طاعة ولي الأمر في تطبيقاتها الراهنة: هل تتوافق مع الشريعة؟

يلحّ خطاب إسلامي معاصر له حضوره في أوساط إسلامية عريضة، على وجوب طاعة أولياء الأمر والصبر على جورهم، باعتباره أصلا من أصول أهل السنة والجماعة المقررة، التي فارقوا بها اتجاهات وفرق إسلامية أخرى يصفونها بالمبتدعة بحسب باحثين شرعيين.

ووفقا لأستاذ الشريعة في جامعة حران التركية، علي مصطفى فإن "طاعة ولي أمر المسلمين والصبر على جوره من أصول منهج أهل السنة والجماعة كما قرره الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة، بحسب ما دلت عليه النصوص الشرعية، لكن هذه الطاعة مقيدة في غير معصية الله طبقا للحديث المشهور "إنما الطاعة في المعروف"".

وتابع حديثه لـ"عربي21": "أما إذا أمر الحاكم بما يخالف الشرع فلا تحل طاعته، والواجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فلا طاعة له في المنكر، ولا يحل للمسلمين إعانته عليه، وهذه المعاني مشهورة في المأثور عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما".

وتوضيحا لمعنى قولهم: "الصبر على جوره"، قال مصطفى: "أما الصبر على جور ولي الأمر فالمقصود به عدم نكث البيعة، أو الخروج المسلح على الحاكم بسبب ظلم أو معصية ارتكبها في خاصة نفسه، أو في تدبير أمر الرعية، وليس المقصود به السكوت عن الظلم فضلا عن تحسينه والإعانة عليه وإقراره".

وأضاف: "وهذا هو الفرق بين بطانة السوء التي تزين للحاكم ظلمه، وتنهى المظلوم عن المطالبة بحقه، وبين بطانة الخير التي تعينه على المعروف وتأخذ بيده عن المنكر، وقد نص أهل السنة على هذا الأصل في عقائدهم في مقابلة الخوارج الذين يرون الخروج على الحاكم بمجرد الظلم".

ووصف مصطفى منهج أهل السنة في هذه المسألة بـ"المنهج الوسطي الذي يراعي الشرع والفطرة معا؛ فالحاكم إنسان في النهاية ليس معصوما، والسلطة تغري فيتعرض للسقوط في الهوى وحظ النفس، فتسويغ خلعه يؤدي إلى القضاء على استقرار الدولة، وإقراره على ظلمه وانحرافه يؤدي إلى شيوع الظلم وهضم الحقوق وضياع الشرع".

وتابع حديثه: "فالمنهج الأول مفرط، والآخر مفرّط، والحق ما دلت عليه النصوص وتبناه أهل السنة وهو المحافظة على البيعة والطاعة مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجرأة في قول كلمة الحق، وقد جعل الشرع من قتل بسبب كلمة حق عند سلطان جائر سيدا للشهداء كما في الحديث المشهور".

وأشار أستاذ الشريعة إلى وجود "نماذج كثيرة للصدع بالحق من قبل علماء الأمة"، لافتا إلى أن قول كلمة الحق عند السلطان الجائر لا تقتضي بالضرورة خلع البيعة والخروج عليه، وممن جمع هذه المواقف الشيخ عبد العزيز البدري في كتابه "الإسلام بين العلماء والحكام".

وانتقد مصطفى من أسماهم بـ"غلاة الطاعة" بشتى مسمياتهم (الجامية أو المداخلة..)، "لأنهم يوظفون النصوص الشرعية الداعية إلى طاعة حكام المسلمين توظيفا براغماتيا لا يتفق مع أحكام الشريعة ومقاصدها، وبناء عليه ففعلهم مخالف لأصول أهل السنة عبر التاريخ، ويظهر عوار مذهبهم في عدة أمور، من أهمها:

اهتمامهم بإشاعة نصوص الطاعة وإهمال نصوص الجهر بالحق والنهي عن الظلم أو تأويلها بتعسف، تعطيلهم لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتناقضهم في المواقف بسبب القراءة المغرضة للنصوص والتفسير النفعي لها، فلازم مذهبهم أن يؤيدوا الحاكم بعد تسلمه زمام السلطة".

وضرب مصطفى أمثلة تبين فساد مذهبهم، منها: موقفهم من تولى مرسي الحكم في مصر مثلا فقد رفضوا تأييده، ووقفوا إلى جانب الانقلابيين، فصاروا خوارج حسب توصيفهم، ودعوا إلى إراقة دماء مخالفيهم من المسلمين في ليبيا، بل وحملوا السلاح من أجل ذلك دعما لحفتر مع أنه انقلابي مفتئت على السلطة في البلاد، فانطبق عليهم ما وصفهم به بعض منتقديهم بأنهم "مرجئة مع الحكام خوارج مع الدعاة".

وحذر مصطفى من ممارسة "غلاة طاعة ولي الأمر" والمتمثلة في "سوء إسقاط الأحكام الشرعية على الواقع المعاصر، مثل مسألة طاعة المتغلب، ففسروا هذه المسألة تفسيرا مخالفا لما قصده الفقهاء، ولا يلائم الواقع المعاصر".

من جهته أوضح الباحث المغربي في العلوم الشرعية، عبد الله الجباري أن "الطاعة المطلقة لولي الأمر من الناحية التاريخية لم تكن موجودة مطلقا في العهد الراشدي، بل كان الصحابة يمارسون دورهم الرقابي على السلطة الحاكمة، وهو ما كان يتلقاه الخلفاء بالقبول". 

وأورد الجباري مقولة الخلفاء الراشدين المعروفة: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها"، مضيفا: "أما من الناحية الشرعية، فلا نجد للطاعة المطلقة تأصيلا شرعيا مستساغا، بدليل شرعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما مبدآن مندرجان ضمن شعب الإيمان، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". 

ووفقا للجباري فإن "صيغة (أفضل) تدل على المدح والثناء، إضافة إلى قوله عليه الصلاة والسلام "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، هذه المبادئ والنصوص الشرعية كلها تقيد مطلق الطاعة، ولا تتركها بدون قيود، نعم قد يتجاوز الحاكم في استبداده كل الحدود، فظهر مفهوم الصبر على جوره، وهنا لا بد من التمييز بين مفهوم الصبر على الحاكم وبين طاعته".

وفرق الجباري في حديثه لـ"عربي21" بين الأمرين "بأن من يصبر على جور الحاكم لا يكون طائعا بالضرورة له، فهو في أعماقه ساخط ناقم، ولو كان راضيا لما كان صابرا، إلا أنه لا يستطيع فعل شيء، أو أن التقدير السياسي للمرحلة يجعل العالم مرجحا الهجرة أو الصبر".

وجوابا عن سؤال: هل ما نراه اليوم من خطاب ديني منتشر في أوساط إسلامية عريضة يحض على طاعة ولي الأمر والصبر على جوره يعتبر امتدادا للممارسة التاريخية الإسلامية أم ثمة فوارق بين الحالتين؟ قال الجباري: "في عصرنا ليس هناك خطاب واحد، بل خطابات متعددة ومتناقضة". على حد وصفه.

وفصَّل الجباري رأيه بقوله: "عندنا من يدعو إلى طاعة مطلقة لولي الأمر، وعندنا من يكفر ولي الأمر، وهناك آراء بينهما، ولكل دفوعاته وتعليلاته"، مبينا رأيه الشخصي "بأننا في الدولة الحديثة، يجب أن نتخلص من بعض المصطلحات، ونلتزم بالمصطلحات المنصوص عليها في القوانين الساري بها العمل".

ولفت الجباري إلى أن "كثيرا من الدول لا توجد في قوانينها ودساتيرها مصطلحات: (الطاعة، ولي الأمر، الإمام..)، وتكون القوانين رائدة، لكن جماعة من العلماء والتنظيمات تستهويهم هذه المصطلحات فليجأون إليها رغم ما تحمله من حمولة تاريخية مرتبطة بالاستبداد والطاعة المطلقة".

ودعا الباحث المغربي الجباري إلى "ترسيخ ثقافة جديدة تنبني على المواطنة، رئيس الدولة، المعارضة، القانون، الدستور، الرقابة الشعبية.. وغيرها من المصطلحات المذكورة في القوانين"، متسائلا: لماذا ندير لها الظهر، ونركز على المصطلحات القديمة؟

وتوضيحا للإشكال الوارد بشأن طاعة ولي الأمر والصبر على جوره التي تتعارض مع مبدأ تحريم الظلم، ودعوة الشريعة إلى استنكاره وتغييره بالمستطاع، أكد الجباري أنه لا بد من التركيز على نقاط أساسيه في هذا السياق:

 أولا: الأصل هو تحريم الظلم، وقد حرمه تعالى على نفسه، فكيف نبيحه للناس؟ ثانيا: إقامة العدل وتطبيقه يعتبر من الكليات التي لا تخصص ولا تنسخ، ولا يصح التهاون في شأنها.

وأشار الجباري إلى "أننا في هذا المقام أمام معادلة صعبة جدا، لا يدرك ملابساتها كثير من العلماء، فحين لا يستطيعون العمل، أو قول ما يفرمل جنوح الظلم وأهله، فإنهم ينخرطون مع الحاكم في سيمفونيته، ويستخرجون على الفور من جعبتهم مصطلحات الطاعة، والصبر وبعض النصوص، وكان الأولى أن يبادروا إلى الصمت، والحديث النبوي ينصحهم بذلك: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".

وأضاف: "والقاعدة المقررة تقول "السكوت في مقام البيان يفيد الحصر"، والنبي عليه الصلاة والسلام في مقام البيان والإيضاح سكت عن مباركة الظالم، أو تأويل أفعاله وتسويغها أو شيء من هذا، إذن: هناك خياران لا ثالث لهما؛ إما القول الحسن المناهض للظلم المطالب بالعدل، أو الصمت، ومن اختار مسلكا ثالثا فهو يستدرك على النبي عليه السلام، وهنا يقع العلماء في المحظور من حيث لا يدرون" وفق عبارته.

بدوره أكد أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة في الجامعة الإسلامية بغزة، صالح الرقب أن "ولي الأمر الذي تجب طاعته، يشترط فيه عدة شروط؛ أولها أن يكون مسلما مطيعا لله ولرسوله، وليس من عبيد اليهود والأمريكان ممن ينفذ سياساتهم، وينهب خيرات الوطن".

وأضاف لـ"عربي21": "وثانيها: أن يقود شعبه بكتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وألا يأمرهم بمعصية، وثالثها: أن يتم اختياره بطريق الشورى من أهل الحل والعقد وبالبيعة دون إكراه، أو عبر انتخابات نزيهة،

 ورابعها: تتوافر فيه شروط الحاكم المسلم من العلم الشرعي والصدق والأمانة والتقوى ومخافة الله، والقدرة على إدارة شؤون الدولة".

وانتهى الرقب إلى القول: "طاعة ولي الأمر الشرعي، والصبر على جوره، تكون في تجاوزاته في قضايا فردية، لم يبلغ فيها مبلغ التنكر للشريعة، أو ترك التحاكم إليها بالكلية، أو ترك إقامة الدين في واقع المسلمين، وإنما ظلمه وتجاوزه ينحصر في تلك الحالات، ففي هذه الحالة لا يجوز منازعته الأمر، لئلا يؤدي ذلك إلى تفتيت وحدة الأمة، إذ المحافظة على وحدتها أولى من إزالة ظلم السلطة في مثل تلك التجاوزات إن تعذر تغييرها بالمناصحة".

وسوم: العدد 739