التاجر الجشع
كان في خالي الزمان تاجر يوناني من بلدة كورفو ، جاب أنحاء كثيرة في إيطاليا ، ثم استقر في الختام في مانتوا . كان اسم التاجر فيلارجيرو ، واشتهر بأنه من أعتى الناس جشعا وبخلا . والشاهد على جشعه وبخله أن كل تفكيره كان منصبا على كسب المزيد والمزيد من المال مع أن ثروته كانت كبيرة جدا . وكان جشعه وبخله يزدادان مع ازدياد تلك الثروة . وحدث أثناء عودته يوما بكيس يحوي أربعمائة كراون ذهبا عقب بيع بعض سلعه أن ساء حظه ففقد كل المبلغ ، ولم يعلم فقده إلا عقب وصوله إلى البيت . فحين وصوله بادر إلى فتح صندوق كبير يحوي عدة آلاف من الكراونات الذهبية ، وتهيأ لإضافة الأربعمائة إليها ، فصدمه وأذهله أنها لم تكن معه ، فراح يصرخ في هلع كلما أعاد وضع يده في جيب من جيوبه تنقيبا عنها حتى اقتنع أنه فقدها فعلا . فانطلق مرعوبا في الطريق الذي جاء منه يسأل أي كلب يلقاه ( ! )عما إذا شاهد كنزه أو التقطه . ودهمه ذهول عظيم حين انتهى إلى المكان الذي أخذ فيه المبلغ دون أن يجد أي أثر له . وتذكر فجأة بعد أن غلبه القنوط من العثور عليه ؛ مركيز مانتوا . إنه الملاذ الأخير له ، فليتقدم إليه راجيا منه أن يأمر منادي مانتوا بالإعلان عن المال المفقود ، وعرض جائزة أربعين كراونا لمن يأتي به . فاستجاب المركيز لطلبه بكل أريحية ونخوة ، وعبر عن تعاطفه معه ، وشعوره بما يعانيه من ضراء ، وأعلن عن الجائزة ، فظهرت الكراونات الذهبية المفقودة فورا لدى إحدى العجائز اللاتي يمشين لعظم تقواهن مطرقات إلى الأرض في رجعتهن من الكنيسة ، وبذلك عثرت تلك العجوز على الكنز ، وتخوفت ، رغم فقرها المدقع ، أن يثقل الذهب على ضميرها ، ومن ثم تحيرت حيرة عظيمة في كيفية التصرف إزاءه ، ويسر خروجها من حيرتها سماعها بجائزة الأربعين كراونا ، فأملت أن تنالها مرتاحة الضمير .
ولما رأى المركيز مظاهر فقرها القاسي سألها متأدبا متلطفا عن وسائل كسبها رزقها ، وهل لها معين في فقرها ، فردت : " لا شيء سوى ما أكسبه بعمل يدي ، وما تقدمه بنتي الوحيدة لي من معونة . ننسج ونغزل يا سيدي لنكسب قدر حاجتنا . ولتعلم يا سيدي أنني أحب أن أرى ابنتي متزوجة قبل مماتي ، ولكن ليس عندي مال أقدمه لها " ، وبعد أن سمع المركيز وصفها لسوء حالها أكبر فيها نزاهتها لإعادتها الكراونات التي كان في قدرتها أن تحتفظ بها لنفسها بسهولة لتهبها لابنتها عند زواجها ، وهو ما كان يمكن أن يفعله كل من واجه ما واجهته من الإغواء .
فاستحضر التاجر وأنبأه بالعثور على كنزه المفقود ، وطلب منه تسليم الجائزة التي أعلن عنها إلى المرأة الفقيرة . وكان ممتعا أن ترى مدى سرور التاجر البخيل حين رأى كنزه المفقود إلا أنه تجهم حين سمع طلب تسليم المبلغ المعلن عنه ، وشرع يتدبر كيفية الاحتفاظ بذلك المبلغ ، فأحصى القطع أكثر من مرة ، ووجدها تامة لا نقص فيها إلا أنه التفت إلى المرأة ، وقال : " المبلغ الذي وضعته في الكيس ينقص أربعا وثلاثية دوقية " ، فظهر الاضطراب الشديد على العجوز لاتهامه لها ضمنا بالسرقة، فصاحت بالمركيز في صوت مهموم مفجوع : " معقول هذا يا سيدي ؟! معقول أن أسرق أربعا وثلاثين دوقية مع قدرتي على الاحتفاظ بكل المبلغ ؟!
، كلا ، صدقني يا سيدي الكريم ، أحلف لك ، أنا التي أتطلع إلى دخول الجنة ، أنني أعدت كل المبلغ الذي عثرت عليه وأنا عائدة من الكنيسة . لم آخذ منه فلسا واحدا ."، لكن التاجر العجوز الجشع البخيل تابع بأقصى الهدوء والوقار توكيده أن الدوقيات كانت مع الكراونات في نفس الكيس ، وأن عليها أن تعتبرها جائزة كافية لها ، وهو ما بدا محرجا كثيرا للمركيز غير أنه حين فكر في ابتداء العجوز البخيل قبل كل شيء بذكر الدوقيات الأربع والثلاثين ؛ بدأ يرتاب في سوء نيته للنصب على المرأة الفقيرة للاحتفاظ بهذا المبلغ الحقير الذي عرضه جائزة ، فاعتراه الغضب العاتي لاكتشاف هذا الخداع ، وشعر بأنه ما من عقوبة مهما قست ستكفي لنقض العهد هذا النقض الدنيء إلا أنه كظم غيظه المتصاعد ، وفكر في أن أفعل وأقسى عقوبة يمكن إنزالها بالبخيل لمحاولته النصب على العدل هي أن يوقعه في ذات الشرك الذي سعى لنصبه لسواه ، فخاطبه : " لماذا لم تذكر المبلغ الذي فقدته كاملا قبل الإعلان عن الجائزة ؟! " ،
فأجاب : " غفلت عنه . نسيته تماما . " ، فقال المركيز : " لكن يبدو غريبا أن تنسي الدوقيات وأنت المفرط الاهتمام بالسفاسف ، وحسب فهمي : أنت تريد استعادة ما ليس لك ، أحب أن أقول إن هذا الكيس بما يحوي من ذهب ليس كيسك البتة ما دام المبلغ الذي ذكرته في البداية لم يكن فيه . أظنه كيسي ؛ لأن خادما لي فقد نفس المبلغ الموجود في الكيس في نفس اليوم الذي تزعم أنك فقدت فيه كيسك ." ، والتفت إلى العجوز ، وقال : " بما أنه قد وضح أن المال لي وليس له ، ووجدته أنت لحسن حظك ، فرجائي أن تحتفظي به ، كله لك . قدميه هدية زواج لبنتك ! وإذا عثرت في المستقبل على كيس آخر فيه الدوقيات والكراونات الخاصة بهذا السيد الفاضل فرجائي أن تعيديها إليه دون أن تطلبي منه جائزة ! " .
فعبرت الفقيرة عن امتنانها لإحسان المركيز ، ووعدته الأخذَ بتوجيهاته في كل شيء .
وبعد أن اأدرك التاجر الجشع الضنين أن المركيز نفذ ببصيرته إلى حوافزه الخفية الحقيقية ، وأن لا أمل في نجاح تدبيره القبيح ؛ أعلن رغبته في دفع الجائزة التي وعد بها إن أعادت المرأة بقية المال التي لا ريب في أنها تخصه ، لكن كان الوقت فات ، والتفت إليه المركيز حانقا ، وتوعده بمعاقبته لمحاولته المشينة للنصب على المرأة من أجل بقية المال الكثير الذي بان بالبرهان من كلامه أنه ليس ماله ، وقال له : " اغرب من وجهي ! واحذر زيادة حنقي ! وإن قدر لهذه المرأة الطيبة أن تكون محظوظة بالعثور على كيس مال آخر فيه نفس المبلغ الذي تتحدث عنه ؛ فهي تعد بأن تعيده إليك دون نقص ، وهذا في رأيي يكفي " .
وهكذا أجبر فيلار جيرو التعس على بِراح المكان دون أن يجسر على الرد على المركيز بكلمة واحدة ، ودون كنزه الذي عثرت عليه المرأة . كان الحزن والندامة يغمران قلبه لإبائه الوفاء بالشرط الذي وضعه بنفسه . أما العجوز المعدمة فانصرفت طاغية الفرحة بثروتها الكبيرة التي ما توقعتها يوما ، وكانت مفعمة الفؤاد بالامتنان للمركيز . وسارعت بزف الخبر السعيد إلى بنتها التي طالت علاقتها بمن اختارته زوج مستقبلٍ لها دون أمل ، وها هي الآن تفرح بزواجها منه على نفقة التاجر الجشع البخيل .
*للكاتب الإيطالي جيوفان باتيستا سنتينو ( 1504 _ 1573 ) .
*عن النسخة الإنجليزية لكتاب " أعظم قصص العالم " .
وسوم: العدد 826