ودخلت باب العزيزية، مقر القذافي

د. عبد السلام البسيوني

لي قارئي الكريم أن آخذك في رحلة قصيرة، وأتجول بحضرتك، متنقلاً بين باب العزيزية - مقر العقيد القذافي - وأنحاء طرابلس، وبني غازي، حيث وجدت نفسي هنالك دون سابق إعداد، ولا ترتيب.. أوائل سبتمبر 2011م ، لأشهد - مع وفد مميز جداً يضم نخبة من علماء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - المؤتمر الوطني للحوار والمصالحة، الذي أقامه المجلس الوطني الانتقالي، وجعل شعاره: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم).. لجمع الرؤوس الليبية المتناحرة، من المخلصين، والقذافيين، والحفاترة، وكثير من المتآمرين، الذين لا يزالون يشعلون ليبيا ناراً، وغيروا فطرة شعب نقي دافئ حسن الأخلاق والمكارم، أغلق عليه القذافي – جزاه الله ما يستحق – أربعين سنة، فلما كُشف عنه الغطاء، كان لا يزال بأخلاق الناس وقيمهم قبل أربعة عقود خلت!

ومن يومها إلى اليوم وليبيا تنهب، وتقصف، وتصطرع، وفلولها يحلفون ألا يقر لها قرار، وظهرت فيها تيارات، وشقاقات، وهزات، كشفت عن شعب جد فقير:

* فقير في المال؛ رغم أنه يملك أجود أنواع النفظ في العالم!

* فقير في البنى التحتية بشكل مروع، بسبب التصحير الذي مارسه ملك ملوك أفريقيا، فلا

شوارع، ولا مستشفيات، ولا مكتبات، ولا مدارس، بعد أن نهب قذاف الدم تريليونات البلد!

* فقير في الخبرات السياسية، بسبب التهميش والإقصاء والتجهيل الذي مارسه العقيد!

* فقير في النخب الواعية، والصفاء النفسي الذي يجمع الناس على كلمة سواء!

* لكنه فعلاً غني – والله – بقلوب أهله، وصفائهم، ودفء نفوسهم، وقد رأيت من ذلك الكثير!

المهم أن وفدنا هذا ضم عدداً من النخبة من دول كثيرة، منهم عدد من الوزراء، يرأسهم العلامة القرضاوي، ومعه الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين د. علي القره داغي الذي اصطحب معه من الاتحاد الأستاذ رشيد العلوي، ود. مختار الأحمر من المغرب، والشيخ الوزير سالم الشيخي، والشيخ ونيس المبروك من ليبيا، والشيخ راشد الغنوشي، والعلامة أ. د. عبد المجيد النجار من تونس، والشيخ محمد الحسن الددو من موريتانيا، والشيخ الوزير د. عصام

البشير من السودان، والشيخ الدكتور خالد المذكور من الكويت، والشيخ الوزير د. عبد الرحمن

المحمود من قطر، ود. علي المحمدي، ود. أحمد الحمادي، والقاضي محمد الجميلي ود.

محمد القرضاوي، من قطر، ود. عبد الغفار عزيز من باكستان، ود. أكرم كساب، ود. حسن

فوزي سكرتير الشيخ، وعدد أيضاً من المشايخ من سكرتارية الشيخ، وآخرون لا أستحضرهم،

وأرجو معذرتهم! وكانت الرحلة جديدة مميزة، تركت في القلوب حسرة وفي النفوس غصة! وأرجو أن تجد في هذه الجولة جديداً مفيداً.

 الليبيون:

فوجئت بهم: لا أنكر.. اندهشت منهم: نعم.. انفعلت بهم وتأثرت: أكيد.. أحببتهم جداً.. أشهد بالله!

لقد أسرني هؤلاء الناس بطيبتهم، وبساطتهم، ونقائهم، وسخائهم، وتماسكهم، وجمال طبيعتهم، حتى إنني تمنيت أن لو لم أغادرهم، أو على الأقل أن أبقى مدة أطول.. شهادة يحاسبني الله عليها، فأنا ممن يأسرهم النقاء، وتكبلهم الطيبة، وبساطة العيش.. وهؤلاء الليبيون نسخ مما ذكرت: لا ترى فيهم مغتراً، أو منفوشاً، أو تائه المشية.. وأكاد أزعم أن القذافي قاتله الله وضعهم في صندوق، وحبسهم أربعين سنة، لم يروا فيها الدنيا، زاعماً للعالم أنه لا يوجد في ليبيا غيره، ولا يمكن أن تقوم ليبيا بغيره! فهو – كفرعون - ليبيا، وليبيا هي معمر! فقط.

ولما خرج هؤلاء الطيبون الوادعون - بعد أربعين سنة حبساً - خرجوا بنقاء الناس القدامى، وبساطتهم، وقيمهم التي لم يلوثها إعلام عميل، ولا فضائيات تائهة، ولا أفكار مضللة، ولا وطنيون أدعياء زائفون!

كتم الرجل أنفاس الناس، وقهرهم، وقطع ألسنتهم، صدقني لو قلت إنني لم أقابل أحداً إلا ويقول:

سجنت في عهد معمر خمس سنين/ عشراً/ عشرين/ عُذبت/ فصلت من عملي/ منعوني الدراسة/ حملت السلاح/ اعتَقلت من الكتائب كذا/ أمسكت عشراً من حريم القذافي القناصات الشرسات ..

أغلق العقيد الكليات الشرعية كلها، خصوصاً الجامعة السنوسية التي جعلها كلية للزراعة/ سجن علماء الدين/ كان يؤاخذ الناس على صلاة الفجر/ وعلى البقاء في المسجد بعد الصلاة/ وعلى اللحية؛ فكل ملتح إخواني، والإخوان والمتدينون عامة عنده كفرة، لا جزاء لهم إلا الشنق في ميدان عام، وسط تهليل إعوانه، واحتفالهم، وصياحه، وجذبهم أقدام المشنوق لأسفل!

لفت نظري أن اللحى – بعد الثورة - كثيرة جداً.. وبشكل لافت.. سألت أحد الشباب: هل كانت هذه اللحى موجودة قبل الثورة؟!

فقال كلا؛ كيف توجد قبل الثورة وهي جريمة.. فسألت لمزيد من التأكد: أكل هؤلاء الناس التحوا بعد 17 فبراير؟ فقال جازماً: نعم..

طرابلس جميلة في مناطقها الغنية، فإذا انتقلت إلى الأطراف وجدتها فقيرة متواضعة!

بني غازي - منبع الثورة ومنطلقها – رغم جمال موقعها، وتميزه، مهملة كلها، تحتاج خدمات

كثيرة.. قالوا إن قرد قرود أفريقيا أهملها عن عمد، تصور أنه أنشأ فيها مستشفى ضخماً – قبل

ثلاثين سنة – ليبقى طوال هذه السنين الثلاثين مغلقاً، والمدينة تحتاج مجرد مستوصف لخدمة

الناس!

قيل لي: زعموا أنه كان يخزن في المستشفى أسلحة نووية وبيولوجية!

النساء كلهن محجبات.. حتى في الفنادق الأعلى من الخمس نجوم، ندر ما تجد موظفة استقبال متبذلة متكشفة كما نرى – للأسف الشديد - في سائر بلاد المسلمين! موظفة واحدة وجدتها مكشوفة الشعر في فندق راديسون بلو... ولم تكن ليبية!

اللغة المستعملة هي الليبية العامية، أو العربية الفصحى، لا إنجليزية تقريباً في الفنادق الكبرى!

الحياة سلسة، الناس صادقون، تستطيع أن تدخل أي مكان بسهولة، بمجرد كلمتك! قلت سبحان الله: لو تركت الشعوب لتختار لما اختارت غير الدين؛ اسألوا المغرب، واسألوا تونس، واسألوا ليبيا، واسألوا مصر، واسألوا حماس فلسطين، واسألوا بلاد العرب كلها.. فكيف يغير شخص واحد ينصب نفسه زعيماً رغماً عن شعبه، أو حفنة من العور، أو حتى عشرة آلاف غبي..

كيف يغيرون هوية بلد، ويصرون أن يفرضوا عليه توجهاً يخالف معتقده، وتاريخه، وتراثه، وتقاليده، ويجتهدون في اقتلاعه من جذوره! سبحان الله العظيم!

وجدت وعياً مدهشاً عند الشباب هناك: عرفت الشاب المثقف اليقظ (الوزير) سالم الشيخي/ الشيخ جابر سالم المفتاح، الواعي السمح البسام/ الشيخ ونيس المبروك/ الشيخ فرج كندي، وآخرين!

رئيس الوزراء الأستاذ عبد الرحيم الكيب نفسه رجل سهل مبتسم سمح.. رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الرحيم درويش أغضبني أول الثورة، حتى كتبت عنه مقالة في المصريون، وسألت عنه فقيل لي إن عيبه إنه وِدني يسمع للآخرين، وهذا من نقاط ضعفه، ثم اتضح لي – على الأقل – أنه أفضل من تولى، والأكثر صدقاً ووطنية!

حين هبطنا من الطائرة فوجئنا باستقبال هائل هائل هائل، مسؤولون كبار كبار، جمهور في المطار وخارجه! رجال في ثيابهم الليبية التقليدية، ونساء محجبات بشكل لا مبالغة فيه ولا

تساهل!

أحرجونا بحسن استقبالهم، وصدق مودتهم، وغمرونا بكلمات ودودة مرحبة دافئة حميمية! وبالغوا في إكرامنا بدرجة محيرة محيرة! يا لجناية العسكر على الشعوب، ويا لظلم الحاكمين، ويا ويلهم من ربهم الحكم العدل!

في مطار بني غازي الذي هبطنا به أولاً .. في المساء أعدوا لنا في ساحة الشهداء مسرحاً، أمام حشد كبير من أهالي المدينة، وكبار علمائها ومسؤوليها، فألقى فيهم القرضاوي كلمة صفقوا لها طويلاً، وألقى الدكتور خالد المذكور من الكويت، والدكتور عبد الغفار عزيز من باكستان، والدكتور علي القره داغي من قطر، وأمرني الشيخ القرضاوي أن ألقي كلمة، فقلت:

إنني لم أكن أعرف شيئاً عن ليبيا، التي أخفاها العقيد عن عيون الدنيا؛ لئلا يظهر أحد غيره

وغير أبنائه، ولم أكن أعرف شيئاً عن الليبيين حتى جئت، فعرفتهم بعلامات:

عرفتهم صابرين أباة، إذ حين احتقرهم القذافي وقال لهم: من أنتم؟ قطعوا عنقه ليعرِّفوه من هم، وحين استخف بهم ابنه سيف، وأشار إليهم بأصبعه مهدداً، قطعوا أصابعه، وحين لقيتُهم مع الوفد لقيت أباة، أنقياء، أطهاراً، أحراراً، ورجوتهم أن يهتموا بليبيا وأمنها، ومستقبلها، وأن يعنوا بالمصالحة، والمسامحة، والبناء والإعمار، والانطلاق نحو ما يستحقون!

وانحنيت لهم – صادقاً - اعتزازاً بكل رجل وامرأة، شاب وطفل، وأمي ومتعلم!

قنبلة ليبية اسمها شروق

 قل هي عبقرية.. هي فلتة.. هي بنت غير عادية من نواح كثيرة.. اسمها شروق بن صريتي.. وعمرها سبع سنين فقط؛ لكنها باقتدارِ وموهبةِ بنت من بنات السابعة والعشرين!

حملوها إلى خشبة المسرح العالية، وبجرأة قبلت يد الشيخ القرضاوي، وأيدي آخرين حوله، ثم أمسكت الميكروفون، وأخذت في (تسخين) الجمع الحاشد بالميدان؛ هاتفة: تكبييييير، فكبر الجمهور، وبدأ التفاعل!

ولم تمر دقيقة إلا وقد حركت هذه الطفلة الجميلة ألوف المتجمعين في ساحة الشهداء ببنغازي، فإذا بهم جميعاً يهتفون وراءها، ويصفقون على وقع كلماتها الموزونة الملحونة المرتجلة، وليدة اللحظة، ويهزجون معها بالعامية الليبية:

يا بنغازي ضيِّك ضاوي.....جاكي الشيخ القرضاوي!

وتأخذني الدهشة من هذه الصغيرة ثابتة القلب، ذات الاقتدار المعجِب، حين أعلم أنها كانت من (المطلوبات) للقذافي، ورصد لقتلها مليون دينار جائزة مالية! لذا جعل لها الثوار حرساً خاصاً، بعد أن أخذت تتحداه في كل مناسبة جماهيرية، وتسخر منه، لتُضحك الجمهور، وتصغِّر من متحديها:

الطاغي ماعَد يمسك بولَه.....تحت العباية يريدلاَ كافوله

يا قذافي صبرك صبرك....في بنغازي نحفر قبرك!

يا معمر يا بو شفشوفة الشعب الليبي توَّا اتشوفه

بو شفشوفه كفِّنه..... في الخيمة المعفنة

حيه على بيك يا عيشة.....والله ما تحلالا عيشة!

الفاتح ما نقبلوه....الفاتح يانعن بوه

بو شفشوفه بو شفشوفه.....حيه عليه قعد نتوفه!

(والشفشوفة الشعر المنكوش الذي اشتهر به ذلك الفرعون الهالك)!

وتتحدى ابنه الغبي، الذي أهان ليبيا بأصابعه البتيرة، وتقول له:

الله يعطيني عين تشوف.....سيف على باته محذوف!

وتتحدى الدجال الساحر (شاكير) الذي كان القذافي يستخدمه في الشعوذة ليستجلب له النصر، وتقول له متحدية:

يا شاكير اطلع من راسي.....الله وجنوده حراسي!

وتظل الموهوبة شروق تنتقل من مدينة لمدينة، ومن حشد لحشد، حتى صارت أيقونة الثورة الليبية.

وكانت الصغيرة بعد كل عدة أبيات تترك الميكروفون شاكرة، ثم تطن في رأسها أبيات، فتعود لتمسك بالميكروفون، لترتجز بها، والجمهور يصفق، ويردد خلفها في انبهار وفرحة!

تكرر ذلك مرات ومرات، حتى أدهشني اقتدار صغيرة في هذه السن، تملك جرأة غير عادية على مواجهة جمهور عريض، وعلى إثارته، وتحريكه، واستفزاز مشاعره المؤتمر الوطني الأول للإنصاف والمصالحة:

في التاسع من سبتمبر 2011م انطلق وفد من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، برئاسة رئيس الاتحاد العلامة الشيخ القرضاوي! وأدرك الوفدَ في طرابلس الشيخ راشد الغنوشي في وفد تونسي آخر، ليلتقي الجميع في فعاليات المؤتمر الوطني الأول الذي حضره رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل،/ للعدالة والمصالحة في 10/2  ورئيس الوزراء عبد الرحيم الكيب، والوزراء الليبيون، ورؤساء القبائل الليبية، والشخصيات الدينية والعامة، وعدد من الدبلوماسيين الأجانب.. منهم السيد خالد بن محمد العطية وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية.

وقد ركز الجميع في كلماتهم على التسامح، والتصالح، وجمع السلاح من طرابلس، وركز السيد عبد الرحيم الكيب على نقاط، منها: أن المصالحة لن تستثني أحداً من الليبيين؛ فهي عمل جريء وشجاع، وأنه لا يجب تسييس المصالحة؛ حتى لا يقع إقصاء أو نسيان لمنطقة أو قبيلة،

وأنها يجب أن تفرق بين كبار المجرمين والتابعين لهم المضطرين، وعلى لزوم الموازنة بين العدل

والإحسان، وإعداد التصورات والبرامج وآليات الاستماع والحكم والتعويض والتأهيل، وأن المصلحة الليبية تقتضي الإخبار عن الحقائق بشفافية وسماحة؛ الأمر الذي سيفيد في حصر

ثروات البلد والمال العام، وإتباب الأمن، وتطهير الصدور.

وركز العلامة القرضاوي على الصلح، وضرب أمثلة من القرآن والسنة كثيرة على التسامح والتغافر وخلق المسامحة، وتكلم عن وضع ضوابط للمسامحة، فلا نعفو عمن ارتكبوا الموبقات وانتهكوا الأعراض، وقتلوا الناس وشردوهم، وألا يمكَّن أحدٌ من النظام السابق من وظيفية مؤثرة لمدة سبع سنوات.

وتكلم عن سوريا، وما يدور بها من جرائم يرتكبها النظام المجرم، وأقسم أن الله تعالى سينصر الشعب السوري، وسيزيل منها الطاغية بشار، لأن البغي لا يدوم، ولا يرضاه رب العالمين.

كما تكلم الشيخ صادق الغرياني مفتي ليبيا الرجل الجريء الذي أفتى بالتصدي للقذافي، ومقاومته وجنوده، وبعد عشر دقائق من فتواه دهم المجرمون بيته فلم يجدوه، وظل هارباً ثلاثة أشهر، حتى أسقط الله الطاغية.

 العزيزية:

حينما كنا في طرابلس، وبعدانتهاء الفترة الصباحية من المؤتمر صممنا على زيارة معقل القذافي

وقلعته وعرشه (باب العزيزية)!

ولم يكسر الناس الكرام خاطرنا، فاصطحبونا إلى حيث رأينا ما يصدم، وما يحير، وما يغيظ! فهذه القلعة، أو القاعدة العسكرية، أو عرش فرعون ليبيا، أو مدخل جهنم الحمرا، الذي كان يخطط فيه لعملياته ووساخاته، جملة مبان وتحصينات مقامة على ستة كيلومترات مربعة، تحيط بها سلسلة من الجدران، كل جدار منها يمثل حلقة، لا يتجاوزها للداخل إلا المرخص لهم!

ويقل العدد كلما دخلت إلى حلقة أضيق، وتظل الحلقات تضيق حتى المقر الذي قيل لي إنه كان لا يدخل إلا اثنان غير القذافي، وفيه كانت تجري سهراته، وخصوصياته المطلقة!

لم نجد في باب العزيزية - الذي دمره النيتو بشراسة – شيئاً؛ إلا حطاماً من الكتل الإسمنتية الضخمة، وبعض المباني التي دمر ما بداخلها واحترق، وبقيت الجدران والأسقف، شاهدة على

شناعة القصف وشراسته.

ولفت نظري جملة أشياء محيرة:

** منها انخفاض الأسقف في كثير من المباني؛ حتى إنك لتستطيع لمس السقف إذا رفعت ذراعك لأعلى، ويحمل السقفَ أعمدةٌ ضخمة عريضة تحمل عشرة طوابق على الأقل، مع أن

طابقاً واحداً أرضياً لا يحتاج أعمدة بهذه السماكة، بل لا يحتاج أعمدة أصلاً!

ومنها أن بعض هذه الغرف يفضي بسلالم قليلة إلى حجيرة منخفضة، ينفتح منها باب على نفق، وما أدهشني هو سمك هذه الأبواب الفولاذية الضخمة، فالباب الأول أشبه ما يكون بباب غواصة سميك، يفضي بعد نحو مترين نزولاً إلى باب آخر سمه نحو 15 سنتيمتراً من الفولاذ، ليفضي بعده إلى نفق شديد العتمة!

ولقد حاولت النزول - من الساحة الخارجية – من أحد الأماكن المغطاة بغطاء أشبه بغطاء المجاري، إلى أحد الأنفاق، فلم أطق رائحة الحريق (الطازة) الذي بدا أثره أشبه بمدخنة موجودة

بالداخل، ترسل دخانها الخانق، فهربت بسرعة!

** ومنها أن كثيراً من المباني الناجية الموجودة لم يكن بهذا الترف، أو الفخامة المتوقعة في مثل هذا المكان!

استغل الناس سقوط هذه القلعة، فحولوا جدرانها إلى لافتات تسب العقيد، وتلعن أيامه، كما انتهبوا

الموجود بها، ورأيتهم يقطعون الأسلاك والحديد، والأشياء الموجودة ذات القيمة، ويحملونها بعيداً.

طفنا بالسيارة طويلاً في المكان الشاسع، فلم نجد إلا الحطام، ومعالم الأنفاق التي تمتد كيلو مترات تحت الأرض، بارتفاع قامة رجل يسير بشكل طبيعي، وكان القذافي يتحرك فيها إلى حيث يريد:

إلى ساحة التحرير (الساحة الخضراء سابقاً) حيث ظهر في القلعة الموجودة بالساحة ليطالب الليبيين أن يرقصوا ويغنوا وينبسطوا..

أو إلى فندق ركسوز الفاخر جداً، الذي نزل به وفد اتحاد علماء المسلمين، وكان القذافي يدير منه عملياته ضد الثوار، هو والمعتصم ابنه، وشاكير الدجال!

أو إلى مطار معيتيقة الذي كان قاعدة أميركية، ثم جعله القذافي مطاراً خاصاً به وبأبنائه وخاصته..

أو إلى مطار طرابلس الدولي.. أو إلى المباني المختلفة ضمن دائرة باب العزيزية!

وهذا يعني أنه كانت هنالك شبكة أنفاق طويلة ومتفرعة وحصينة، وأن انخفاض المباني بحيث لا ترتفع كثيراً عن قامة الرجل، وثقل تحصينها، وعمق الأنفاق يؤكد أن الرجل كان مرتعباً، وأنه عاش حياة تشبه حياة الجرذان تحت الأرض فعلاً، وأن هراءه وعجرفته كان تغطية على هلعه، ورعبه من كل شيء حوله؛ خصوصاً من شعبه الضحية! ألا لعنة الله على الفراعين، وملئهم، وأشياعهم!

القرضاوي

في الماضي والحاضر وجدنا علماء السلاطين الذين يسبحون بحمد الطاغية، ويعفرون له الجباه، ويقدمون له الصلاة.. وقد كان لمجرمي عسكر العالم الإسلامي نور الدين تراقي، وبابراك كارمل، وبرويز مشرف، والقذافي، وزين العابدين، وبشار، ومبارك، وعلي سالح، كان لهم وزراء

أوقاف، ومفتون، ومشايخ سلطة، ذوو ألسنة حلوة، وخداع للعامة، يدفعون عن الظالم، ويكسرون

المظلوم، ويخذِّلون العامة عن الثورة وإباء الضيم، ويصنعون الفتاوى السلطانية مدفوعة الأجر، وكم أُعطوا مقابل رجسهم هذا من القصور والأراضي، والأموال، لكنهم في الجملة لا يخفون عن

فطنة العامة، ووعيهم!

وكم رأينا في زماننا من يعتبر المظاهرات والاعتصام خروجاً عن الحاكم، ونقضاً لبيعة (أمير

المؤمنين ذي البدلة الكاكي) وزيغاً وضلالاً، وأن التسليم للباغي طاعة، وقربة لله رب العالمين!

وكأنما الدين قد جاء لذلة الناس لا لعزهم، ولخوف الناس لا لأمنهم، ولتجويع الناس لا لإشباعهم!

وهؤلاء والله بلا قبول، ولا مصداقية، ولا أثر بين العامة، بل إن الله تعالى يضع لهم البغض في

الأرض، ويعفِّي آثارهم، ويخمد ذكرهم!

وفي مقابل هذا الصنف الأثيم من البشر نجد أن للعلماء الصادقين أثراً هائلاً في نفوس العامة، حتى إن أحدهم يمكنه – على ضعف حاله – أن يغير حال أمة، وأن يحركها، وينبهها من غفلتها، وأن يقلق الظلمة من أهل السلطان، كما فعل الإمام أحمد، والإمام ابن تيمية، والإمام عز

الدين بن عبد السلام، وأمثالهم، رحمهم الله أجمعين.

ولعل من المناسب أن أقول هنا إنني – ولله الحمد والمنة – قريب من عالم من هؤلاء الصادقين، اسمه يوسف القرضاوي، وأعرف عنه الكثير، وسمعت خطبه، وبرامجه ، ومحاضراته، ودروسه، ورأيته يصدع بالحق، لا يماري، ولا يداري – أحسبه، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً - ويحرك الدنيا كلها بكلمة:

في أثناء ثورة  25 يناير المباركة في مصر، تلقيت اتصالات ممن أعرف ومن لا أعرف يستنجدون بالقرضاوي، القريب منهم، البعيد عنهم – على كبر سنه وضعف منته – ورأيت أهل

سوريا ينتظرون رأيه..

ورأيت أهل اليمن يستنجدون، وأشهد بالله أنني تلقيت اتصالاً من الدكتور علي جريشة رحمه الله وغيره يستنجدون من اليمن، طالبين مني أن أوقظه(الآن الآن) وكانت الساعة بعد الواحدة ليلاً!

ثم رأيت أنه فعلاً أشعل ثورة ليبيا حين قال: القذافي زال.. وأقسم على زواله، وحين أفتى بلزوم الخروج عليه، ووجوب قتله..

ثم رأيت كيف التف به الألوف، وأكرمه الليبيون، وأشادوا كلهم – على اختلاف مستوياتهم ومناصبهم – بدوره الرائد، واعتبروه أبا الثورة الليبية، وباعثها، ومزكي أوارها!

ورأيت كيف أن الشباب المجاهد ضد القذافي الذي جعل (الله أكبر) كلمة سره، كان ينتظر فتاوى الشيخ ويصريحاته، منطلقاً بها نحو باب العزيزية، قلعة فرعون قذاف الدم، ذي الأوتاد، الذي طغى في البلاد، فأظهر فيها الفساد!

إن القرضاوي فيما يبدو لي – والله حسيبي وحسيبه - هو ذلك الامتداد لعلماء الحق، الذين

واجهوا الظلم، مجاهرين بآرائهم، غير مبالين، ولا متهيبين، والذين كتب الله لهم في الأرض حباً ومصداقية، لم ينلها أحد من معاصريه، جعلت عامة الناس يستمعون له، ويأنسون لفتاواه، ويرحبون بآرائه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

السيد أحمد الزبير السنوسي:

عيبه أنه عربي مسلم، ولو كان غير مسلم وغير عربي لكان له شأن آخر في هذا العالم العنصري، الذي كرم نلسون مانديلا، وتجاهل من سُجنوا أكثر، وعانوا أكثر، وجاهدوا أكثر!

هذا الرجل الأسمر الذي تغمر وجهه الطيبة، وكلامه الأدب، ونظرته الحياء، الذي يخطو نحو الثمانين من عمره، هو الأستاذ أحمد الزبير السنوسي، حفيد السيد أحمد الشريف السنوسي، الذي درس العلوم العسكرية بالأكاديمية العسكرية بالعراق، وعانى بعد تخرجه من غضب الملك إدريس السنوسي عليه، ثم اتهم بمحاولة الانقلاب على القذافي، فسجنه العقير إحدى وثلاثين سنة، منها تسع سنين لم ير فيها آدمياً – حتى سجانيه – ليكون أطول السجناء الليبيين سجناً - كما قدرت (أمنستي) منظمة العفو الدولية.

وقد سجنوه في سجن صممته إيطاليا (الحرة) خصيصاً للسجناء السياسيين، المحكوم عليهم بالإعدام، من المجاهدين الليبيين!

وعندما زار العقيد القذافي سجن (الحصان الأسود) الذي كان فيه أحمد الزبير، أصدر تعليماته بإغلاق فتحات التهوية، ليبقى السنوسي في مكان لا إنساني، بلا تهوية ولا ضوء، ولا أبسط أشكال احترام الآدمية!

وناله فيه من التعذيب الشيء الكثير، وكان جلادوه يطلقون الميكروفونات ليصموا أذنيه وآذان المساجين، بجانب إرعابهم بأخبار الإعدام بين الحين والحين، وقد عاني كثير من تقشر الجلد، والنزلات المعوية الحادة، بسبب الرطوبة والعفونة الشديدة في المكان!

ولما خرج السنوسي - أو مانديلا ليبيا - من السجن في 28 أغسطس 2001م عرف أنه فقد أباه وأمه وزوجته، وأمر أن يبقى في إقامة جبرية، حتى من الله عليه بالحرية أخيراً، فصار الرجل المسؤول عن تمثيل السجناء السياسيين في المجلس الوطني الانتقالي، وقد اختاره البرلمان الأوربي في أواخر أكتوبر الماضي للفوز بجائزة زاخاروف لحرية الفكر، مع التونسي محمد البوعزيزي مفجر ثورة تونس والربيع العربي، والمصرية أسماء محفوظ، والمحامية السورية رزان

زيتونة، وفنان الكاريكاتير السوري علي فرزات، الذين كسر مجرم سوريا أصابعه، وكاد شبيحته أن يقتلوه!

النشيد الوطني الليبي:

في عام 1955 عقد الملك إدريس السنوسي مسابقة لكتابة نشيد وطني للمملكة، ففاز فيها الشاعر التونسي بشير العريبي، وأرسل اللحن للملحن المصري الكبير محمد عبد الوهاب، فأنشأ

لحن حماسياً يهز السامع فعلاً! وظل هذا اللحن سارياً حتى جاء القذافي بعد الفاشخ من سبتمبر، فغير النشيد ال وطني لبلاده، واختار النشيد المصري، الله أكبر فوق كيد المعتدي، الذي كتبه الشاعر المصري عبد الرحمن شمس الدين، ولحنه محمود الشريف، وكان نشيداً قومياً لمصر عبد الناصر آنذاك – أنشدناه في طفولتنا في المراحل التعليمية الأولى - فتبناه القذافي (الذي اعتبره ناصر خليفة له وامتداداً)! فلما هلك الجرذ قذاف الدم، أعاد الليبيون نشيدهم الوطني السابق، والعلم الوطني السابق!

ولما تغير الفاشخ من سبتمبر إلى 17 فبراير، أبقى الثوار والمجلس الانتقالي النشيد على حاله؛ إلا كلمة واحدة، تشير إلى الملك السابق (إدريس( فجعلوها )المختار، وهذا هو نص النشيد، الذي هزني حين رأيت ألوفاً كثيرة تنشده في ساحة الشهداء، بمدينة بنغازي، وهذه كلماته:

يا بلادي، بجهادي وجلادي.....ادفعي كيد الأعادي، والعوادي

واسلمي/ اسلمي طول المدى...... إننا نحن الفدا/ ليبيا ليبيا ليبيا

يا بلادي أنت ميراث الجدود.....لا رعى الله يداً تمتد لك

فاسلمي/ إنا - على الدهر- جنود....لا نبالي إن سلِمْتِ من هلك

وخذي منا وثيقاتِ العهود......إننا يا ليبيا لن نخذلَك

لن نعود/ للقيود/ قد تحررنا وحررنا الوطن/ ليبيا ليبيا ليبيا

جرَّد الأجداد عزماً مرهفاً......يوم ناداهم مناد للكفاح

ثم ساروا يحملون المصحفا.......باليد الأولى، وبالأخرى السلاح

فإذا في الكون دين وصفا......وإذا العالم خيرٌ وصلاح

فالخلود/ للجدود/ إنهم قد شرفوا هذا الوطن/ ليبيا ليبيا ليبيا

حي المختار سليل الفاتحين......إنه في ليبيا رمز الجهاد

حمل الراية فينا باليمين.......وتبعناه لتحرير البلاد

فانثنى بالملك والفتح المبين ...... وركزنا فوق هامات النجاد

راية / حرة / ظللت بالعز أرجاء الوطن/ ليبيا ليبيا ليبيا/

يا بن ليبيا، يا بن آساد الشرى.......إننا للمجد والمجدُ لنا

مذ سرينا حمد القوم السرى/ بارك الله لنا استقلالنا

فابتغوا العلياء شأواً في الورى.......واستعدوا للوغى أشبالنا

للغلاب/ يا شباب/ إنما الدنيا كفاح للوطن/ ليبيا ليبيا ليبيا!

الجرافيتي الليبي:

أستطيع أن أعرِّف فن الجرافيتي بأنه تلطيخ الجدران بفن من فنانين هواة، أصحاب قضية، يعبرون بخطوطهم الخشنة، وألوانهم الحادة، عن ميولهم السياسية، والاجتماعية، بشكل واضح، على كل السطوح التي يمكنهم الوصول إليها، برضا الناس، أو في غفلة منهم، فترى أعمالهم الفنية في أوربا على الجدران، وأبواب الدكاكين، والتريلات، وعربات القطار، وجوانب المباني!

ولم أرَ لهم مرة تصميماً خادشاً للحياء، ولا نابياً، بل إن رسومهم وخطوطهم في الجملة تلمِّح ولا تصرح، وتكنَّي ولا توضح.. وأكثر من يفعل ذلك ضعاف الموهبة، غير أن منهم مبدعين حقيقيين يحتاجون لراص د، ومحل ل، وشارح، ومنوه..

وبعد ثورة 17 فبراير في ليبيا تحول كل مسطح مصبوغ رأيته في طرابس وبنغازي – وما لم أر أكثر بالتأكيد – إلى سبورة، أو (شاسيه لوحة خام) للتعبير عن الاعتزاز بالثورة، والنقمة على

القذافي ونظامه!

فبعد أن كانت اللوحات تمجد الفاتح من سبتمبر، وملك ملوك أفريقيا، وعميد الحكام العرب، والزعيم المفكر، ومفجر الثورة الخضراء! صارت الجدران كلها، ولافتات الشوارع، وواجهات المباني، مسرحاً لهواة الجرافيتي، والشبان الصغار للتعبير عن موقفهم من الثورة، والقذافي الذي تحول من ملك ملوك أفريقيا إلى (قرد قرود أفريقيا) وأخذت أقرأ على الحوائط:

يسقط يسقط بوشفشوفة (ذو الشعر المنكوش)/ القذافي قرد قرود أفريقيا، والشعب الليبي ملك ملوك أفريقيا/ ليبيا حرة...والقذافي بره/ معاش نِبُوا (مش عايزين) خراب زيادة.... يرحل القذافي وأولاده/ الشعب الليبي لا يتوسل ولا يتسول/ القذافي لص وقاتل/ عرفناك يا معمر يا ابن اليهودية/ الله ورسوله وليبيا وبس/ سقط حسني مبارك.....توا جا دور جارك/ والله والله، واللا....عن بنغازي ما نتخلى/ يا جزيرة يا جزيرة.....قذافي نِبو تغييرا/ يا حي يا قيوم ... أبو شفشوفة يموت اليوم!

ورسم الشباب صوراً عديدة للقذافي بعضها جيد وأكثرها ضعيف، وجعلوه جرذاً، وقرداً، وحذاء، وامرأة ممكيجة، وقزماً، ومصاص دماء، وأشياء كثيرة كلها ساخر متشف.

وكم أتمنى أن توثق الحكومة الليبية هذه الأعمال كلها دون استثناء، بالفيديو، والصور الرقمية، ثم تعيد صبغ المدينة كلها، مع الإبقاء على أفضل الأعمال الفنية، التي نفذها موهوبون؛ لتبقى شاهداً على حقبة فارقة في تاريخ ليبيا، والثورات العربية.

والمجال ممتد للحديث عن ليبيا وثوراتها لكن يكفيك قارئي إزعاجاً.. وسامحني!

وسوم: العدد 651