هدير الضمير، ماذا بعد أربعين سنة من يوم الأرض؟
واستعملت كلمة (سنة) لأن السنة تطلق على الزمن الصعب والمعاناة، بينما كلمة (عام) تطلق على زمن الاستقرار والطمأنينة، كما في قوله سبحانه وتعالي: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما). سورة العنكبوت: آية 14.
مرت الذكرى الأربعون ليوم الأرض يوم الأربعاء في الثلاثين من آذار الماضي فهل نعد هذه (الأربعين) من السنين أم من الأعوام؟ وفي التفاتة سريعة لا بد من الرجوع إلى جذور هذا اليوم المميز والحدث الراسخ في ضمير الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده.
تعود أحداث يوم الأرض الفلسطيني لسنة 1976م بعد أن قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينية العربية ذات الملكية الخاصة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذات أغلبية سكانية تحت غطاء مرسوم جديد صدر رسمياً في منتصف السبعينات، أطلق عليه اسم مشروع: (تطوير الجليل)، والذي كان في جوهره الأساسي هو: (تهويد الجليل). وعليه كان السبب المباشر لأحداث يوم الأرض هو قيام السلطات الإسرائيلية بمصادرة 21 ألف دونم من أراضي عرابة البطُّوف وسخنين ودير حنا وعرب السواعد وغيرها في منطقة الجليل في فلسطين التي احتلت سنة 1948م. وهي القرى التي تدعى اليوم (مثلث الأرض)، وتخصيصها للمستوطنات الصهيونية في سياق مخطط تهويد الجليل، علماً بأن السلطات الإسرائيلية قد صادرت خلال السنوات ما بين 1948-1972م أكثر من مليون دونم من أراضي القرى العربية في الجليل والمثلث، إضافة إلى ملايين الدونمات الأخرى التي استولت عليها سنة 1948م.
وعلى أثر هذا المخطط العنصري قررت لجنة الدفاع عن الأراضي بتاريخ 1/2/1976م عقد اجتماع لها في الناصرة، بالاشتراك مع اللجنة القطرية لرؤساء المجالس العربية وتم إعلان الإضراب العام الشامل في 30 آذار (مارس) احتجاجاً على سياسة المصادرة.
وكالعادة كان الرد الإسرائيلي عسكرياً دموياً؛ إذ اجتاحت قواته مدعومة بالدبابات والمجنزرات القرى الفلسطينية والبلدات العربية وأخذت بإطلاق النار عشوائياً، فسقط الشهيد خير ياسين من قرية عرابة، وبعد انتشار الخبر صبيحة اليوم التالي 30 آذار انطلقت الجماهير في تظاهرات عارمة فسقط خمسة شهداء آخرين وعشرات الجرحى.
صادرت السلطات الإسرائيلية مساحات شاسعة من أراضي القرى العربية المذكورة لبناء المستوطنات التي أقيمت كأنها الأبراج المشرفة على تلك القرى، بحيث يكون بالإمكان التحكم بمصيرها من حيث الحركة والتمدد العمراني؛ كما نلاحظ في بناء المستوطنات عندنا في الضفة الغربية وكذلك في الجليل.
في الطريق من أقصى نقطة في الضفة الغربية في محافظة جنين شمالاً إلى أبعد نقطة في محافظة الخليل جنوباً مروراً بمنطقة القدس، تقام المستوطنات أو يتم توسيعها في الأماكن الحساسة التي تمثل كل مستوطنة منها برجا للمراقبة.
لكن المشكلة الأكبر من ذلك هي ما تقوم به إسرائيل من مصادرات متتالية بحجة (التوسع العمراني)، كما نقرأ دائما في وسائل الإعلام، بحيث يكاد لا يمر يوم إلا ويتم الإعلان أن الحكومة الإسرائيلية صادقت على بناء عدد من الوحدات السكنية في المستوطنة الفلانية أو المستوطنة الأخرى؛ بحيث يكون عددها بالمئات وأحياناً بآلاف الوحدات السكنية، ويكون التوسع بمصادرة المزيد من أراضي المواطنين الفلسطينيين طبعاً.
ورد في الأخبار مساء يوم الخميس 31\3\2016م، أي في الذكرى الأربعين ليوم الأرض، خبر يعتبر تحدياً للفلسطينيين وللعالم الذي يعلن كثير من دوله وقادته ومؤسساته المختلفة التنديد بالتوسع الاستيطاني، ويعلن عدم اعترافه بالاستيطان ويعتبره عملاً غير شرعي. وفي تصريحات مخادعة يطلق بعض الداعمين للاستيطان بأنهم لا يعترفون ب (الاستيطان غير الشرعي) كأن هناك استيطاناً شرعياً واستيطاناً غيرَ شرعي.
يتم التوسع العمراني الاستيطاني بينما يتم هدم الكثير من الأبنية الفلسطينية بحجة عدم الترخيص في الوقت الذي لا يحصل المواطن الفلسطيني على رخصة بناء لأعذار يقصد بها دائما التضييق على المواطنين وحصرهم في تجمعات ضيقة لكي يعيشوا كأنهم في الأقفاص.
لهذه الأسباب يقاوم الفلسطينيون بناء المستوطنات ويعترضون على توسيعها؛ لأنها تمثل لهم السيف المسلط على رقابهم. فالأرض بالنسبة للفلسطيني تمثل أسباب وجوده ومقومات حياته؛ ليس بما تعطيه من ثمر وغذاء فقط، بل لأنها متنفسه الذي يعيش منه وفيه كما تعيش الأسماك في المحيط.
لقد عرف الفلسطينيون قيمة (الوطن) مما عانوه وعايشوه في الشتات بعد نكبة 1948م، ومما عاشوه ويعيشونه في مخيمات اللجوء وحرموا من الوطن وأدركوا أن من لا وطن له لا كرامة له، ولذلك فإن كل فلسطيني يدرك أن الوطن يستحق التضحية بالنفس وبذل كل نفيس، وأن الأرض تستحق الأيام كلها وليس يوماً واحداً نحيي ذكراه مرة في كل سنة.
كنت قد نشرت في جريدة القدس يوم الأربعاء بتاريخ 1\4\1998م؛ صفحة 14 مقالاً بعنوان: (يوم الأرض أم أيامها؟) بمناسبة يوم الأرض ذكرت فيه: (لقد تمت مصادرات كثيرة للأرض العربية من أجل بناء المستوطنات، أو توسيعها، على حساب التوسع العمراني العربي، وبحجج أمنية وغير أمنية، تماماً كما يحدث لنا هنا في هذا الجزء من الوطن الواحد. وأوضح مثال لما هو هناك، هو ما نراه من محاصرة المستوطنات، شمال رام الله للقرى والتجمعات السكانية العربية. والأكثر وضوحاً، هو ما يشاهده المسافر، عندما يصل إلى مخيم الجلزون؛ حيث يرى المستوطنة هناك، وقد احتوت على بعض الأبنية العربية، وأحاطت بها إحاطة السوار بالمعصم، ولكنها الإحاطة المؤلمة واللئيمة).
وختمت مقالي السابق الذي نشرته قبل ثماني عشرة سنة: (ولذلك، سوف تظل كل الأيام أيام الأرض، وسوف تظل أيام الأرض متواصلة، ما دام الاحتلال قائما، يمارس سياسة النهب للأرض العربية الفلسطينية؛ سواء هنا أو هناك).
وسوم: العدد 664