم شيئاً من الصدقية، فالتطرف حقيقة، والعنف الذي يُمارس باسم الدين ظاهرة مؤلمة، ولا يبدو أنها في انحسار. لكن خطاب هؤلاء القلة يستغل هذه الظواهر للانقضاض على القيم الدينية والحضارية للشعوب العربية، ويذهب في ذلك حدّ التماهي مع إسرائيل بوصفها «دولة» قادرة على المشاركة في لجم «التطرف الإسلامي». ولمّا ثارت شعوب عربية فيما سُمِّي «الربيع العربي»، وآلت الأمور إلى «تجريم» جماعة الإخوان المسلمين في السعودية، انتهزت البنادق المستأجرة القرار لتمارس إرهاباً «فاشياً» ضد السعودي الذي يختلف مع الانقلاب في مصر، ليس بوصمه بخيانة الوطن فحسب، بل بالزعم أنه إخواني، وفي رقبته بيعة للمرشد..هكذا. انسياق هؤلاء وراء الهوى الإسرائيلي اتضح في مسارعتهم إلى تصنيف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالإرهاب، بحسبانها تنتمي إلى الإخوان، ومن ثمّ، فيجب أن يسري «التجريم» عليها. بل إن أحد «رموز» هذا التيار، وهو محمد آل الشيخ، طالب الانقلابي السيسي بغزو قطاع غزة، و «تخليصه من الإخونجية» بحسب تصهينه. وامتدت الهوجة الفاشية لتطاول التجمع اليمني للإصلاح في اليمن، وحركة النهضة في تونس، وحكومة عبد الإله بن كيران في المغرب، بل وحكومة حزب العدالة والتنمية التي تدير تركيا منذ نحو عقد ونصف. يستبيح هؤلاء كل شيء، حتى نصوص القرآن والسنة، بحسبان ذلك «وجهة نظر» و «حرية تعبير»، أو «تجديداً للخطاب الديني»، أو بمصطلح معشوقهم الانقلابي: «ثورة دينية»، لكن أن يتبنى ناشطون أو مثقفون رأياً مختلفاً حول قضية ما انطلاقاً من رؤية تستلهم الدين والتاريخ، فإن ذلك يجعلهم في مرمى تلك المراكز الفاشية المهيمنة من خلال منابرها التي باتت معروفة: mbc وقناة العربية ومركز مسبار وجريدة الشرق الأوسط هي فقط أبرزها.

اصطف هولاء مع أعداء الأمة في كل موقف: صفقوا مثلاً لغزو العراق عام 2003 (عبد الرحمن الراشد ردّد صدى جورج بوش بتبنّيه اسم الغزو: «الحرية للعراق»)؛ انحازوا إلى العدو الصهيوني في حملاته العدوانية المتكررة على قطاع غزة (تركي الحمد مثلاً برر في جريدة «الشرق الأوسط» عدوان 2008 بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس، انظر مقالاً سابقاً لي في هذه الصحيفة بعنوان: «ما وراء النفاق: الخطاب المتصهين والعدوان على غزة)، قللوا من خطر التشيع الحوثي في اليمن، بل تعاطفوا معه بوصفه المرشح لصد حزب الإصلاح الذي يسمّونه «إخوان اليمن»؛ وسكتوا عن دور إيران الإرهابي الطائفي في سوريا، بل شاركوا في تخفيف اللوم عنه، بينما هاجموا بكل ترسانة الكراهية لديهم كل مجهود سني يرمي إلى ردع التغول الإيراني وإنقاذ الشعب السوري، ومن ذلك رفع قميص «الطائفية» في وجوه المثقفين، والتغني السمج بالتسامح و «قبول الآخر» وهم الذين هلّلوا لغلق 19 قناة تليفزيونية دينية في مصر بعد الانقلاب، وحرَّضوا السيسي على ارتكاب مذبحتَيْ «رابعة» و «النهضة»، ثم رقصوا على أشلاء الرُّكَع السُّجود الذين أحرقهم الانقلابي أحياءً. 

قبل أيام، أصدر 52 عالم دين ومثقفاً في السعودية بياناً يستنكر العدوان الروسي الغاشم على الشعب السوري، ويطالب المجموعات المقاتلة في سوريا بالاتحاد، ويدعو السوريين «القادرين» إلى «الالتحاق بركب الجهاد». لم يدع البيان غير السوريين إلى القتال (مصر شهدت في عهد الرئيس مرسي مؤتمراً حضره 500 من العلماء أفتوا للأمة كلها بالجهاد في سوريا)، ومع ذلك، فقد انطلقت ذئاب إسرائيل تعوي في أوكارها، مفترية الكذب على البيان، زاعمة أنه دعا الشباب السعوديين إلى حمل السلاح، والالتحاق بركب «داعش». قناة العربية نشرت في موقعها هذا العنوان الديماغوجي: «52 محرضاً سعودياً. يدعون إلى النفير في سوريا»، وقناة mbc نشرت على صدرها العنوان نفسه تقريباً: «52 محرّضاً من رجال الدين والأكاديميين على النفير في سوريا». لن أتحدث هنا عن أخلاقيات التناول الإخباري، ولا عن معاييره التي تشدّد على البعد عن من التلوين والتفخيخ، لأننا لسنا أمام «صحافة»، بل عصابة من مجرمي حروب المعلومات، تؤدي مهمة محددة: خدمة المصالح الصهيونية، والدعاية للخطاب الصهيوني. أحد أفراد هذه العصابة، منصور النقيدان من مركز مسبار في دبي، وصف في حسابه بتويتر العلماء الموقعين على البيان بالحمقى، وطالب الحكومة باعتقالهم ومحاكمتهم والاعتذار لروسيا قائلاً: «يمكنني أن أثق بالعلويين الذين حكموا سوريا خمسة عقود، ولا يمكنني أن أثق بشيوخ الإرهاب». جريدة الشرق الأوسط نشرت لكاتبه اسمها أمل الهزاني (معروفة بميولها الصهيونية وإعجابها بأفيخاي أدرعي، الناطق باسم جيش الاحتلال) مقالاً يزعم أن بيان العلماء «حرّض» الشباب السعوديين على الالتحاق بجبهة النصرة، وإن «لم يقل (ذلك) صراحة»، زاعمة أن روسيا لا تشن حرباً في سوريا بدوافع دينية-ضرب من الكذب المتوحش إذ إن الروس لم يخفوا ذلك، وقد نشرت الواشنطن بوست تقريراً عن العدوان الروسي بعنوان: «تعصب مسيحي وراء حرب روسيا في سوريا» (1 تشرين الأول/أكتوبر 2015). 

لكن، رُبّ ضارّة نافعة. لقد انتفض كثير من السعوديين الشرفاء في الوسائط الاجتماعية ضد رصاص الإرهاب الدعائي الذي تطلقه البنادق المستأجرة. قبل عامين فقط، كنت ألاحظ أن ربط هذا التيار بالتصهين لم يكن مقبولاً. أما اليوم، فإن عدداً متزايداً من السعوديين يذهب إلى التحدث بلغة قوية وصارمة عن «صهيونيته» وخيانته وعدائه للأمة. المطلوب بالطبع الاستمرار في عزله ونبذه وتعريته إلا من عاره. ولن يفلت من الحساب.

وسوم: 638