هل نُسكِتُ المظلوم ؟

د. محمد أيمن الجمال

المسارعةُ في الاتّهام ليست من شيم المخلصين، والانتصار للنفس ليس من صفات الكاملين؛ فكم ظنّ الإنسان ظنًّا كان إثمًا، وكم تعدّى على أعراض إخوانه بما لا يسعُهُ أن يتخلّص منه يوم القيامة، ولو أوتي ملئ الأرض ذهبًا !

لكنّ من النّاس ممّن نُحسنُ بهم الظنّ من يُسارعُ فيتّهمُ، ومن يُباشرُ لنفسِهِ انتصارًا كان يكفيه عنه أن يدعوَ لإخوانِه أو ينصحَ لهم.

وإذ يتكلّم بعضُ طلاّب العلم على منهجٍ ما فليس هذا انتصارًا لأنفسهم، بل هي قضايا علميّة ومسائلُ فقهيّة أو اعتقاديّة، يُناقشونها، وقد يشتدّ المرء في مناقشة القضيّة من وجهين:

أحدهما: أنّ المسائلَ باتت تُعرضُ للعوامّ من وجهة نظرٍ واحدةٍ، ولا يكاد العوامّ يعرفون رأي الأئمّة الأعلام، ولا يسمعون قولَهم، بل اتُّهِمَ الأئمّة في دينهم وحفظهم، ونالت منهم ألسنة الجهّال قبل طلاّب العلم، ودُبّجت رسائل (علميّة!) في النيل من أئمّة كبارٍ أعلام، شهدت الأمّة لهم قرنًا بعد قرن وجيلاً بعد جيل ! ثمّ أظهر بعضُ أهل زماننا النيل منهم ومن مناهجهم العلميّة بألفاظ وعبارات بل وعناوين ما تجرّأ أحدٌ من المعاصرين لهم المقاربين لهم في الفضل والعلم أن يذكرهم بها ! فكان لا بدّ من عرض المسائل من وجهة نظرٍ أخرى، ينقلُ فيها طلاّب العلم والعلماء ما حكاه الأئمّة الأعلام، وما أقرّوه في كتبهم من مناهج وفتاوى.

والثاني: أنّ الشدّة عند المخالف قد تستدعي عند المتكلّم على مسألة ما ردّة فعلٍ تُساويها في المقدار وتُعاكسها في الاتّجاه ! كيف لا، وقد بادر المخالفُ بالتبديع والتفسيق والتضليل، بل والتكفير، فلزِمَ عند بعض المتهوّرين أن يُرَدَّ عليه بلغتِهِ وأن يُجابَ بأسلوبِه، ليذوق وبالَ ما فعلَ ! ولا ريب أنّا لا نُسلّم للمشتدّ هذه الشدّة الناتجة عن ردّة فعلٍ أقرب ما تكون إلى الغضبة للنفس، وإن زُيّنت لفاعلِها على أنّها انتصارٌ لمنهجٍ يراهُ الحقَّ.

وإذ يُمنعُ المخالف من نشر أقوال أئمّته؛ فهذا حقٌّ لأئمّتنا المغيّبين عن الحياة العلميّة علينا !

لقد سيطر أتباعُ منهجٍ واحدٍ على سوق العلم، فباعوا فيه واشتروا، وأنفقوا غالي الآراء في شراء رخيصها ومبتذلها، فلا أقلّ من أن نُعيد لأهل العلم هيبتَهُم في أرضهم، ولا يرضى عاقلٌ أن يُمنع من نشر معتقدِهِ، بل أن يُطردَ! من كلّ منتدى يُسيطرون عليه بحجّة أنّه يُريدُ نشر (البدعة!) وأنّه يؤثّر على عقول العامّة والبسطاء ! بل يؤثّر على عقول طلاّب العلم، ويمنعونهم (تحريمًا) من الاستماع لقوله أو النظر في رأيه، ثمّ يُطالب أن يسمح لهذا الذي يمنعه والذي سيطر بإعلامِهِ ومالِهِ على سوق العلم بنشر أفكارِهِ وبثّها في مساحةٍ خُصّصت لأئمّةِ الأمّة وعلمائها.

وحين يكون لهذا الفكر دورَهُ السياسيّ في إذكاء ظلم الحكّام، والوقوف إلى جانب الطغاة فإنّه لا ريب سيكون الهجوم عليه أعنف !

فإنّ الظلم يستدعي أن يُجابَه، ويتطلّب ألاّ يؤذن للظالم وأذنابِه وأتباعِهِ أن يمدّوا رؤوسهم بين المظلومين ليُمارسوا عليهم ظُلمًا علميًّا بعد أن أذاقوهم ظلمًا سياسيًّا وعسكريًّا. فالذي يُقاتل إلى جانب خليفة الزعيم الأوحد في ليبيا، هم أنفسهُم الذين يدعمون انقلاب مصر ! وهم هم الذين يمنّون على الأمّة بعمارة الحرمين وسقاية الحاجّ ! وهم هم الذين يتمترسون خلف طغاة بلادٍ أخرى ! فكيف يُطالبُ المظلوم أن يَمنح الظالمين علميًّا في أرضٍ وأمنيًّا في بقعة أخرى وسياسيًّا أحيانًا وعسكريًّا في بلادٍ أخرى مساحةً كلاميّةً ليُمارس فيها نشاطَهُ المعهودَ في الظلم والازدراء؟

وعندما يجعلُ منهجٌ التفسيقَ والتبديعَ عنوانًا له، لن يكون حقًّا أن تُطالبَ الآخر باحترامِهِ والسماح له بلطمك لتُديرَ له خدّك الأيسر !

لو أبقى أصحابُ ذلك المنهج للكلام العلميّ محلًّا لسُمِحَ لهم أن يتكلّموا بما يشاؤون، ولكان الردّ العلميّ عليهم هو السبيل الوحيد لكشفِ ازدرائهم للأمّة ولِــلَجمِ الفوقيّة التي يتعاملون بها مع هذه الأمّة، فوقيّة الاستعلاء والتكبّر بدعوى المنهج ! وزعم اتّباع الكتاب والسنّة، مع تقوّي ذلك بالانتماء إلى بلاد الحرمين ! نحنُ نُطالبُ المظلوم علميًّا وتاريخيًّا أن يتنازل عن حقّه، ونزعم أنّنا بذلك نريد جمع شتات الأمّة .. وتوحيد صفّها ! ومن لا يُريد توحيد الصفّ إلاّ اليهود والنصارى ! من يسعى لتمزيق الأمّة إلاّ عدوّها ؟ وهل يصحّ اتّهام المظلوم الذي أراد أن يأخذ بعض حقّ علماء الأمّة بأنّه يُريد تمزيقها وتفريقها ؟

نُدرُكُ أنّ الحملة شرسة، وأنّ المستهدف الإسلام، وأنّ العدوّ لا يُفرّق بين تيّارٍ وتيّارٍ إلاّ بقدر ما يُصيبُهُ منه من أذى؛ ولذلك يُصنّف ويميّز ! وليس من المعقول مع شراسة الحملة إلاّ أن نُبادر إلى رأب الصدع، ونترك التعدّي على الرأي الآخر، وإن كان مستحدثًا مبتدعًا لم يُعرف في السلف مثلُه ! وإن نسب أصحابُهُ أنفسَهم إلى السلفيّة ! لكنّ أصحاب هذا الرأي ما يزالون لم يفهموا أنّ الحرب دائرة، يهتمّون بكوي غتراتهم الحمراء أكثر من اهتمامهم بأمّة تُذبحُ في أرض الشام، وعصابةٍ للحقّ تُخذلُ فيما بورك من الأرض حول المسجد الأقصى، بل إنّهم يُعملون سهامهم في هؤلاء وهؤلاء .. ثُمّ يُطالب المعتدى عليه بالسكوتِ، والهدوء في الردّ، والردّ العلميّ ... !! ما لكم كيف تحكمون !

إنّ السكوت عن خطأ المخطئين ليس إلاّ من آثار تربية الحكّام الظلَمَة .. أسكتوا شعوبهم عشرات السنين بحجّة الصمود والتصدّي لليهود، أورثوا الأمّة فكر الخنوع، فأثّر ذلك في مشايخها ومفكّريها ! وبثّوا في النفوس روح الخوف من العواقب المجهولة؛ ليحجّموا دورها، ويمنعوا تحرّرها، ووالله لنهينّ عن المنكر أو ليسلّطنّ الله علينا من يفرّق صفّنا .. وقد حصل !

نعم، كلّ فريقٍ يدّعي لنفسِهِ أنّه على الحقّ، ومن حقّه أن يُهاجم ويدافع ! لكنّ من يزعم أنّه على الحقّ لا يحتاج لإغلاق مكاتب جامعاته في وجه كتب الباطل ! ما هكذا تكون محاربة الباطل، بل تكون بمقارعة الحجّة بالإقناع، والدليل بالبرهان ! من يزعمُ أنّه على الحقّ لا يحتاجُ إلى تصنيف الأفكار والجماعات بأنّها إرهابيّة ليُساهم في حرب دول العالم عليها، فيبارك ذلك الشيوخ على منابر بلاده !

ننتظرُ من العقلاء أن يُبادروا بقبول الآخر .. ونرجو منهم أن يسمحوا لكلّ صاحب فكرٍ له سلفٌ من أئمّة الإسلام العظام أن يكون له مكانٌ في كلّ موقعٍ وصفحة، وحين يبدأ الطرف الآخر المعتدي لعشرات السنين على تراث الأمّة وعلمائها بالتسامح في هذا الأمر يُمكننا أن نُطالب المظلوم أن يكفّ عن الدفاع !

نسأل الله أن يرفع البلاء عن هذه الأمّة وأن يوحّد الصفوف.

وسوم: 638