سلّة التسوية أمام عقدة الرئاسة
انتخاب فرنجية قبل إزاحة الأسد إيذان بالسقوط الدستوري للدولة في الإكراه السياسي
أصبحت السلة المتكاملة للحل السياسي حديث الساعة، بعد أن انطلق النقاش حولها من كلام أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله وما تلاه من موقف إيجابي لاقاه به الرئيس سعد الدين الحريري مبديا الاستعداد للبحث في مقدمات وسبل الخروج من الأزمة الخطرة التي باتت تهدّد قواعد الدولة ومؤسساتها الدستورية وانتظام الحياة العامة في البلد.
ولا يمكن ونحن نقارب هذا الطرح، أن نتجاهل أن التفسخ السياسي الذي وصلت إليه حالة الدولة بسبب ممارسات “حزب الله” التعطيلية، أدى إلى عودة التفسخ الأمني، فعادت العمليات التفجيرية وكان تفجير برج البراجنة، الذي حمل جملة مؤشرات شديدة الخطورة، أهمها أن تنظيم “الدولة الإسلامية” قد فتح المواجهة مع الحزب، وقرّر الانتقال بعمله في لبنان من اعتباره “أرض نُصرة” إلى اعتباره “أرض جهاد”، وكان تفجير الضاحية أول عمل “رسمي” لهذا التنظيم في بلاد الأرز..
هذا الواقع، هو الذي دفع “حزب الله” إلى تقديم التنازلات المبدئية، والدعوة إلى التسوية الشاملة.
وتبدي الأوساط الإسلامية المتابعة لهذه الملفات خشيتها من أن يكرّر “حزب الله” فصوله الانقلابية، بعد أن يحقـّق أهدافه في عملية القضم المرحلية التي شاء أن يقوم بها حتى يحين الانقلاب التالي.
وتستعرض الأوساط عينها مسيرة الانقلابات التي قام بها “حزب الله” عند كل محطة ومفترق ومأزق يقع فيه، كان ينحني للعاصفة، ويستغل الظروف ويعود للانقضاض على الدولة وعلى خصومه السياسيين، بوسائل الإكراه السياسي الأمنية والعسكرية.
فالرئيس الشهيد رفيق الحريري أتى للحزب بتفاهم نيسان وتشريع المقاومة للعدو الصهيوني، ثم اتهموه بالخيانة وأهدروا دمه سياسيا، وانتهى المطاف باغتياله..
وفي عدوان نيسان 2006 تضامن “تيار المستقبل” مع “حزب الله” في مواجهة العدو الصهيوني، ووقف الرئيس السنيورة مواقف متقدمة دفعت الرئيس بري إلى تسمية حكومته بأنها حكومة “المقاومة السياسية”. فكانت المكافأة انقلاب السابع من أيار واحتلال ببيروت..
ورغم أخذ الحزب الثلث المعطل والوزير “الملك” في حكومة الرئيس سعد الحريري، فإنه قام بإسقاطها بطريقة مسيئة، خلال زيارة الحريري للرئيس الأميركي باراك أوباما، عندما دخل رئيسا وخرج رئيسا سابقا !!.. ثم أتى بحكومة اللون الواحد من خلال القمصان السود وعلى رأسها الرئيس نجيب ميقاتي.
وبعد سلسلة عمليات التفجير عام 2013 التي أحدثت أضرارا كبيرة في صورة الحزب أمام جمهوره، وأدت إلى “تنازل” حزب الله وتشكلت حكومة المصلحة الوطنية برئاسة تمام سلام، وعندما استنفدت أغراضها قام الحزب بتعريضها للشلل والتقويض.
من هنا، يصبح عرض الأمين العام لـ”حزب الله” بالتسوية عرضا محفوفا بالمخاطر وبالهواجس من تكرار الانقلابات، خاصة أنه يتوقع، وعلى نطاق موثوق أن يعمد الحزب إلى التحرك الميداني لفرض رئيس جمهورية موال له، في حال انسداد الأفق المحلي، إذا ما احتاجت طهران تحريك الملف وفق حسابات الولي الفقيه الإقليمية.
ألغام سلة التسوية
ومن المؤكد أن ملف رئاسة الجمهورية هي الملف الأكثر تعقيدا وإلحاحا، وهو يشكل وجـه السلة السياسية المطروحة للتفاوض. وفي حين يُظهر “حزب الله” تمسكا بالتعطيل عبر تمسكه بترشيح النائب ميشال عون للرئاسة الأولى، مع إدراكه أن هذا الخيار لا يمتلك أي فرصة للتقدم، كون عون أحرق كل سفنه وخاض بحر الولاء المطلق للحزب، وكان آخر مواقفه اعتبار التحالف الذي يجمع التيار البرتقالي بحزب ولاية الفقيه في لبنان، أقوى من عواميد بعلبك، وبالتالي، فإن من الصعوبة بمكان أن تقبل قوى 14 آذار البحث في اعتبار عون مرشحا توافقيا يصلح للرئاسة، رغم أنه لا يمكن إنكار حيثيته، بحيث يوجب هذا السياق العودةَ إلى ما قاله نصرالله حول اعتبار العماد عون “ممرا” ملزما للرئاسة، والفارق كبير بين المرشح المحسوم، وبين الممرّ، الذي يحوّل الحليفَ البرتقالي إلى أحد صُنـّاع الرئيس المحليين الفاعلين.
في هذه الأجواء، ستصرّ قوى 14 آذار على طرح مرشح توافقي يمكن أن يشكل جامعا مشتركا للقوى السياسية، ويعيد ترميم الحياة السياسية وإحياء المؤسسات واستئناف الحياة الدستورية، لكن “حزب الله” يعلن أنه لن يرضى برئيس “لا طعم له ولا لون” وسيتجاوز عون كمرشح رئاسي، ليصل إلى مرشحه الفعلي والحقيقي، وهو النائب سليمان فرنجية.
من المتوقع أنه مع تقدّم التسوية يتوقع أن تسقط أوراق عون الرئاسية تدريجيا، وأن ترتفع أسهم فرنجية كمرشح سيسعى “حزب الله” إلى فرضه باعتبار قبوله تنازلا منه للوصول إلى حل “وسط”.
فرنجية: تمايز تحت سقف “الممانعة”
من جهته، تميّز فرنجية خلال الأشهر الفائتة عن مواقف العماد عون، وحرص على الظهور بمظهر الحليف الذي يأخذ قراراته وفق رؤيته الخاصة، فكان أن رفض خيار التظاهر عندما ذهب عون إلى النزول للشارع من أجل استعراض قوته، وللقول بأنه “الزعيم” الذي يمثّل الشارع المسيحي، وأنه المرشح القوي المطلوب لاحتلال كرسي الرئاسة.
وتعمّد فرنجية تظهير الخلاف مع عون بسبب تفرّد الجنرال في اتخاذ القرارات دون التشاور المطلوب بين حليفين يفترض أن يجمعهما تنسيق وتكامل، لا تفرّد واستلحاق.
كذلك استمر فرنجية في تعزيز العلاقة “العائلية” والشخصية مع رئيس حزب الكتائب سامي الجميل، رغم الافتراق السياسي، لكن الجسور باتت سالكة بين الطرفين.
وعلى صعيد العلاقة مع “القوات اللبنانية” استمر فرنجية في سحب فتائل التوتر وبات ينظر إلى المسألة من منظور سياسي أقرب إلى تجاوز الماضي منه إلى الحساسية والتنافر، مع حرص القوات على التوضيح باستمرار وجهة نظرهم في أحداث زغرتا وسياقاتها التي يعتبرون فيها أن الدكتور سمير جعجع كان خارج واقعة اهدن الدموية، وأن الترتيب القيادي حينها يضع “الحكيم” خارج دائرة الاتهام..
أما “تيار المستقبل”، فمن غير المستبعد أن ينظر الرئيس سعد الدين الحريري إلى فرنجية كمرشح “الحدّ من الأضرار”، كما كان سياق أدائه السياسي لمقاربة فصول الأزمة السياسية المتفاقمة، خاصة أن حركة التواصل بين الرئيس الحريري والنائب فرنجية عبر الموفدين، مما يسمح بالاستنتاج أن مستويات البحث بلغت درجات متقدمة من النقاش الرئاسي، على الأقل بالأحرف الأولى.
ترشح فرنجية في ميزان الصراع
وهنا يجب التوقف عند أبعاد هذا الخيار في حال شهد تقدما في الأروقة السياسية:
ــ لا يمكن في أي حال من الأحوال، تجاهل مخاطر وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية، لأنه رغم ليونته السياسية في بعض المحطات، إلا أنه من أعمدة السياسة الأسدية في لبنان، ولا يمكن الرهان عليه كرئيس معتدل، بل إنه مرتبط ارتباطا لا انفكاك عنه، بمحور “الممانعة” وقراراته لا يمكن أن تخرج عن هذه الدائرة، وكل تقييم بعيد عن هذه الحقيقة، يصبح تعاميا غير مفهوم عن المخاطر المنتظرة في حال رست البوصلة الرئاسية على فرنجية.
ــ ان التوازنات القائمة حاليا في البلد تسمح لـ”حزب الله” باستعمال “البلطجة” الأمنية والسياسية لفرض قراراته ومرشحيه – بمن فيهم فرنجية- على اللبنانيين، وما السابع من أيار والقمصان السود عنا ببعيد..
إلا أن خيار “حزب الله” الانقلابي مرتبط بخطر يعتبر ناقضا لجنوح الحزب، وهذا المانع الناقض يتمثـّل في إدراك الحزب أن أي محاولة انقلابية تشمل احتلال العاصمة ومناطق أخرى، سيعني تلقائيا فتح كل أبواب التبرير والتهيئة لدخول تنظيم “الدولة الاسلامية” إلى المعادلة اللبنانية، تحت شعار إنقاذ السنة في لبنان، مما سيطيح بكل التوازنات الداخلية، ويُدخل البلد في مرحلة الفوضى الواسعة..
نقطة أخيرة، نعتقد أنها الأهم في هذه المقاربة، وهي مقاربة واقعية لا يمكن التهرب منها، وتتعلق باحتمال وصول طروحات التفاوض الرئاسي إلى الرسو على النائب سليمان فرنجية.
إن هذا الأمر يتعلق مباشرة بمسار التحوّلات في سوريا. فإذا استطاعت روسيا وإيران أن تمدّ بعمر مجرم الحرب بشار الأسد في المعادلة السورية أشهرا إضافية، ونضجت الطبخة الرئاسية خلالها، فإن وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية مع استمرار بقاء الأسد في سوريا، سيعتبر هزيمة ساحقة لقوى 14 آذار وحلفائه الإقليميين، وانتصارا وغلبة بائنة لقوى 8 آذار وخطها الدولي والإقليمي.
أما في حال إزاحة الأسد، بأي شكل من الأشكال، من المعادلة السورية، فإن انتخاب فرنجية ساعتها لن يحمل هذا الحجم من المخاطر، لأن سقفه الإقليمي الأساس، هو سقف سوري، وليس سقفا إيرانيا، رغم تحالفه مع حزب ولاية الفقيه في لبنان، وفي حال فقدانه الظهير الأسدي، فإن وجوده في سدة الرئاسة سيكون مخفف الوطأة، إذا ما قرّرت 14 آذار الانصياع مرة أخرى للتسويات الظالمة..
من هنا، فإن التسرّع في القبول بفرنجية رئيسا للجمهورية قبل انجلاء الوضع السوري، يصبح قرارا محفوفا بالمخاطر ويهدّد بدخول مرحلة جديدة عنوانها: انتهاء صيغة الدويلة داخل الدولة، وبدء مرحلة انقضاض “حزب الله” على الدولة وتلبُّسها، وفرض التغيير من خلال الإكراه السياسي عبر المؤسسات الدستورية!!
أحمد الأيوبي
مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية
وسوم: العدد 643