كيف استطاع الغرب تحويل العداوات في الشرق الأوسط
كيف استطاع الغرب
تحويل العداوات في الشرق الأوسط
وكيف جعل أعدائنا (مِنّا وفينا)
طريف يوسف آغا
لم يعرف التاريخ عدواً للشرق العربي وطامعاً فيه مثل الغرب الأوربي. فهو احتل بلادنا مما قبل الميلاد في عهد الامبرطورية الرومانية، ثم حاول استعادتها تحت راية الدين خلال الحملات الصليبية في العصور الوسطى (1096-1291)، وبعدها في حملة نابليون على مصر وسورية (1798-1801)، ثم في عصر الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين، فاحتلت إيطاليا لليبيا (1911-1943) وإسبانيا لشمال المغرب (1912-1956) وغزت ألمانيا شمال إفرقيا (1941-1943) لمساعدة حليفها الإيطالي، في حين غزت فرنسا وانكلترا واحتلتا بقية البلاد العربية. ولكن الغرب الأوربي قرر أخيراً أن يحتل هذه البلاد (بالوكالة) عن طريق تنصيبه أو غضه الطرف عن قادة جزارين محليين يرعون مصالحه من جهة، ويتحملون نقمة شعوبهم وعدائهم بدلاً منه من جهة ثانية، فكيف حصل ذلك؟
الخطوة الأولى من تلك الخطة بدأت بمعاهدة (سايكس-بيكو) البريطانية الفرنسية (1916) التي مهدت لشرق أوسط جديد بتقسيمها لبلاد الشام ومابين النهرين إلى خمسة دول (سورية ولبنان لفرنسا، وفلسطين والأردن والعراق لانكلترا). وقد كان الهدف الرئيسي لهذه الاتفاقية التمهيد لقيام دولة إسرائيل والتي رأت أوربا فيها خلاصاً من الهيمنة اليهودية الاقتصادية على بلادهم وبنفس الوقت تحويلاً لنظرة العرب العدائية للأوربيين إلى عدو جديد وهو اليهود ودولتهم الجديدة إسرائيل، وستجعل في نفس الوقت من هذه الدولة المسخ حامياً للمصالح الأوربية في بلادنا. وباختصار فهم تمكنوا بذلك من وضع عدويين تاريخيين لهما (العرب وأبناء عمومتهم اليهود) ليعاديا ويحاربا بعضهما بدلاً من الالتفات للعدو الحقيقي. فاذا سألت اليوم أي فلسطيني خصوصاً أو عربي عموماً من هو عدوه الأول، لما قال لك انكلترا، وهي من زرعت إسرائيل في وطنه، بل سيقول إسرائيل واليهود.
الخطوة الثانية من تلك الخطة كانت بتقسيم أو سلخ أجزاء من أرضنا وإعطائها حدوداً سياسية مستقلة أو منحها لدول مجاورة، فجعلت من تلك الأجزاء قنابلاً ذات تحكم عن بعد تفجرها متى شائت. فقامت فرنسا بسلخ (لواء اسكندرون) عن شمال غرب سورية (1939) ومنحه لتركيا لضمان حيادها في الحرب العالمية الثانية وكذلك لخلق عدواة بين البلدين في المستقبل. أما إسبانيا فقد تركت الصحراء الغربية قبل انسحابها منها لتبقى كجرح مفتوح تتصارع حوله كل من الجزائر والمغرب. أما انكلترا فقد سهلت احتلال إيران لإمارة (الأحواز) العربية (1925) لضمان ولائها لها في مواجهة المد الشيوعي بعد سقوط روسيا القيصرية، مما جعل تلك الإمارة الغنية بالنفط بؤرة خلاف وعداوة بين إيران وبين العراق ودول الخليج في المستقبل. كما وقامت بفصل الكويت عن العراق وجعله دولة مستقلة، مما خلق حساسيات بين الدولتين أدت إلى غزو العراق للكويت 1990 ومن ثم غزو أمريكا للعراق (2003). وحتى لانشعر بالظلم كثيراً، فقد انتهجت تلك الدول الاستعمارية نفس السياسة مع باقي مستعمراتها الغير عربية، حيث تركت انكلترا خلفها قبل انسحابها من شبه الجزيرة الهندية دولتين متعاديتين هما الهند وباكستان، وتركت لهما مشكلة (كشمير) ليتحاربا من أجلها.
الخطوة الثالثة من تلك الخطة كان بتنصيب ودعم حكومات ديكتاتورية في بلادنا قبل منحها الاستقلال أو بعد ذلك بقليل. وقد أتت كافة الأنظمة الملكية العربية لتدين بالولاء الكامل ومن دون أي حرج إما لانكلترا أو فرنسا قبل أن تدخل أمريكا على الخط وترث ذلك الولاء. أما الأنظمة الجمهورية العسكرية، كأنظمة مصر وسورية وتونس والجزائر وليبيا والسودان والعراق واليمن فلم ترهب الغرب لأنها أنظمة إما كانت موالية لها علناً مثل أنظمة مبارك وزين العابدين وعلي صالح، أو من تحت الطاولة كنظام الأسد. كما كانت هناك تلك الأنظمة التي أوصلت زعمائها إلى مرحلة جنون العظمة مما أشعل ثورة أودت بأصحابها كما حصل مع القذافي، أو قادت البلاد إلى هزائم عسكرية كما حصل مع عبد الناصر أو إلى زجها بحروب مع جيرانها كما حصل مع صدام حسين أو إلى تقسيم البلاد كما حصل في السودان أو إلى حرب أهلية كما حصل في الجزائر. ولو سألت أي مواطن عربي عن عدوه الحقيقي، لقال أنها أجهزة الأمن والمخابرات في بلاده ممثلة بالحاكم الديكتاتور، وليس الغرب الذي دعمه أو تغاضى عنه.
من كل الدول العربية، كان لفلسطين وسورية خطة مختلفة عند الغرب. فقد قام بجمع شتات اليهود المكروهين من قبله أصلاً، وبعد أن ارتكب بحقهم مجازر يندى لها الجبين من محاكم تفتيش إسبانيا إلى محارق النازية، ليدعي فجأة وقوعه في غرامهم ويقرر إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين على يد انكلترا. وهو بذلك حكم عليهم بالاعدام مع وقف التنفيذ، لأنه يعلم أنه مهما طال احتلال اليهود لفلسطين، فهم في النهاية سيخرجون منها، فاحتلال فرنسا للجزائر دام 132 عاماً وانتهى، والحملات الصليبية دامت 200 عام وانتهت، والحكم العثماني دام خمسة قرون وانتهى. ولكن تحرر فلسطين سيكون مختلفاً إذ من الواضح أنه سيتم على الإغلب عبر حرب غير تقليدية يذهب ضحيتها الملايين من اليهود ومن العرب على حد سواء. وقد لعب الغرب لعبة مشابهة في سورية ولكن على يد فرنسا، حيث أوصلت الأخيرة الطائفة العلوية التي لاتشكل أكثر من خمسة بالمئة من السكان وليس لها شعبية بينهم، أوصلتها إلى سدة الحكم لتكون حليفاً للدولة العبرية الجارة ولتبقي البلد تحت نير التخلف والفقر والقهر. ولكنها، وكالحالة اليهودية، فقد حكمت بذلك أيضاً على هذه الطائفة بالاعدام مع وقف التنفيذ لأنها تعلم أن القهر لايمكن أن يدوم إلى الأبد. وكانت تعلم أنه حين تأتي الساعة وتقوم الثورة التي نشاهدها اليوم، فسوف تقضي على الأخضر واليابس وقد تنهي وجود تلك الطائفة على الأرض السورية وتعيد الشعب عشرات السنين إلى الوراء. ولو سألنا أغلبية الشعب السوري اليوم عن عدوه الأول، لقال لك من دون تردد أنه الأسد وطائفته، ولما أتى ذكر فرنسا التي أوصلتهم إلى الحكم ولا حتى إسرائيل التي تحتل جزء من أرضه. وضع الغرب كل من اليهود والعلويين في موقع (ياقاتل يامقتول)، وهذا يفسر الوحشية التي يعامل بها الشعبان الفلسطيني والسوري من قبل حكامهما. ومن السخرية أن يأتي هذا الغرب، وخاصة انكلترا وفرنسا مهندستي الدولتين اليهودية والعلوية على الترتيب، ليكون ضمن منظمة (أصدقاء الشعب السوري) وليدعي بأنه حريص على مصلحته ووقف نزيف دماءه، في حين أنه هو وليس غيره أصل بلاءه وبلاء معظم شعوب المنطقة.
لاشك أن إيران الشيعية هي عدو رئيسي للعرب أيضاً بسبب أطماعها التاريخية بأرضهم وعدائها الديني لهم، ودعونا لاننسى أيضاً الأطماع الروسية التاريخية بالوصول إلى مياه المتوسط على حسابنا. ولكن كل هذا لاينفي أن العدو الرئيسي والأمكر للعرب هو الغرب بلا منازع، والذي تمكن من توظيف أطماع دول بعيدة أو جارة لمحاربتنا وقهرنا. ولكنه نجح أيضاً في إخراج نفسه من قائمة أعدائنا ليضع بدلاً منه تلك الدول، ولكن ليضع أيضاً حكاماً (منا وفينا) أو طوائف محسوبة علينا ممن كنا نعاملهم كأبناء شعبنا أو كأبناء عمومتنا، معتمداً على عامل التخلف التي ينخر بنا.