الأكراد، و إشكاليةُ الهويّة، و اللغة
لقد غدا الحديث عن الأكراد، أو لنقل الكُرد، ( على رأي مثقفيهم الذين يرَوْن فيها مذمّة ، كما في إطلاق لفظ " الأعراب " على البداوة عند العرب )، أمرًا أقربَ إلى البحث عن " أحفاد الجِنّ "، إذْ هناك من نسبَهم إليهم، أو إلى " أحفاد نبيّ الله نوح " على رأي نسابة آخرين، جعلوهم من أبناء " يافث بن نوح "؛ و ذلك لشدة الغموض المتعمّد، الذي يلفّ تاريخهم سواءٌ منهم أو من الآخرين.
فهم يصرّون على جعل المبتدأ و المنتهى لديهم، في الحدود المشتركة بين هذه الدول الأربع " إيران، العراق، تركيا، سورية "، مغفلين في ذلك الإشارة إلى " أرمينيا "، أو " بوادي إيران "، أو " القوقاز "، أو ....
و يصعب على كثيرٍ ممّن يبحث عن حقيقة الأمر، أن يصل معهم إلى رأيّ قاطع في المسألة، سواءٌ من جهة الجذور العرقية، أو اللغوية؛ لأن الشواهد التاريخية تعوزها الديمومة، و يتعذر التثبت منها في بعض الحالات، فلكي نثبت هوية شعب ما، علينا أن نلجأ في الغالب إلى مقاييس معينة حاسمة: كاسمه، و عِرقه، و لغته، بغض النظر عن قناعتنا بقيمتها العلمية المطلقة.
فالاسمُ وحده لا يسمح في الواقع بأيّ استنتاج مرض بالنسبة للشعب الذي يتسمّى به، و يكفي أن نذكر على سبيل المثال، الشعب الفرنسي، فإذا اعتمدنا على اسمه دون أن نعرف جيدًا أصوله التاريخية، أمكننا افتراض أنّه يعود إلى أصل جرماني، و كذلك بالنسبة إلى الروس الذين يشتق اسمهم من كلمة إسكندنافية، إذْ يمكن أن تضللنا هذه التسمية إن لم نكن نعرف أنها تشير إلى فئة مسيطرة من زعماء " الفايكنغ "، الذين أخذ منهم هذا الشعب السلافي اسمه.
فلم يختلف المؤرخون حول نسبة شعب أو أصله كما اختلفوا حول الشعب الكردي، ولاسيّما علماء الأجناس، و مؤرخو الأقوام و الشعوب القديمة، و لن تجد رأيًا لهؤلاء يتفق مع آخر، كما لم يقطع مؤرخ أو عالم برأي حاسم، فهو يورد عدة آراء ثم يعطي ترجيحًا لواحد منها، و هذا شيء طبيعي بسبب الافتقار لما يشكل سندًا، أو مستندًا علميًا في البحث التاريخي.
و ذلك أنّه ليس للأكراد ماضٍ قديم معروف بالدقة، و لا ما يدل أو يعرف بهم في التاريخ البعيد؛ فالشعوب و الأمم المعاصرة عمومًا لديها مشكلة في تحديد أصولها و جذورها على وجه الدقة، غير أنّ الأكراد يُضاف لهم سببٌ آخر، يزيدُ المسألة تعقيدًا، يتعلق بالواقع السياسي الذي يعانونه، فالدراسات التاريخية حول أصولهم و جذورهم تتأثر و تؤثر في المواقف السياسية حول المسألة الكردية بصورة عامة.
فقد جرى لأسباب مختلفة تصوير تاريخ الكُرد و كردستان تصويرًا قاصرًا في الأعمال التاريخية التقليدية عن الشرق الأوسط، و من السهل أن نرى لماذا صار الكُرد يشعرون أنهم مستبعدون عن العمل في مثل هذه الأعمال.
و بقدر تعلق الأمر بالتاريخ القديم، فهناك كثير من الحضارات لم يعد لها وجود؛ لذلك من الضروري الأخذ بالتحفظات المتعلقة بنسبية المعايير اللغوية و العرقية من جهة، و التحفظات السياسية من الجهة الأخرى، عندما نبحث عن أصول الكُرد و جذورهم.
فالمؤرخون ليسوا على رأي واحد حول أصلهم، فهناك عدة نظريات و افتراضات، فمن قائلٍ أنهم قبائل آرية نزحت إلى الجبال من إيران منذ القدم و اختلطت بالقبائل الجبلية الاصلية. و قائلٍ أنهم قبائل سامية وسومرية رافدية نزحت إلى الجبال و اختلطت بالقبائل الأصلية ثم خضعت للقبائل الآرية، و قائلٍ ثالث أنّهم قبائل جبلية أصلية تبنّت اللغة الآرية و الإيرانية.
إنّ النظرة الأكثر واقعية و علمية هي أنه لا يوجد شعب أو أمة ذو أصل و جذور واضحة و نقية بالمطلق، و من الأولى أن ننظر إلى الكُرد على أنهم حصيلة تلاقٍ بين عدة مجموعات توطنت في زاكروس و مجموعات أخرى مرت بها في الطريق إلى أماكن أخرى.
فالبحث عن الأصول النقية لأية أمة، أمرٌ فرضته النزعة القومية في التاريخ الحديث، و ذلك بهدف خلق الذاكرة الجماعية الضرورية للشعور القومي، و التماسك و التضامن القومي، و يسمي (يان أسمان: عالم أنثروبولوجيا ألماني: ولد سنة 1938) هذا العملية بـ ( إعادة تركيب الذاكرة الجماعية أو: مونتاج الماضي ).
وسوم: العدد 739