من نوادر الشعر العربي - رثاء الأديبة عائشة التيمورية لابنتها ( توحيدة)
من أبلغ ما قرأت في الرثاءِ: رثاءُ الأديبةِ "عائشة التيمورية" في ابنتها الشابةِ "توحيدة" التي ماتت بسببِ مرضٍ أصابَها بعد شهرٍ من زواجِها..
فظلتِ الأم سبعَ سنينَ كواملَ حزينةً على ابنتِها لدرجة أنها قالت:
إني أَلِفتُ الحزنَ حتى أنّني
لو غابَ عنِّي ساءَني التأخيرُ.!
قال أديب الشام علي الطنطاوي في قصيدتِها:لا أعرفُ في الشعر العربي أحدّ منها حِسا، ولا أظهرَ عاطفة، ولا أبلغَ في إثارةِ الأسى، وهي في هذا -لا في جُودةِ السبكِ وروعةِ البيانِ- تفوقُ ما قالتِ الخنساءُ في أخيها، وما قال ابن الرومي في ابنِه، وتفوق قصيدةَ التهامي المشهورة في ولدِه
ومطلعُ قصيدتِها:
اِن سال من غَربِ العُيونِ بُحورُ
فالدهرُ باغٍ والزمانُ غَدورُ
ثم قالت تصف الخطب ولوعةَ الحزنِ:
فلكل عينٍ حقُّ مِدرارِ الدِّما
ولكلِّ قلبٍ لوعةٌ وثُبورُ
سترَ السَّنا وتحَجَّبَت شمسُ الضُّحى
وتغَيَّبَت بعدَ الشُّروقِ بُدورُ
ومضى الذي أهوى وجرَّعَني الأسى
وغدَت بقلبي جذوةٌ وسعيرُ
يا ليتَه لمَّا نوى عهدُ النَّوى
وافى العُيونَ من الظَّلامِ نذيرُ
ناهِيكَ ما فعَلَت بماءِ حشاشَتي
نارٌ لها بين الضُّلوعِ زفيرُ
ثم أخذت تصِف كيف بدأَ مرضُ ابنتها في رمضان سَحرًا، ألمَّ بها على صِغرها، فلما أصبحوا جاءوا بالطبيب فكتبَ لها الدواءَ وبشرَها بالشفاءِ:
طافَت بشهرِ الصَّومِ كاساتِ الرَّدى
سَحَرًا وأكوابُ الدُّموعِ تدورُ
فتناوَلَت منها ابنتي فتغَيَّرَت
وَجَناتُ خدٍّ شانَها التَّغييرُ
فذَوَت أزاهيرُ الحياةِ برَوضِها
وانقدَّ منها مائسٌ ونضيرُ
لَبِسَت ثِيابَ السقمِ في صِغَرٍ وقد
ذاقَت شرابَ الموتِ وهو مريرُ
جاء الطَّبيبُ ضُحًى وبشَّر بالشِّفا
إنَّ الطَّبيبَ بطِبِّهِ مغرورُ
وصفَ التَّجرُّعَ وهو يزعمُ أنَّه
بالبُرءِ من كلِّ السِّقامِ بشيرُ.
واسمعوا كيف استَبشرتِ الفتاة بدواءِ الطبيبِ، وسأَلَته التَّعجيلَ بشفائِها لا لأجلِ شبابِها، بل من أجلِ والدتِها التي حرَّمَت على نفسِها طيبَ المنامِ:
فتَنفسَت للحُزنِ قائِلةً له
عجِّل ببُرئي حيثُ أَنت خبيرُ
وارْحَمْ شبابي إنَّ والدتي غَدَتْ
ثكلى يشيرُ لها الجَوى وتشيرُ
.
واسمعوا الآن قولَها الذي بلغت فيه الشاعرةُ الذروةَ، وسبَقت فيه كل مَن قال مرثيةً..
واسمعوا البنت وقد رأت عجز الطبيبِ فداخلَ قلبَها اليأسُ:
لمَّا رَأَت يأسَ الطبيبِ وعجزَه
قالت ودمعُ المُقلَتينِ غزيرُ
أُماهُ قد كَل الطبيبُ وفاتَني
مِمَّا أُؤَمِّلُ في الحياةِ نصيرُ
يا روعَ رُوحي حلَّها نزعُ الضَّنى
عمَّا قليلٍ وُرقُها ستطيرُ
أُمَّاهُ قد عزَّ اللِّقاءُ وفي غدٍ
ستَرينَ نعشي كالعَروسِ يسيرُ
وسينتهي المسعى إلى اللَّحدِ الذي
هو منزلي وله الجُموعُ تصيرُ
قُولي لربِّ اللَّحدِ رِفقًا بابنتي
جاءتْ عَروسًا ساقَها التَّقديرُ
وتجلَّدي بإزاءِ لَحدي بُرهةً
فتَراكِ رُوحٌ راعَها المقدورُ
أُمَّاهُ قد سلَفَتْ لنا أُمنيَّةٌ
يا حُسنَها لو ساقَها التَّيسيرُ
كانتْ كأحلامٍ مضَتْ وتخَلَّفَتْ
مُذْ بان يومُ البَينِ وهو عسيرُ
عُودي اِلى رُبعٍ خَلا ومآثرٍ
قَد خُلِّفَتْ عنِّي لها تأثيرُ
صُوني جهازَ العُرسِ تِذكارًا فلي
قد كان منه إلى الزَّفافِ سُرورُ
جرَّتْ مصائبُ فُرقَتي لكِ بعد ذا
لُبِسَ السَّوادُ ونُفِّذَ المسطورُ
والقبرُ صار لغُصنٍ قَدى روضةً
ريحانُها عند المزارِ زُهورُ
أُمَّاهُ لا تنسي بحقِّ بُنوَّتي
قبري لئلَّا يحزنَ المقبورُ
وكان هذا جوابَ الأُمِّ:
فأجبتُها والدَّمعُ يحبسُ منطقي
والدَّهرُ من بعدِ الجوارِ يجورُ
بِنتاهُ يا كبدي ولوعةَ مُهجتي
قد زال صفوٌ شأنُه التَّكديرُ
لا توصي ثكلى قد أذاب فُؤادَها
حُزنٌ عليكِ وحسرةٌ وزفيرُ
فسما بغضِّ نواظري وتلهُّفي
مُذ غاب إنسانٌ وفارقَ نورُ
واللهِ لا أسلو التِّلاوةَ والدُّعا
ما غرَّدَتْ فوقَ الغُصونِ طُيورُ
كلَّا ولا أنسى زفيرَ تَوجُّعي
والقدُّ منكِ لدى الثَّرى مدثورُ
إنِّي أَلِفتُ الحُزنَ حتَّى أنَّني
لو غاب عنِّي ساءَني التَّأخيرُ
قد كنتُ لا أرضى التََباعُدَ بُرهةً
كيفَ التَّصبُّرُ والبعادُ دُهورُ
أبكيكِ حتَّى نلتقي في جنَّةٍ
برِياضِ خُلدٍ زَيَّنَتْها الحُورُ
وَلَهي على "توحيدة" الحُسنِ التي
قد غابَ بدرُ جمالِها المستورُ
قلبي وجفني واللِّسانُ وخالِقي
راضٍ وباكٍ شاكِرٌ وغفورُ
وسوم: العدد 1070