الطهطاوي والدين والمرأة
بينما نحن نطيل الحديث عن تجديد الخطاب الديني إذا بتونس توجز وتقدم قانونا للمساواة بين الرجل والمرأة فى الميراث رفضه الأزهر اعتمادا على سورة النساء التي قسمت فيها المواريث بآيات قطعية الدلالة، أما دار الافتاء التونسية فاعتمدت لتأييد القانون على قوله تعالى في سورة البقرة:"ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف". وذلك يثبت مجددا أن كل فتوى هي نتاج عقل بشري محدد وتجسد تصورات بشرية فحسب عن الدين وتفسيره، ومن ثم فإن كل ما يصدر عن مختلف دور الافتاء غير ملزم لأنه اجتهاد عقول بشرية ليس لها صفة مقدسة. يبقى أن يحكم الناس عقولهم في القضية وفي كل قضية. وعام 1840 تزوج رفاعة رافع الطهطاوي من إبنة خاله، وتنازل لها بمحض إرادته في عقد قران خطه بيده عن حقوق أباحها له الشرع، وهو أصلا فلاح صعيدي سافر مع بعثة علمية إلي فرنسا عام 1826ليكون واعظا وإماما لطلاب البعثة، فدرس هناك بمجهوده خمسة أعوام، وعاد لينشر أنوار علمه وفضله. يتزوج الطهطاوي عام 1840 ويسجل بخط يده عقد قرآن خاصا به، يكتب فيه ما نصه: " التزم كاتب الأحرف رفاعة بدوى رافع لابنة خاله المصونة الحاجة كريمة بنت العلاَّمة الشيخ محمد الفرغلى الأنصاري أن يبقى معها وحدها على الزوجيَّة دون غيرها من زوجة أخرى أو جارية أياَّما كانت وعلَّق عصمتَها على أخذ غيرها من نساء أو تمتع بجارية أخرى .. فاذا تزوَّج بزوجة أياَّ ماكانت بنت خاله بمجرد العقد خالصة بالثلاثة وكذلك إذا تمتع بجارية ملك يمين ولكن وعدها وعدا صحيحاً لا يُنقض ولايخل أنها ما دامت معه على المحبَّة المعهودة مقيمةً على الأمانة والحفظ لبيتها ولأولادها ولخدمها ولجواريها ساكنةً معه في محل سكناه لن يتزوج بغيرها أصلاً ولا يتمتَّعَ بجوارٍ أصلاً ولا يُخرجها من عصمته حتى يقضى الله لأحدهما بقضاء". (رفاعة بدوى رافع، 14 شوال 1255هـ)''. أي أنه يترك لزوجته حرية الطلاق، ويحرم نفسه من التمتع بما سمح به الشرع له من زوجات أخريات، وغير ذلك. ولم تكن المسألة عند الطهطاوي هي ما تردده الفتاوي حينذاك، بل نظرته إلي المرأة القائمة على تفسيره العقلاني للنصوص المقدسة. وقد انقضى على عقد الزواج المذهل هذا نحو مئتي عام تقريبا، ومازلنا نتخبط في إنصاف المرأة من عدمه. كان الطهطاوي مفكرا رائدا لا يتكرر، ويتضح ذلك حتى في نظرته للحجاب حين كتب عن ذلك يقول في " تخليص الإبريز":" كثيراً ما يقع السؤال من جميع الناس عن حالة النساء عند الإفرنج وكشفهن عن حالهن الغطاء وملخص ذلك أن عفة النساء لا تأتي من كشفهن أو سترهن بل منشأ ذلك التربية الجيدة أوالخسيسة"! أي أن أن عفة المرأة لا تأتي من ملابس أو حجاب بل من التربية! عاد الطهطاوي إلي مصر من البعثة عام 1931، وغرس في المجتمع المصري مباديء وأفكارالتطور والحرية ومساواة المرأة بالرجل، تحت شعاره الجميل:" فليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع"! وأنشأ الطهطاوي الكتاتيب لتعليم الأولاد، ووضع مبدأ وبذرة المواطنة فيما أسماه " المنافع العمومية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد". وفي عام 1872 أصدر كتابه " المرشد الأمين في تربية البنات والبنين" داعيا إلي تعليم المرأة واتخاذها صديقا وأختا ورفيقة درب، لكننا مازلنا – بغض النظر عن الجانب الفقهي الديني- نتجاهل الواقع ونأبي أن تكون المرأة أختا وزميلة كتفا بكتف. والواقع أن النساء في مصر يمثلن نصف تعداد السكان 44 مليون امرأة حسب الجهاز المركزي للاحصاء مارس العام الماضي، وتبلغ نسبة مساهمة المرأة في قوة العمل نحو خمسة وعشرين بالمئة وتمثل تلك النسبة ثلث مساهمة الرجال في العمل، وحسبما نشرت الأهرام فإن كل ثلاث أسر من بين كل عشر تعولها امرأة! والمجتمع الذي يعتبر أن القانون الذي يساوى المرأة بالرجل في الميراث عدوان على الشرع، لا يأبه كثيرا بالاعتداء على الشرع إذا تم لصالح الرجال! وحينما تعمل المرأة وتكدح وترعى الأسرة وتقوم بكل الوظائف وتعول الرجل يغض المجتمع نظره عن أن ذلك لم يرد في أي شرع! ولا يستوقف أحدا أن المرأة تتلقى أجرا أقل من الرجل عن العمل ذاته في مجالات كثيرة، ويتعطل تعليمها، وعقلها لصالح الرجل. ومع ذلك فإن ثمة عظماء في تاريخ مصر في مقدمتهم الطهطاوي تنازلوا عن حقوقهم الشرعية بمحض ارادتهم لصالح المرأة حين أدركوا أن جزءا كبيرا من مساواة المرأة بالرجل يقع خارج نطاق الفتاوي وخارج نطاق ما هو شرعي أو غير شرعي وخارج نطاق ما هو قانوني أو غير قانوني، جزء ضخم يقع تحديدا داخل عقول وضمائر النساء والرجال والشباب أبناء وأحفاد رفاعة الطهطاوي، جزء بحاجة إلي الشمس والهواء.
وسوم: العدد 736