التغيير وتخبّط القوّة المُسَيْطِرة
عند الدخول في معركة فاصلة للتغيير عليك أن تدقق في وضع القوّة المُسَيْطِرة التي يُرادُ الإطاحة بها أكثر من التدقيق فيما تعانيه جبهتك أو جبهة الشعب التي يُرادُ لها أن تحقق التغيير.
ما من تغيير يحدث بثورة، أو انتفاضة، أو مقاومة شعبية مسلحة، أو سلمية إلاّ ويكون الشرط الأول أن تدخل القوة المُسَيْطِرة التي يُرادُ أن يطاحَ بها في مرحلة الضعف، أو الشيخوخة، أو الفساد المستشري إلى حد إفساد القدرة على الحكم أو السيطرة. فمثلا حدوث شروخ وتناقضات داخل القوى ذات التأثير, ومن ثم ارتباكها وتآكلها وانتشار فضائحها، ومن مظاهر ذلك تخبّطها في الحكم واتخاذ القرارات.
وهنا يكون المحكومون أو الشعب قد يئسوا من أيّ إصلاح أو تغيير. وشعروا بما راح يدبَ في صفوف القوى الحاكمة والمترفين حولها من حالة ضعف وفساد وتناقضات. وذلك لترتفع الثقة بإمكان تحدّيها والانتصار عليها. فينطبق عليهم القول "ولم يعودوا قابلين أن يُحكَموا أكثر".
وهاتان الحالتان، بالنسبة إلى القوّة المُسَيْطِرة، أو بالنسبة إلى المُسَيْطَر عليهم تختلفان عن المراحل السابقة لهما. وذلك عندما كانت القوّة المُسَيْطِرة فتية وصاعدة ومتحمسّة وتتسّم بالصلابة والنشاط والعمل. وقد حملت للوضع وعودا بالإنجاز، وإصلاح الأوضاع، أو إخراج البلاد من أزمات معيّنة. وفي المقابل تكون القوّة المُسَيْطَر عليها أو للشعب، بعضا من الأمل، ولو الكاذب، بأن العهد الجديد سيحقق جزءا من وعوده. فضلا عما يكون قد كسب من هيبة، وهو يصعد نحو التمكين وفرض سلطته.
ومن هنا يكون التدقيق في حالة القوّة المُسَيْطِرة مهما جدا في مرحلتَيْ الصعود والهبوط، أو الفتوّة والشيخوخة، ففي الحالة الأولى يجب اتبّاع استراتيجية تتسّم بالصير والنفس الطويل، وفي الحالة الثانية يجب اتبّاع الإقدام والدخول في معركة الحسم عندما تحين المناسبة الجيدة أو حين تأتي لحظة دخول المعركة الفاصلة.
لقد سمّى لينين المرحلة الثانية بتشكّل "الوضع الثوري" وعرّفه بأنه الوضع الذي يكون الحاكمون فيه قد أصبحوا غير قادرين على الحكم، ويكون المحكومون قد دخلوا في وضع عدم احتمال الحكم أكثر، أو غير قابلين أن يُحْكَموا لمدّة أطول.
وهنا يمكن للمرء أن يُمعِنَ جيدا في آية (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا) الإسراء:16. أما المُترَفون فهم عادة الحكام وأصحاب السلطة والثروة. والأمر هنا بأن يفسقوا يدلّل على سنّة جارية على الدول وهي دخول حكامها وأهل السلطة والثروة فيها (مترفوها) في حالة الفساد والفسق والفجور وكلها مدعاة للضعف والتهيئة للسقوط.
ومما يدعم هذه السُنّة ما جاء في آية (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد:11. وذلك حين يُغيّرون حالتهم التي أوصلتهم إلى الحكم أو المنعة أو الثروة بحالة الترف والفساد والفسوق. فيتسبّبون بتغيير ما كانوا عليه من حال أنعم بها الله عليهم إلى حال تؤدّي بهم إلى السقوط.
وأما بالنسبة إلى نظرية التدقيق في حالة القوّة المُسَيْطِرة أكثر من التدقيق في حال القوّة المناط بها التغيير، فيمكن قراءتها في آية (كَم مِّن فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَة كَثِيرَة بِإذْنِ اللَّهِ...) البقرة:249.
لأن تغلب فئة قليلة على فئة كثيرة يكون في حالة كثرة قد وهنت وأصابها التراجع والفساد أو الغرور والإعجاب بالكثرة. فأصل السنّة بين الكثرة والقلة هي غلبة الكثرة على القلة. ولكن هذا القانون يتغيّر حين تفسد الكثرة وأسباب فساد الكثرة متعدّدة ومتنوعة. ولهذا حملت الآية التقيّد بعبارة "كم من فئة" ليخرجها من الإطلاق ولئلا تُفهَم بأن القلة يمكن أن تتغلّب دائما على الكثرة.
من هنا عندما يتم التدقيق في المرحلة الراهنة التي تمرّ بها الانتفاضة الفلسطينية في مواجهة نتنياهو وحكومته وجيشه، أو قل في مواجهة الاحتلال والاستيطان في كل من القدس والضفة الغربية، كما مواجهة مشكلَتَيْ الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة، لا بدّ من أن يدقق في وضع القوّة المُسَيْطِرة أولا ثم في وضع الشعب الفلسطيني ثانيا. كما التقدير العام للوضع العربي والإقليمي والدولي ثالثا.
هذه الخطوات الثلاث إذا جاز التعبير تحفها خلافات متعدّدة في تقدير الموقف، ولا سيما عند التدقيق في وضع الكيان الصهيوني، ولا سيما إذا ما اتجهت قراءته إلى اعتباره في حالة ضعف. وقد دخل مرحلة تدهوره، واهتزاز قدرته على الحكم والسيطرة. لأن هذه القراءة تختلف عما استقرّ في العقول عبر تجارب سابقة بأنه قوي ومتمكِّن ومدعوم دوليا. ويستطيع أن يضرب وينتصر، ولا تمكن هزيمته. ثم أضف الموضوعة الواسعة الانتشار في المرحلة الأخيرة، والتي تعتبر أن الأوضاع العربية في حالة خراب ودمار بسبب ما يعصف بها من انقسامات وحروب وفتن طائفية، وظواهر منحرفة ومتوحشة فيما "المرتاح الوحيد" أو "الكاسب الوحيد" من هذا الوضع هو الكيان الصهيوني الذي هو "في أحسن أوضاعه وحالاته".
ولكن لا ما استقرّت عليه العقول يجب أن يستمر إذا كانت الوقائع والتطورات الجديدة وموازين القوى أصبحت شيئا آخر، ولا ما يسود من موضوعة تستند إلى فرضية خاطئة تقول: ما دام الوضع العربي سيئ فوضع الكيان الصهيوني بالضرورة "جيد"، و"ممتاز". فهاتان الموضوعتان يجب أن تسقطا ولا يؤخذ بهما. أما الفرضية الثانية فليست فاسدة من أساسها فحسب، وإنما أيضا، لأن الوقائع والتطورات الجديدة وموازين القوى تذهب إلى اعتبار وضع الكيان الصهيوني أضعف وأسوأ حالا من أيّة مرحلة سابقة مرّ بها. كيف؟
أولا: أثبتت حروب أربع (2006 في لبنان و2008/2009 و2012 و2014 في قطاع غزة) أن الجيش الصهيوني هُزِم بها. ولم يعد قادرا حتى على احتلال قطاع غزة وجنوب لبنان. وهو الذي كان يكتسح المناطق الشاسعة بساعات وأيام. وكان يعتبر أن العواصم العربية في متناوله عسكريا. ويرجع هذا التطوّر في وضعه وضعفه إلى عامِليْن: الأول تحوّله إلى قوات شرطة لتثبيت الاحتلال والاستيطان ومواجهة انتفاضتين ومقاومة متنوّعة متواصلة. والعامل الثاني دخول قيادته وضباطه في عالم الرفاه والأعمال (البزنس/والفساد). وأصبحوا ينالون رتبهم في غير ميدان المناورات والتدريب العسكري والحروب، وراحوا يقودون جنودهم من وراء شاشات البلازما كما أشار أحد التقارير في تقويم حرب 2006 في لبنان.
ثانيا: لقد حدث تغيير جوهري في مستوى القيادة السياسية الحالية عند مقارنتها بالقيادات السياسية السابقة التي انحدرت من قيادات غربية تحمِل تراثا "عماليا يساريا" مندمجا بالمشروع الاستعماري العالمي وكانت تتسّم بـ"الطلائعية" و"الفتوة"، وحمْل "مشروع"، و"قضية". أما القيادة الحالية فتتسّم بالتخلف وهبوط المستوى وضيق الأفق، والضعف الثقافي والنظري وارتكاب الحماقات في إدارة الصراع، فضلا عن الفساد والانقسامات في ما بينها والعزلة وسوء العلاقات حتى مع حُماتِها الغربيين، ناهيك عن تحوّلات الرأي العام العالمي ضدّها.
فعلى سبيل المثال مع مطلع هذا الشهر وحده أعلن عن تورّط وزير الداخلية أرييه درعي في حكومة نتنياهو في قضية فساد جديدة. وذلك على رغم من صدور حكم عليه عام 1999 بالسجن ثلاث سنوات بتهمة أسمتها الحكومة بالمشينة. وها هو ذا الآن أصبح من قادة الكيان. ويتولى وزارة سيادية.
وصاحَبَ هذه الفضيحة انتشار فيديو عبر منظمة "بتسيليم" الصهيونية يوّثق لحظة بلحظة كيفية إعدام جندي إسرائيلي للشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل. الأمر الذي أربك نتنياهو ووزير دفاعه غادي إيزنكوف، ووزير الأمن موشيه يعلون فاضطروا إلى التنصل من المسؤولية وتحويل الجندي للتحقيق واعتباره خارجا عن "أخلاقية" الجيش. الأمر الذي فجّر صراعا داخليا في الوزارة وفي الشارع. مما اضطر النيابة العامة العسكرية بأن تغيّر التهمة من القتل العمد إلى غير العمد. ما يدلّل على مستوى فاضح من القيادة وفي إدارة الصراع.
هذان المثلان يعطيان صورة تدعم سمة دخول سلطة مُسَيْطِرة في مرحلة التخبّط والفساد والانحدار والسقوط.
هذا ولعل تحرّك السيناتور الأمريكي باتريك ليهي الذي بادر وبمؤازرة عشرة أعضاء في الكونغرس إلى كتابة رسالة إلى وزير الخارجية جون كيري، كما ورد في مقالة أمال شحادة (الحياة 3 نيسان/ أبريل 2016) طالب فيها بالتحقيق في الأنباء التي تتحدث عن خرق حقوق الإنسان بما فيه التعذيب والإعدامات الميدانية في الكيان الصهيوني، يدلّل من جهة على اضطراب في علاقة القيادة الصهيونية بحلفائها في أمريكا والكونغرس الأمريكي كما يدلّل على ارتباك في قدرة اللوبي الصهيوني الأمريكي على حماية نتنياهو. مما يعزّز القراءة التي ترى الكيان الصهيوني يمرّ في أضعف أو أسوأ حالاته. ومن ثم جهوزية قيادته للتراجع أمام ضربات الانتفاضة إذا ما أصبحت شعبية شاملة. فالتغيير قد تهيّأ شرطه الأول.
وسوم: العدد 664