هل من مراجعة للقراءات الخاطئة

ليس من السهل أن تُحصَرَ كل القراءات التي تقدّم رؤى أو تحليلات حول الأوضاع الراهنة ومن ثم كيف تتعدّد التفسيرات انطلاقاً من تعدّد القراءات.

ربما لم يسبق أن تعدّدت القراءات والتفسيرات لوضع من الأوضاع، أو لأوضاع في زمن محدّد، كما يحدث مع الأوضاع الراهنة سواء أكان على مستوى الوضع العالمي، أم الوضع الإقليمي أم العربي أم المحلي في هذا القطر أو ذاك.

حتى الذين اختلفوا في الموقف أو الانحياز، لهذه الدولة أو تلك، أو لهذه القوّة أو تلك ما كانوا ليختلفوا، في السابق، حول وضعها في ميزان القوى، أو حول فهم استراتيجيتها وسياساتها، أو ما تريد، أو تسعى إليه. كان الاختلاف حول أساس الموقف منها: العداوة أو التأييد، واستخدام الشعارات، والشعارات المضادة.

مثلاً خلال مرحلة الخمسينيات والستينيات ما كان أحد ليختلف حول قوّة أمريكا ومكانتها في ميزان القوى، أو حول استراتيجيتها وسياساتها. ولم يكن ليشذ إلاّ الذين ظلوا يرون أن بريطانيا ما زالت تتحكّم في العالم.

أما الاختلاف فكان في وصفها إمبريالية أو هيمنية أم دولة ديمقراطية أو حرّة.

أما اليوم، في الأوضاع الراهنة، فالقراءات متعدّدة: أولاً في تحديد موقع أمريكا في ميزان القوى، وحتى الذين اعتبروها تراجعت، أو ضعفت اختلفوا في مدى ما حدث من تراجع وضعف. ويختلفون أكثر في تحديد سياساتها بالنسبة إلى هذه القضية أو تلك. ويختلفون أكثر في قراءة علاقاتها بحلفائها التقليديين ومدى سيطرتها عليهم ومدى اختلاف أو تبعية مواقفهم إزاء موقفها.

الأمر نفسه ينطبق الآن في قراءة موقع كل دولة كبرى أخرى في ميزان القوى، وما هي استراتيجيتها وكيف تقوّم علاقاتها وتحالفاتها وهكذا.

وإذا جئت إلى تقويم الأوضاع الإقليمية والعربية والصراعات داخل الأقطار التي اندلعت فيها حروب وانقسامات حادّة فستجد التعدّد في القراءات مفتوحاً على آفاق متناقضة حتى التناطح. مما يثير العجب كيف يمكن أن تختلف القراءات في فهم ما هو موضوعي أو ذاتي إلى مستوى يصل 180 درجة.

من الأمثلة الصارخة على هذا التعدّد العجيب، أو العجاب، في قراءة ظواهر معيّنة أو أحداث معيّنة لنأخذ ظاهرتَيْ داعش والنصرة وما يدور حول قراءة ما يتعلق بهما.

هنالك قراءة تعتبر داعش في سورية صناعة النظام السوري وفي حالة تبعية له وفي خدمته. وهي قراءة تبنّاها الرسميون الأتراك أو من كانوا مقرّبين منهم وتبنّتها أطراف سورية معارضة بقناعة شبه يقينية أو مطلقة. وقد راح الذين يقرأون داعش على هذه الصورة يستندون إلى مجموعة من الوقائع التي يعتبرونها دلائل تؤكد قراءتهم. ومن هذه الوقائع بعض القيادات التي كانت في سجون النظام وأفرَجَ عنها قبل حوالى ثلاث سنوات، أو قيام الطائرات السورية بقصف مواقع النصرة وترك مواقع داعش، أو كوْن داعش لم تدخل في مواجهة واحدة عسكرية مع النظام، أو تحرّك داعش لتضرب النصرة أو الجيش الحر في أثناء خوضهم معارك ضد قوات النظام.

وإذا قلت لهم أن كل هذه الوقائع تحتمل تفسيرات أخرى ولا تدلّ على أن داعش صناعة النظام السوري. ولا تدلّ على أن داعش ليست معادية للنظام. أو أشدّ عداوة له من النصرة. فمثلاً الإفراج عن سُجناء إسلاميين تمّ لأسباب لا علاقة لها بداعش بل لم تكن داعش موجودة أصلاً في حينها، وهؤلاء توّزعوا على مختلف الأطراف المُعادِية للنظام فالأمر لا يخصّ داعش وحدها. أما قصف النظام للنصرة وليس لداعش أو ليس ضدّهما بالتساوي فيرجع إلى تقدير النظام أيّ من الطرفين أشدّ خطراً عليه، في تلك اللحظة، وكانت النصرة في هذه الحالة. ومن ثم لا يعني عدم قصف داعش لأنها "صنيعة للنظام". وإذا لم تدخل داعش المعركة، في مرحلة ما، ضدّ النظام فلأنها تستعد للسيطرة على المناطق التي تحتلها النصرة وهذه أولويتها وهي مفهومة ومُفسّرة. ومن ثم ليس لأن داعش في خدمة النظام أو تتلقى الأوامر منه. والأهم ماذا ستقولون عندما ينتقل الصراع إلى مواجهات بين النظام وداعش. وهذا ما حصل لاحقاً بعد احتلال داعش للموصل أو استيلائها على مناطق واسعة من العراق حيث تابعها النظام السوري بالقصف ثم شهد هذا العام عدّة معارك بين النظام وداعش.

وبالمناسبة عندما يُقدم تفسير للوقائع نفسها يدحض التفسير الأول يُواجَه بمنهجية تلجأ إلى التحدّث عن المعلومات الإستخبارية التي لها سطوة خاصة في الإقناع. وهنا يصبح التفسير في حرج ما دام دحضه لا يقوم على وقائع مشهودة، وإنما على معلومات سريّة لا يعرف أحد من أين جاءت وكيف تركّبّت ومدى صدقيتها. فاللجوء إلى حجّة المعلومات السريّة "الموثوقة مائة بالمائة" تعطّل الوقائع وكل تحليل منهجي رصين وتأخذ العقل إلى الاقتناع بمجهول. والأعجب أنك لا تستطيع مواجهة المعلومات السريّة حتى بعد أن تكّذبها الوقائع. ولا تفقد ثقتك بمروّجها وتبقى شهيتك مفتوحة لمعلومات سريّة جديدة.

لكن من الجهة الأخرى وفي اللحظة نفسها تسمع عن قراءة تعتبر أن داعش صناعة تركية أو هي عميلة تركيا وتعمل لحسابها وهنا أيضاً تُساق وقائع تحمل تفسيرات عدّة ولكن تفسّر باتجاه واحد هو تبعية داعش لتركيا. فما هذه الوقائع؟ تسهيل مرور قيادات وأفراد داعشية من تركيا إلى سورية والسماح لها بمرور الأسلحة والمعدات. وهنالك قواعد شيشانية وأنغورية في تركيا تعمل لحساب داعش. وهنالك موقف تركيا المتردّد من داعش عندما هاجمت عين العرب، أو رفضها الدخول في التحالف الذي دعت له أمريكا ضدّ داعش والنصرة. وبالمناسبة تضاف النصرة إلى التبعية لتركيا كذلك. وهذا النهج يعتبر الأجهزة الإستخبارية الأمريكية والأوروبية والقطرية والتركية والسعودية تتعاون من خلال غرفة عمليات في إدارة المعارك وتسهيل التسليح والتنقل وقيادة العمليات لداعش والنصرة وأطراف سورية مُعارِضة أخرى.

عندما يُرَدّ على واقعة تسهيل دخول داعش والنصرة من تركيا بما في ذلك تأمين التسليح والإمداد بأنه لا يعني بتبعية داعش مثلاً لتركيا. فتركيا تسهّل الأمر لكي تؤذي النظام السوري من دون أن تكون مُسيطِرة على قرار داعش أو النصرة. لأن كل ما يُقال في هذا الصدد سرعان ما سيتطاير هباءً منثوراً عندما سيفتح الصراع بين تركيا وداعش على سبيل المثال. فهذه التنظيمات تفيد من التناقضات بين تركيا والنظام السوري وتقبل من تركيا، أن تُسهّل لها المرور والتسلّح وحتى التدريب وتعتبرها مُسَّخّرة ولكن لا تعتبرها حليفاً، وليست مُستَتبعَة لها أو لقرارها. وهي تعلم أن معركتها معها قادمة. وهو ما يحدث الآن حيث اندلعت المواجهة بين تركيا وداعش. ومع ذلك لا تجد من يبحث عن قراءة دقيقة لتفسير ظواهر وعلائق بين القوى المتصارعة لم يسبق أن مرّ لها مثيل من قبل.

فالقراءة في المرحلة الراهنة تخضع لأغراض التحريض والتعبئة وليس لتقديم قراءة أكثر تطابقاً مع الواقع والدقة. والقراءة الخاطئة قصيرة الأجل سرعان ما يبين عكسها. ولكنها في الآن نفسه تصلح للمواجهة الناجحة في القضاء على عدّو يتوجّب القضاء عليه. ولهذا يُكتَب لها البقاء.

هاتان القراءتان مجرّد مثلين فيما الأمثلة كثيرة التي هي من الطراز نفسه في تعدّد القراءات، كما تعدّد التفسيرات لوقائع حمّالة أوجه تتعلق بظاهرة داعش أو النصرة أو ظواهر أخرى أخذت تصعد إلى السطح في هذا القطر العربي أو ذاك. والمعلومات الإستخبارية (أغلبها موّجه ومرّكب) جاهزة لدعم أيّة قراءة في الاتجاهين ولو لبعض الوقت. ولكن تبقى مسيطرة على بعض العقول كل الوقت. فمَصنعها متجدّد لا ينضب إنتاجه. ولماذا لا يستمر ما دامت الذاكرة مثقوبة، وللمعلومات السرّية "الموثوقة مائة بالمائة" لها سحرها الخاص.

ثم لماذا تُراجَع القراءات الخاطئة وعندنا نظرية: "انقلب السحر على الساحر". والقادر على الهروب من تفسير انقلاب المواقف والتحالفات ومن ثم الإعفاء من مراجعة القراءات التي يثبت خطؤها.    

وسوم: العدد 645