تساؤلات حول الرابط بين "درنة" والمنيا
تخلقت صورة ذهنية عالمية موحدة بأن الكائن الإرهابي هو ذاته الكائن المسلم المتدين لدرجة يصعب معها إطلاق ذات اللفظ على سواه
تساؤلات كثيرة تحتاج لإجابات عاجلة حول الضربات الجوية التي وجهها نظام السيسي لمدينة درنة، وبعض المدن الليبية وعلاقتها بمذبحة المنيا التي وقعت مؤخرا وراح ضحيتها عشرات الضحايا والمصابين من المسيحيين المصريين.
أول تلك التساؤلات يأتي حول منطقية هذا الربط الغريب الذي ربطت به السلطات المصرية بين تلك المدينة التي تستعصي علي الجنرال المتقاعد المدعوم غربيا خليفة حفتر، وبين مرتكبي المذبحة المروعة المدانة، خاصة أن المسافة بين المدينتين تزيد عن الألفي كيلو متر.
وعلي افتراض أن الطريق مرصوف وآمن، ومع التغاضي عن حالة التخفي الواجبة للخارجين عن القانون، والطرق الرملية الوعرة والمرتفعات والمنخفضات وبحر الرمال الناعمة، وهي كلها ملاحظات جد خطيرة، فان السفر بين المدينتين قد يستغرق20 ساعة متواصلة بسرعة 100 كيلو متر في الساعة، ما يعني أن الإرهابيين منفذي المذبحة لم يتمكنوا من العودة بعد تنفيذ جريمتهم، وبالتالي فلماذا تم قصف درنة بعد ساعات من المذبحة؟
وإذا كنت قد عرفت بعد ساعة فقط من وقوع المذبحة بمسئولية مجاهدي درنة عنها، فكيف لم تعلم باختراق مهاجميهم الجبال والقفار بصحبة أربعة سيارات رباعية الدفع- كما قال شهود العيان من الناجين- للأراضي المصرية التي تسيطر عليها القوات المسلحة، فتمنع المجزرة من الوقوع؟
كما أن السرعة في قصف درنة تعني أن الطائرات كانت علي أهبة الإقلاع حين وقوع المجزرة، ما يكشف عن النوايا المبيتة للضربة الجوية ، فهل كانت النوايا مبيتة للضربة أم للمجزرة أيضا؟
وإذا كانت تحريات رجال الأمن شديدة الألمعية والجاهزية لتحدد مرتكب المذبحة بعد ساعة واحدة من وقوعها، فإنه سيكون من المستغرب عليهم حينئذ عدم تقديم قتلة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني رغم مرور عامين علي الواقعة، وتوفير الاتهامات الغربية التي تشير إلي ضلوع قيادات كبري بالجهاز الأمني في الجريمة؟
وهل هناك علاقة بين صفقة القرن وبين استنجاد السيسي بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب لدعمه في مكافحة الإرهاب، وبين محاولات إنهاء الصراع في ليبيا لصالح التيار الموالي لأمريكا؟
كما أن هناك تساؤلات عدة حول مجزرة المنيا أهمها كيفية رصد الجناة للضحايا وعلمهم بوجود هذه الحافلات في هذا التوقيت؟
وما الذي أضافه قانون الطوارئ الذي تم فرضه مؤخرا في طريق الحد من العمليات الإرهابية؟ وكيف تحول الإرهاب المحتمل إلي إرهاب حقيقي، تشهد مصر بسببه في ستة أشهر فقط خمسة عمليات إرهابية كبري تمس الأقباط ، فضلا عن تفشي الخطف والقتل وكافة ظواهر البلطجة والانفلات في الشوارع؟.
ومن نافلة القول التساؤل حول سر الصمت المزري علي العصف المستمر بالدستور الذي كتبه السيسي علي عينه، فالمادة152 منه تمنعه من إرسال القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة، إلا بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية ثلثي الأعضاء، وهو ما لم يحدث بالقطع .
ظلال من الشك
تلك التساؤلات تضيف ظلالا من الشكوك حول صحة كل ما يجري في حرب السيسي علي الإرهاب ، الذي كان الفيديو المصور الذي بثته قناة "مكملين" مؤخرا حول قيام أشخاص يرتدون زيا عسكريا بتنفيذ إعدامات ميدانية بحق مدنيين، كاشفا وصادما.
وسواء أكان الفيديو كاذبا أم صادقا، إلا أن الكثيرين يؤكدون أنه لم يأت بجديد واعتبروه تحصيل حاصل وتأكيدا للمؤكد، فيما اعتبره آخرون عملا زائفا ومبالغة يستهدف منها الإساءة إلي الجيش المصري الذي يعتز به كل مصري.
ولأنه في الفم ماء، يمكننا القول بأنه إذا قام عاقل بتطبيق القاعدة البديهية التي يستخدمها رجال البحث الجنائي في الدول المتقدمة "ابحث عن المستفيد"، فإننا قطعا سنجد أن "الوجهاء الأشرار" الذين طالما رأيناهم يتباكون على الإنسانية المهدرة وينددون بملء فيهم بالإرهاب الغادر هم من أكبر صناعه، بل أنه هو بضاعتهم الوحيدة التي يسوقونها للنيل من كل من يعاديهم بعدما يغلفون نواياهم السياسية غير الأخلاقية بأقنعة تبدو نبيلة ومشروعة.
وسيكتشف أيضا وبكل جلاء أنه بضاعة لا يستفيد منها إلا من جري تسويقهم بوصفهم ضحاياها ،ولا يتاجر بها إلا من يقولون إنهم يحاربونها.
الإعلام والإرهاب
كل المذابح التي تمس المدنيين والأقباط مدانة ولا يمكن بأية حال تبريرها، ولكن أيضا صار الإرهاب الإسلامي من أكبر المزاعم التي يجري ضخ الأموال لترسيخها في العقول، لتنفيذ الحرب الإمبريالية الجديدة الأكثر نجاعة ضد الإسلام، وهي الحرب التي صرح بها علانية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب ذاته في لحظة مصارحة عقب سقوط الاتحاد السوفيتي.
وعادة ما تستهدف التهمة المقاومة العربية والإسلامية أو من يدافع عن عرضه وأرضه ودينه وهم من يجب تكريمهم بـاعتبارهم"فدائيين" يحمون أوطانهم، خاصة أن المعتدي هو من عبر المحيطات إلي بلادنا ولم نذهب نحن إليه.
ونستطيع الجزم بأنه جراء الدعاية الإعلامية والسياسية المتواصلة والضخمة ، تخلقت صورة ذهنية عالمية موحدة بأن الكائن الإرهابي هو ذاته الكائن المسلم المتدين لدرجة يصعب معها إطلاق ذات اللفظ على سواه حتى لو كان من أولئك الذين يحملون الإسلام وراثة ولم يمارسوا شعائره قط.
وإذا كان هناك اعتقاد حاسم عند الكثيرين بأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فالإرهابي أيضا يصفه بتلك الصفة الأقوياء الذين يملكون ثالوث القوي، قوة الردع وفرض الرأي إجبارا، وقوة المال وفرض الرأي رشي وهبة ، وقوة الإعلام وفرض الرأي استغلالا لمواطن الجهل في الأذهان.
ولأن النوع الثالث من نظم فرض الرأي هو الأكثر فعالية والأنجع علاجا والأرخص تكلفة ويغطى الفئة الأوسع انتشارا على الأرض، فإنه يجري استعماله على نطاق واسع فيغسل أدمغة الناس أو يخطف أذهانهم بما يشكل سلاحا فتاكا يفوق في حسمه القنبلة النووية ذاتها.
ومن مخاطر الصورة النمطية الشائعة عن الإرهابي والتي تخلقت غالبا في دهاليز أروقة المخابرات أنه شخص منغلق على أفكار رجعية جامدة ،وكأنه خلق نشازا في منظومة هذا الكون ، يحب الخراب والتدمير في الأرض لجينات ورثها من أبائه وأجداده المسلمين أو "الإرهابيين" الأوائل, وأنه يمارس الإرهاب من أجل الإرهاب وكرها في الأخر.
وهو بالطبع تصور قاصر ينفيه المنطق قبل التجربة، لأن الإنسان مجبول على حب الأمن والاستقرار، كما أن أغلب معاركه هي في الغالب للدفاع عن تلك الحاجات الملحة المسلوبة، ولذلك فمتى توقف عدوان الأقوياء – وهم عادة من يعتدون ويغتصبون أمنهم المفرط على حساب الخوف الشديد لدى الآخرين - توفر الأمن والاستقرار فتوقفت مظاهر "الإرهاب" التي يمارسها الضعفاء.
ومفاد ذلك أن الجميع فئ الواقع يكافح من أجل الأمن والاستقرار بما فيهم "الإرهابي" الذي يكافح جلاديه.
وسوم: العدد 724