أما آن لنهر الدم أن يتوقف!
في بدايات الانقلاب العسكري الدموي الفاشي، طالبت بحفظ دماء المصريين، وقلت : إن الدم لا ينتج إلا دما، وإن الكارثة يدفع ثمنها الوطن كله! كلامي وكلام غيري في هذا الاتجاه ذهب أدراج الرياح، فالقوم الذين يملكون الدبابة والرصاصة والعصا الغليظة كانوا يفكرون بأيديهم وأقدامهم ولا يصغون إلى أي صوت ينادي باستخدام العقل وتقديم عنصر الحوار على اللكمات والركلات، فكان إهراق الدماء في الحرس وقتل الركع السجود، والمنصة ورابعة والنهضة وكرداسة وناهيا ودلجا والميمون والفتح ورمسيس وأكتوبر والقائد إبراهيم وسيدي جابر والبصارطة والبيوت والشوارع والميادين المختلفة؛ طريقا للندامة وليس السلامة، وأصبحنا نسمع عن جماعات وتنظيمات تتبني عمليات عنف وتفجيرات، في سيناء والوادي، وأضحت مصر ملعبا لمباريات كريهة بلون الدم الذي كله حرام " من قتل نفسا بغير نقس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا"؛ ولكننا سمعنا مبكرا أصواتا منكرة تجأر بالفتوى الحرام: "طوبى لمن قتلهم وقتلوه"، ودعوات منحطة وخسيسة تقول : افرم افرم يا.. مع التحريض على الحرب الأهلية!
امتدت لغة الدم إلى الكنائس، وفي يوم واحد 9/4/2017 تم تفجير كنيستين في طنطا والإسكندرية راح ضحيتهما العشرات من المسلمين والنصارى، ولم تستطع الجيوش الجرارة من فرق الأمن وغيرها أن تمنع التفجيرات أو توقف الانتحاريين، وانطلقت حناجر الخدم والأفاقين بدعوات الإبادة والسحق والمحاكمات العسكرية العاجلة ومصادرة المنبر والمساجد واتهام الأزهر وإدانة الإسلام والمسلمين!
ترتب على ذلك طوال ما يقرب من أربع سنوات خسارة كبيرة للوطن على المستويين المادي والمعنوي. انهارت السياحة وهرب الاستثمار الأجنبي، وتضاءل الاستثمار المحلي، ورافق ذلك خطوات اقتصادية متخبطة وأزمات متعددة وصلت إلى الاقتراض في ظل شروط مجحفة انتهت بالطامة الكبرى وهي التعويم الذي ألهب ظهور الكثرة الساحقة من المصريين، وارتفعت الديون الخارجية إلى رقم غير مسبوق.
وكان من معالم الخسارة المعنوية الرضوخ للإرادة الأجنبية، والقبول بأمور لا تتفق مع السيادة الوطنية والاستقلال القومي، مثل التفتيش على المطارات والتدخل في التحقيقات من قبل الروس والانجليز والطليان، ورفض السلع المصرية، والتشهير بها، وسوء العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، حتى الأشقاء السودانيين قلبوا لنا ظهر المجن، وفرضوا علينا تأشيرات دخول وخروج، واستهان بنا الأعراب واستغلنا اليهود والأميركان، وسخر منا الأفارقة الذين كانوا يتمنون ذات يوم الانضمام إلى دولة وادي النيل التي كان يحكمها قبل حكم العسكر ملك مصر والسودان!
تنبع قوة الدولة من داخلها حين يكون الحكم فيها للشعب، والحاكم يحظى بتأييد شعبه، وينعم المواطنون بالتوافق والتفاهم، وتكون أجهزة الأمن لحماية الناس وليس حماية الحاكم، ولكن المحروسة مذ أسس البكباشي عام 1952 للحكم العسكري الفاشي وهي تتخبط في الهزائم والفشل والقهر والطوارئ والتخلف ومدّ اليد إلى الآخرين والتسول ممن كانوا يأخذون عطايانا وينتظرون هدايانا، وأضحت القاهرة قلب العروبة النابض ملطشة لمحدثي النعمة وحثالة الأرض وشياطين الإنس. لقد جعلها الحكم العسكري الذي بدأ قبل خمس وستين سنة معرّة العالم وخيبة الدنيا، وبؤس العالم، فقد أعْلتْ من شأن الجهل( ماذا يصنع التعليم في بلد ضائع على حد قول الجنرال!)، وقننت المحسوبية(الزحف المقدس!) وجعلت قوة الذراع أهم من عظمة العقل( أمين الشرطة أقوى وأفضل ماديا من أستاذ الجامعة!)، بينما الكيان النازي اليهودي يحقق إنجازات حقيقية - وليس إنشائية - دون إعلان الطوارئ في ميادين العلم والبحث والعسكرية والطب والزراعة والصناعة والتجارة والتقنية والتخطيط والعمران وغيرها.
نعزو فشلنا إلى التآمر الخارجي والداخلي، ويكتشف الناس أن هذا التآمر لا وجود له إلا في مخيلة صناع الفشل العظيم والخيبة الكبرى، فالدول المعنية بالتآمر صديقة للغاية، وتتم معها شراكة استراتيجية وبين حكامها وحكامنا ( كيمياء) الصداقة والمودة، ونسي القوم أن أكبر مؤامرة على مصر المحروسة هي تغييب الشعب، وحكمه بالحديد والنار والأبواق الكاذبة المأجورة التي لا تدين بالولاء إلا إلى مصالحها وجيوبها. الفشل العظيم سببه تغييب الشعب المصري بالقمع والطوارئ والديكور الديمقراطي، والإنشائيات الفارغة، واستئصال الإسلام، وإلغاء الأزهر ودار العلوم، وتصفية المعارضين بعيدا عن القانون، واستباحة دماء الأحرار، ونظرية (مش حنسيب عرقنا) أو (مش حنسيبها لحد!)، واعتصار المواطن الغلبان بالغلاء الفاجر والضرائب المميتة والتضييق الذي لا يعرف الرحمة وتعظيم قيمة الجهل والفهلوة والنفاق، وتمزيق المجتمع إلى شعبين (احنا شعب وانتو شعب، لينا رب وليكم رب!).
زعم الانقلاب العسكري أنه جاء ليحمي وحدة الشعب ويمنع الحرب الأهلية ويحارب الإرهاب المحتمل. ولكنه للأسف أسّس للفُرْقة واستباحة الدماء الحرام وإطلاق شرارة إرهاب لم تعرفه مصر من قبل، حتى باتت جنازات الضحايا أمرا يوميا مألوفا! هناك اعتقاد أن الأذرع الإعلامية ستجعل الانقلاب بريئا نقيا. وهو اعتقاد خاطئ فإحساس الناس بالرعب والخوف ليس دليلا على الأمان والرضا، وشعورهم المكتوم بالتمييز وفقدان العدالة ليس علامة على صواب الحكم، ووجود الدبابات في الشوارع والميادين ليس حالة طبيعية، ولكنه إشارة إلى أن الانقلاب فشل في حماية الوحدة الوطنية ومنع الحرب الأهلية والقضاء على الإرهاب!
لقد طالب الجنرال في كلمته عقب اجتماع مجلس الدفاع الوطني بعيد التفجيرات الكنسية؛ المصريين أن يتحملوا الألم، مؤكدًا أن المصريين أثبتوا صلابة أبهرت العالم علي مر الشهور الماضية. ويبدو أن أحدا من مساعديه لم يذكّره أن المصريين تحملوا فوق طاقتهم، وأن ذلك ينذر بالانفجار الذي لا يعلم مداه إلا الله. لقد أشار الجنرال إلى أن ما تتعرض له مصر هو محاولة لتمزيق المصريين وتفكيكهم، وهل كان للانقلاب مهمة غير تمزيق المصريين وتفكيكهم بممارساته العنصرية واستباحته لدماء المصريين؟ لقد قارن بين ما تنزفه مصر وما تنزفه الدول الأخرى، إنه يتجاهل الأسباب التي تصنع النزيف، وتجعل الشعوب اليائسة من العدل والحرية والإحساس بالكرامة تنفجر وتضحي بكل شيء في مواجهة سلطة لا تؤمن إلا بالرصاصة واللكمة والركلة وسجون (المستقبل!). إن الاستبداد أخطر من الإرهاب، وقارنوا بين البلاد العربية والدول الأوربية، وكيف تعالج الأخيرة الإرهاب، بل قضاياها المختلفة.
لقد آن للدبابات أن تعود إلى ثكناتها، لتجف الدماء، ويقوم الشعب بدوره، ومهما تعثرت القيادة المدنية فهي تصحح نفسها أولا بأول من خلال المعارضة الشريفة والإعلام الحر والفكر الناضج والرأي السديد.
الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!
وسوم: العدد 716