كتاب : الحق المر - تأليف: محمد الغزالي
[ 256 ] : لا تلعنوا هولاكو وحده
القاعدة الإلهية تقول:
" وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها
فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " ؛
ولايمكن أن يحل التدمير إلا إذا استشرى الظلم
"وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون "
ويذكر في التاريخ أن أمير المؤمنين المستعصم العباسى لم يستوعب الدرس ؛ ولم يعرف أن عقوبة الفساد مستمرة ؛
وإن تنوعت أساليبها ؛ وقد رأى الخليفة المستعصم بنفسه طرفا من ذلك قبل أن يقتله المغول رفسا بأقدامهم !!!
يقول الهمذانى فى كتابه: " جامع التواريخ " إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد ؛ دخل قصر الخلافة ؛ وأشار بإحضار الخليفة المستعصم وقال له : " أنت مضيف ونحن الضيوف.. فهيا أحضر ما يليق بنا.. فأحضر الخليفة وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس ؛ فلم يلتفت إليها هولاكو ؛ ومنحها للحاضرين ؛ وقال للخليفة: " إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة ؛ وهى ملك لعبيدنا ؛ لكن اذكر ما تملكه من الدفائن ؛ ما هى وأين توجد؟ " ...
فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب فى ساحة القصر ؛ فحفروا الأرض حتى وجدوه ؛ كان مليئا بالذهب الأحمر ؛ وكان كله سبائك ؛ تزن الواحدة مائة مثقال " ...
واستحق الخليفة إحتقار هولاكو السفاح الدموى ؛ إذ تعجب هولاكو ؛ كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز ثم يبخل على الجنود بأرزاقهم ؟!!
ولم ينس هولاكو أن يذكر ذلك فى منشوره الذى أرسله إلى حاكم دمشق ؛ ينذره بالتسليم ؛ ويخوفه من مصير الخليفة العباسى وما حدث لبغداد ؛ ويقول فيه عن الخليفة المستعصم : " واستحضرنا خليفتها وسألناه عن كلمات فكذب ؛ فواقعه الندم ؛ واستوجب منا العدم ؛ وكان قد جمع ذخائر نفيسة ؛ وكانت نفسه خسيسة ؛ فجمع المال ولم يعبأ بالرجال" ...
وقد أورد المقريزى خطاب هولاكو بالتفصيل ...
ونعود إلى الهمذانى وهو يروى ذلك اللقاء بين هولاكو والخليفة فى قصر الخلافة فيقول : "إن هولاكو أمر بإحصاء نساء الخليفة ؛ فبلغن سبعمائة زوجة وسرية وألف خادمة !!!
وتضرع له الخليفة قائلا :
" مُنَّ علىَّ بأهل حرمى اللائى لم تطلع عليهن الشمس والقمر "
يقول الهمذانى: " وقصارى القول ؛ إن كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون ؛ وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل " ...
وبسبب ذلك الكم الهائل من الكنوز التى ورثها هولاكو من الخليفة العباسى ؛ فإنه صهرها جميعا فى سبائك وأقام لها قلعة محكمة فى أذربيجان ...
لقد كان هولاكو - ذلك الهمجى السفاح - يعى تماما أنه عقاب إلهى للخلافة العباسية والحكام الظلمة فى المنطقة ؛ وحرص على إبراز هذا المعنى فى رسائله إلى الحكام ؛ يقول فى رسالته إلى حاكم دمشق : " إنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى ؛ وقتلنا فرسانها ؛ وهدمنا بنيانها ؛ وأسرنا سكانها "
ويقول فى رسالته إلى السلطان قطز فى مصر:
" يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ؛ أنا نحن جند الله فى أرضه ؛ خلقنا من سخطه ؛ وسلطنا على من حل به غضبه ؛ فإنكم أكلتم الحرام ؛ ولا تعفون عن كلام ؛ وخنتم العهود والإيمان ؛ وفشا فيكم العقوق والعصيان ؛ وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة ؛ وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة " !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
وربما استفاد السلطان قطز من هذه الرسالة ؛ فكف المماليك عن الظلم ؛ واستعاد شعوره الدينى ...
وفى غمرة عين جالوت ؛ حين أوشك جنوده على الفرار صرخ " واإسلاماه " وألقى بخوذته ؛ ونزل للمعركة بنفسه ؛ فكان الإنتصار ...
هكذا تقوم الدول وتنهار ؛ وأساس الإنهيار يبدأ من الداخل ؛ وقد يأتى تدخل خارجى ليعجل بالسقوط ولكن يظل الإنهيار الداخلى هو بداية النهاية وعاملها الأكبر ...
ويأتى الإنهيار الداخلى حين تتكون طبقة مترفة تتحكم فى الثروة ؛ وفى الجماهير ؛ فتنشر الظلم والإنحلال وتحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة ؛ وتتضاءل فيه الفوارق بين الحياة والموت ...
والقرآن الكريم يضع العلاج فى تشريعاته الإقتصادية التى تمنع تركز المال فى يد فئة واحدة ؛ ويأمر فى الوقت نفسه بالزكاة والإنفاق فى سبيل الله ؛ بل يأتى الأمر أحيانآ فى صورة التهديد كقوله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" ...
ومعناه أنه إذا لم يكن هناك إنفاق فى سبيل الله فالتهلكة هى المقابل ؛ وإذا كان هناك إنفاق فى سبيل الله فلا مجال إذن لتركز المال فى طبقة قليلة العدد يتحول ثراؤها إلى ترف ...
ويقول تعالى مهددآ المسلمين فى عصر الرسول:
" ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"
وسوم: العدد 827