تهافت نظرية الفوضى الخلاّقة

من الأفكار الشائعة في قراءة ما يجري من انقسامات وصراعات دموية وفوضى أن أمريكا وراء ذلك. ولكن لماذا؟ وكيف وما الذي تجنيه من وراء الفوضى. وهل له سوابق في تاريخها باعتبارها دولة إمبريالية تسعى لنهب ثروات العالم، وفي مقدّمها ثروات البلاد العربية. وهذا لا يتحقق إلاّ إذا بسطت هيمنتها العسكرية والسياسية وحتى الثقافية والحضارية.

لو رجعنا إلى تاريخ الغرب الاستعماري لوجدناه يعجّ بحروب الغزو العسكري والاحتلال وإقامة النظام الاستعماري. وهذا هو أيضاً تاريخ الولايات المتحدة الإمبريالي سواء أكان في أمريكا الجنوبية أم كندا أم آسيا أم أفريقيا. وذلك من خلال شنّ الحروب ونشر القواعد العسكرية وصناعة الانقلابات العسكرية. ولكن الهدف دائماً بسط الهيمنة والسيطرة وفرض أعلى درجات الاستقرار في مناطق نفوذها من أجل تحقيق الأهداف المالية والاقتصادية ومن ثم جني أقصى الأرباح والفوائد، وإبعاد المنافسين الدوليين.

ولكن لم تكن الفوضى يوماً هدفاً بحد ذاتها للدول الاستعمارية الأوروبية أو للإمبريالية الأمريكية. وقد كان هدف كل الحروب فرض النظام الاستعماري – الإمبريالي الذي يقيم أعلى درجات الاستقرار والسلم الداخلي.

وإذا اعتبرنا أن الحرب حالة من حالات الفوضى إلاّ أن الهدف هو كسبها ضدّ جيش العدو لفرض الاستقرار.

ولهذا فعندما يُقال أن أمريكا ذهبت إلى العراق لتشعل الفوضى والحروب الأهلية فيه يكون قولاً مناقضاً لهدف الهيمنة والسيطرة على الثروات وإبعاد المنافسين وفرض الاستقرار الذي يديم الهيمنة ويعيد إنتاجها. وعندما يُقال أن أمريكا انسحبت من العراق برضاها وخيارها وذلك بعد أن دمّرته وأشعلت النيران في داخله يكون قولاً مخالفاً لطبيعة أمريكا الهيمنية الإمبريالية الطامعة بالسيطرة على النفط وبقية الثروات. طبعاً حدث للعراق كل ذلك ولكن بسبب فساد المحافظين الجدد وجهالتهم حين أعطوا أولوية للعراق على روسيا والصين أو حين حلّوا الجيش العراقي بهدف تشكيل جيش بديل على قياسهم فأخطأوا في الحسابات وليس لأن الهدف كان تدمير العراق وإغراقه بالفوضى.

فأمريكا انسحبت من العراق تحت ضغط المقاومة أولاً وثانياً بخسارتها نتائج العملية السياسية التي أوصلت إلى السلطة أحزاباً مختلفة متحالفة مع إيران وغير موالية لأمريكا بل أن قرارها بحلّ الجيش العراقي كان خطأ استراتيجياً من زاوية مصلحتها في الهيمنة على العراق. لأن هذا الحلّ فرض إعادة تشكيل قوات أمنية وجيش من أفراد وقيادات موالية للأحزاب المتحالفة مع إيران.

ومن ثم إن محصلة الفوضى التي نتجت في العراق جاءت من تطورات ميزان القوى الداخلية الذي أفلت من أمريكا، وانقلب عليها. مما اضطرها إلى الانسحاب، تاركة وراءها فوضى لا سيطرة عليها بل هي نتاج فقدان سيطرتها على العراق.

فالفوضى لا تُصنَع من خلال طرف واحد وإنما هي محصلة صراع أطراف متعددّة من دون أن يكون لأحدها أو أكثر إمكان الحسم النهائي للخروج من الفوضى إلى الاستقرار ينشده كل قوي منتصر. وهذا قانون عام وسنّة جارية.

ثم إذا كانت الفوضى هي نتاج صراع عدّة قوى أو أطراف، مع قدرة لقوّة، أو طرف منها، على حسم الصراع وفرض نظامه فصناعه لاستقرار الذي يريد. فهذا لا يسمح بالقول أن قوّة ما هي صانعة تلك الفوضى. لأن هذا القول يفترض تحكّم تلك القوّة بكل أطراف الصراع لتقودهم إلى الفوضى. فما دامت الفوضى ليست من صنع طرف واحد في الصراع وإنما تحتاج إلى مشاركة الأطراف الأخرى في صنعها، فسوف يكون من المتعذّر وجود قوّة خارجية يمكن أن يُعْزى لها صنع الفوضى. لأن تلك القوّة تستطيع أن تتحكم بطرف واحد، وإذا اعتُبِرَ أنها تتحكم بعدّة أطراف فكيف يفسَّر تصادم تلك الأطراف بعضها ببعض لتكون فوضى عامّة ومعمّمة، كما هو حادثٌ فعلاً.

فيا للكسل الفكري أو للفكر المُغْرِض حين يتعذر أن ترى الفوضى بأنها نتاج صراع المنخرطين فيها. وليست صنيعة طرف واحد. لأن من شروط الفوضى أن تعمّ الصراعات عدد كبير من الأطراف. أما الصراع بين طرفين أو معسكرين حيث يمكن أن تحمّل المسؤولية لأحدهما. فلا يكون عندنا فوضى وإنما حرب بين جبهتين. وهذه الأخيرة رؤية الواقع ترفض وصفه بالفوضى.

إننا هنا أمام تعريف للفوضى يفرّقها عن حالة الحرب بين جبهتين. ففي حالة الحرب ثمة خط نار واحد، أما في حالة الفوضى فثمة خطوط نار داخلية متعدّدة. الأمر الذي يشكّل فارقاً مهماً في تحديد المسؤوليات في كل من الحالتين. ففي الحالة الأولى ثمة مُعتدٍ ومُعتدىً عليه، أو ثمة معتديان. أما في الحالة الثانية فالتداخلات في ما بين عدد من الأطراف المتصارعة يكون تحديد المسؤولية في تشكّل حالة الفوضى صعباً ومعقداً إن لم تكن موزّعة ولو بتفاوت.

ثمة حالتان يمكن أن تشجع أمريكا الفوضى فيهما: الأولى أن تترك الكيان الصهيوني ليشنّ حرباً كما حدث في تموز/يوليو 2006 في لبنان، فأسمت كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا ذلك بالفوضى الخلاّقة معتمدة على انتصار جيش العدو وفرضه لشروطه وشروط أمريكا على لبنان. ولكن هزيمة العدوان وانتصار المقاومة جعل نصراً خلاّقاً للمقاومة وحزب الله وهزيمة خلاّقة للكيان الصهيوني وأمريكا. ولهذا ابتلعت كونداليزا رايس ما أسمته الفوضى الخلاّقة وهي تبتلع ريقها.

أما الحالة الثانية فهي محاولة أمريكا إشاعة اضطرابات في جبهة العدو. ولكن هذه لا تسمّى فوضى خلاّقة لأنها لا تستطيع أن تُسيطِر عليها وكثيراً ما انتهت بسحقها من قِبَل خصومها.

فالفوضى التي تعمّ الوضع العربي العام في هذه الأيام ضربت، عدا في سورية، في البلدان المحسوبة ضمن مناطق السيطرة الأمريكية أو ضمن البلدان غير المعادِية أنظمتها لها. فكيف تكون فوضى خلاّقة من صنع أمريكا. بل حتى في سورية فلن يكون لأمريكا سيطرة على نتائج الصراع هناك.

ولهذا يجب اعتبار نظرية الفوضى الخلاقة من النظريات السطحية والمتهافتة.

وسوم: العدد 644