حينما تحول التصويت إلى تفويض
بالأمس القريب فوجئ المصريون باعلان إعلام السلطة عن تدشين حملة قال إنها تسعى لجمع توقيعات لنحو40 مليون مصري من أجل مد المدة الرئاسية للسيسي لتصبح ثمانى سنوات بدلاً من أربع، ليس الغريب أن تلك الحملة تأتى في وقت تآكلت فيه شعبية الرجل إلى ما دون الـ5% ، ولكن أيضا لأنها تأتى في وقت لا يثق فيه المصريون بأنهم سينهضون صباح اليوم التالى ويجدونه لا يزال رئيسا إجباريا للجمهورية.
والحقيقة أنه منذ أن جاء نظام السيسي وهو يتبع اجراءات خارجة عن سياق الديمقراطية المعروفة خطواتها عالميا لتثبيت دعائمه ، حيث راح يبتدع ديمقراطية جديدة يفصلها على هواه لتناسب الخدعة التى يريد تسويقها، وذلك من أجل صناعة شرعيته المزعومة التى تؤهله ليحل محل شرعية رئيس مدنى انتخبه الشعب بطريقة شعبية ديمقراطية حقيقية نادرة الحدوث في بلد كمصر، التى لم تشهد طوال تاريخها الممتد والضارب في التاريخ تغليبا لرأى الجماهير مهما كبرعددها واتسعت مظالمها على رأى الفرعون العسكري.
اخترع نظام السيسي طريقة "التفويض" عبر جمع التوقيعات أوالتواجد في الميادين ليحل محل "التصويت" فيالصندوق ولجان الانتخابات.
وبالقطع الجميع يعرف أن الفارق بين الأسلوبين ، هو تماما كالفارق بين "الجهل" وظلاميته وظلمه وخداعه وتضليله وعشوائيته ، وإهداره لقيمة القانون والضوابط والروابط والإحصاء ، وبين "العلم " ورسوخه ومنهجيته الواضحة وعدله.
إرهاصات الخدعة
بدأت حاجة النظام الحاكم الملحة لإيجاد وسيلة للتغلب على إرادة الجماهيرالفاعلة مع انطلاق تظاهرات "المليونيات" في ميادين الثورة ، والتى جاءت أصلا كتعبير طبيعى عن حالة الثورة ضده ولاجباره على اتباع إجراءات ديمقراطية في"الصندوق" ، وجرب بادئ الأمر أن يحشد أمامها جماهيره في ميادين مغايره كمصطفي محمود والعباسية ، محاولا إيهام الرأى العام العالمى بأن المصريين ليسوا على قلب رجل واحد وراء تلك الثورة وأن ثمة من في الميادين أيضا من كان له رأى أخر.
ولما افتضح أمر حشوده عالميا وعرف الجميع أنها لا حشود ولا يحزنون ، بل جماعات بائسة من الناس استغل النظام فقرهم الذي كان هو سببا فيه، وتم دفعهم بأجر إلى الميادين، راح يغير تكتيكاته كليا ويتبع سياسة تفتيت الخصوم من الداخل، فضلا عن توسيع هيمنته الإعلامية واختراق الثورة بفضائيات الثورة المضادة ، وحقق نجاحا ملموسا في تخفيف حدة الحماسة للثورة عند الكثيرين عبر الزعم بأن الثورة حققت أهدافها، وأن الثوار هم من يحكمون ، وأن الاستمرار في هذا النشاط الثورى يعنى تخريبا للبلاد.
وقد نتج عن هذا الوضع أن فقدت الميادين روادها الأصليين من الثوار، فعمل النظام على شغلها بعناصره ليمارسوا ممارسات شيطنتها ، ثم تطور الهدف تدريجيا حتى انتهى بالدفاع عن الثورة المضادة تلميحا أو تصريحا.
هنا أدرك النظام أنه يملك الميادين جميعها، ويملك معها الإعلام الذى يستطيع تسخيره لتصوير الأمر بالطريقة التى تحلو له ، لكنه أيضا أدرك أنه يفقد السيطرة على الصناديق التى تعززت نزاهتها عبر الإجراءات القانونية والحقوقية التى أتخذت بقوة الثورة، وأهمها التصويت ببطاقة الرقم القومي، ومنع تعدد أماكن التصويت للناخبين ، وإعلان النتائج في اللجان، ولذلك فبدلا من أن يدافع النظام عن الصناديق ويهاجم الميادين كما كان يفعل في البداية ، راح يتهرب منها وانقلب ليدافع عن الميادين ، ولما استشعر بأن سيطرته على تلك الميادين ممكن خلخلتها راح يبتدع نظام "التفويض".
مراحل التفويض
حملة "تمرد" بمدلولاتها العسكرية كانت هى الأسلوب "الشعبي" الذى تفتق لذهن النظام العسكري من أجل تدشين سياسة "التفويض"، لإيجاد مسوغ أخلاقي للانقلاب على الرئيس الذى طرحته الثورة ، خاصة بعد انكشاف ضعف الظهيرالشعبي المساند لهذا النظام في أحداث الاتحادية أمام تيار"الاخوان المسلمين" الذىن أفشلوا خطة اقتحام قصر الرئاسة وقتل الرئيس.
وللأسف وقع "الإسلاميون" في الفخ فراحوا يردون عليها بطريقة مشابهة تعطيها صدقية ما حينما قاموا باطلاق حملة "تجرد" بدلا من إنكار هذا الأسلوب جملة وتفصيلا.
وكانت 30 يونيو/حزيران 2013 هى أكبر اختبار لتوضيح مدى سيطرة النظام على "الميدان"حيث نجح الإعداد الجيد لها واستنفار الكنيسة لشعبها وحشد جماهير الحزب الوطنى والجنود الذين يرتدون ملابس مدنية مع تأميم الإعلام وتسخيره بشكل كبير في الحشد والدعاية ، في حشد ناجح لبضعة ملايين في كل الميادين المصرية.
ثم جاء طلب التفويض الذى أطلقه عبد الفتاح السيسي في 27 يوليو/تموز 2013 كأول اعتراف رسمى من قبل السلطة بهذا النوع من الشرعية ، ثم راح عبر إعلاميه يطلب التفويض مجددا في 6 فبراير/شباط 2015 إلا أن الشعب قال كلمته ورفض هذا الاحتيال على الديمقراطية ورفض النزول.
المدهش أن تلك التفويضات كان يقابلها فشل ذريع في كل انتخابات الصناديق كاستفتاء الدستور وانتخابات الرئاسة والبرلمان –وهى الطريق الوحيد للديمقراطية - والتى قاطعها الشعب بشكل واضح وباعتراف وسائل إعلام محسوبة على النظام وكانت جميعها مثارا للتندر والسخرية حتى لدى رجل الشارع البسيط ، وقد أوضح تلك المقاطعة هو مقارنتها بالطوابير العريضة غير المسبوقة في انتخابات رئاسة ودستور 2012.
تواطؤ غربي
ولأن ما حدث يأتى على هواها وبتدبيرها في الغالب ، تواطأت الدول ذات الديمقراطية الراسخة كبريطانيا وأمريكا ودول الاتحاد الأوربي مع هذا الخداع ، وبدلا من أن تجهر بأن هذا النوع من السلوكيات لا يعد سلوكا ديمقراطيا ولا يمكن اعتباره أنه يعبر تعبيرا حقيقيا على إرادة الجماهير ، راحت تسايره وتغض الطرف عنه وتتفاعل معه بوصفه عملا ديمقراطيا!!
مع أننا لم نسمع طوال التاريخ قط أن رئيس وزراء بريطانيا أو رئيس أمريكا أو حتى رئيس زيمبابوى أو الصومال طالب شعبه بالنزول لتفويضه لذبح معارضيه ، أو لمد فترته الرئاسية بينما الشعب لا يزال يكتوى بنار العام الثاني من حكمه.
صحيح أن هناك عيوبا في الديمقراطية ، منها مثلا أن وعى الجماهير يمكن تزييفه – وفي اعتقادى أن ذلك ما حدث لتبرير الانقلاب- وأنها قد تنتج ثمارا ليست على الهوى العام ، ولكن ليس الحل أن ننسب إلى الديمقراطية ما ليس نبتا لها ، أونكفر بها ونؤمن بالاستبداد؟ وذلك لأن الديمقراطية كيانا متكاملا نطبقه كله ونصبح ديمقراطيين، أو نهدره كله ونصبح طغاة ، لا مكان هنا للون رمادي!!
وسوم: العدد 682