إسرائيل ومعضلتها الإسلامية
في منطقة صغيرة
روبرت بلتشر
أوفير زالزبيرغ
اللعبة طويلة الأمد اليوم هي نهاية اللعبة في القضيّة الفلسطينيّة
عندما شارفت حملة إسرائيل الأخيرة "عمود السحاب" التي استمرّت ثمانية أيام على نهايتها، ظنّ العديد من الإسرائيليين أن أعظم مخاوفهم حيال الانتفاضات العربية قد مرّ. إذ أطلقت حماس التي بدت أكثر جرأة وحلفاؤها في غزّة عدداً غير مسبوق من قذائف الهاون والصواريخ التي وصلت أبعد من أيّ وقتٍ مضى، ما وضع أكثر من نصف إسرائيل تحت وابل النار، فيما أعلن الرئيس المصري محمد مرسي ومسؤولون عرب آخرون صراحةً تضامنهم مع عدوّ إسرائيل. وفي حين أنّ الخسائر في الحصيلة النهائية كانت إلى حدٍّ ما محدودة بين القوات الإسرائيلية، ستة قتلى وأكثر من 240 جريحاً، إلاّ أن حالة الذعر لم تكن كذلك. وقد أظهر وقف إطلاق النار، الذي عكست بنوده مطالب حماس أكثر من مطالب إسرائيل، أنّ القواعد الإقليمية قد تغيّرت، ومن وجهة نظر إسرائيل، ليس نحو الأفضل.
غير أنه ومنذ انتهاء القتال بدأت على الأقل في بعض الأوساط في إسرائيل عمليّة إعادة تقييم. إذ أنّ أعداداً متنامية بدأت تجادل بأنّ إسرائيل قد بلغت العديد من الأهداف المتواضعة نسبياً التي كانت قد وضعتها لنفسها: فقد دمّرت العديد من صواريخ حماس، وقتلت عدد من كبار المتشدّدين الإسلاميين، كما انتزعت من الولايات المتحدة وعداً بوضع حدٍّ لتهريب الأسلحة عبر مصر.
أوّل اتفاق ضمنيّ بين إسرائيل والسلطات الإسلاميّة الجديدة
ولكن ما كان بالفعل استثنائياً، وفق المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، هو أنّ عملية "عمود السحاب" قد أثبتت إمكانية إسرائيل شنّ حملات قصف ضد حماس والفصائل الأخرى في غزة بالرغم من التغيّرات الإقليمية التي كان من المفترض أن تكبح جماحها. وبالفعل فإنّ إسرائيل قامت بذلك بتعاونٍ ضمنيّ مع السلطات الإسلامية الجديدة في المنطقة. ففي نهاية المطاف كانت مصر بقيادة الإخوان هي من دفع باتجاه وقف إطلاق النار، ذي بنود أقلّ تفصيلاً مما كانت حماس قد طالبت به. وعلى الرغم من سحب القاهرة لسفيرها في تل أبيب، واستدعاء السفير الإسرائيلي لتوبيخه، بالإضافة إلى تسهيل زيارات المسؤولين العرب إلى قطاع غزة، اعتبرت إسرائيل هذه الخطوات صغيرة ومتحفّظة بالمقارنة مع تعاون مصر الحثيث مع الولايات المتحدة لتأمين وقف لإطلاق النار.
قطر، راعية الإخوان، لعبت أيضا دوراً ثانوياً في خاتمة الأزمة. فحتّى قبل اندلاع التصعيد الأخير، كانت الدوحة قد تعهّدت بـ450 مليون دولار لإعادة بناء البنية التحتية المدمّرة في غزة. واليوم يبدو أنّ هذه الأموال قد اكتسبت المزيد من الأهمية، ليس بالنسبة لشعب غزّة والحكومة التي تديرها فحسب، وإنّما أيضاً بالنسبة إلى إسرائيل، حيث قد تساعد على تعزيز اقتصاد غزّة وتثني حماس عن العودة سريعاً إلى العنف. على النقيض من ذلك، يبدو أنّ تركيا قد اتّعظت، فهي لم تكن قادرة إلاّ على تقديم التعابير البلاغية لإظهار تضامنها مع غزّة. إذ بعد أن خفضت علاقاتها مع إسرائيل في عام 2010 على خلفية حادثة "مافي مرمرة" التي أودت بحياة تسعة أتراك على أيدي القوات الخاصّة الاسرائيلية، كانوا على متن سفينة تحمل إمدادات إنسانية إلى غزّة في انتهاكٍ للحصار البحريّ التي تفرضه اسرائيل، لم يعد لديها أيّ نفوذٍ للوساطة خلال عملية "عمود السحاب". وما ينمّ عن الكثير هو أن أنقرة بالفعل استأنفت المحادثات مع إسرائيل حتى قبل انتهاء القتال.
وإذا ما وضعنا النزعات اللاهوتية جانباً، فقد أظهرت الحكومات الإسلامية في المنطقة الموالية للولايات المتحدة أنّها تشارك إسرائيل مصلحتها في الحفاظ على علاقات جيّدة مع الغرب وفي المحافظة على الاستقرار الإقليمي. وربما تكون عملية "عمود السحاب" قد أذكت التفاؤل بين البعض في إسرائيل بشأن ظهور ثلاثيّ عربي وإسلامي يضع الواقعيّة السياسيّة ضمن أولوياته. ورغم قلّة من يعتقد في إسرائيل أنّ هذه الكتلة يمكن أن تتحوّل إلى حليف استراتيجي في إرساء السلام، إلاّ أن كثيرون يرون فيها شريكاً فعليّاً لتجنّب الحرب.
لا يجدر الاستخفاف من الأمر، لأنّ هذا التصور لم يكن ممكناً على الدوام. إذ ترك سقوط حسني مبارك إسرائيل تواجه مصر غامضة يصعب التنبؤ بالمسارات التي ستسلكها. وفي غضون أشهر، تبدّدت آمال إسرائيل الأوليّة في أن تبقى مصر تحت الحكم العسكري. وحتّى قبل خلع الضباط الأعلى مقاماً في مصر، أثبتت الاستجابة المتردّدة للحكومة المصرية في أيلول/سبتمبر 2011 عندما تمكّن موظفو السفارة الإسرائيلية بصعوبة من تجنّب الإعدام الغوغائي، أنّ القبضة الحديدية للأجهزة الأمنية المصرية لم تعد بالصلابة ذاتها. ولم تحمل الانتخابات البرلمانية في كانون الأوّل/ديسمبر 2011 انتصاراً لجماعة الإخوان المسلمين فحسب، ولكنّها أظهرت وزن السلفيين أيضاً؛ ونتيجة لذلك ومن وجهة نظر إسرائيل، فإنّها أنذرت بمستقبلٍ أكثر سواداً مما كانت تتصوّر. ثمّ انتهت الانتخابات الرئاسية اللاحقة في آيّار/مايو وحزيران/يونيو من العام الماضي بانتصار السيّد محّمد مرسي مرشّح الإخوان؛ وحتى ولو كان انتصاره ضيّقاً، لم تغير استقالته من قيادة المنظمة قبل تنصيبه أيّ تصورٍ عنه.
أدّت الخطابات الساخنة التي تلت ذلك إلى فتور العلاقات بين البلدين. وتعرّضت العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية-المصرية لهجومٍ كبير، لاسيما خلال التصعيد الدوريّ في غزّة من قبل جماعة الإخوان وفي البرلمان المصري الذي أعلن عزمه عن سحب السفير المصري من تل أبيب، ثمّ طرد سفير إسرائيل من القاهرة، ووقف بيع الغاز الطبيعي وإدخال تعديلات على معاهدة السلام عام 1979 بين اسرائيل ومصر. وتلا ذلك هجمات متكررة على خطّ أنابيب الغاز الطبيعي في سيناء الذي ينقل الطاقة إلى إسرائيل والأردن، وإلغاء مصر للعقد. كلتا الحكومتان قلّلتا من شأن الأبعاد السياسية لهذه الخطوة، ولكن نادرون في اسرائيل من يعتقدون أنّ الأمر كان قراراً تجارياً بحتاً.
لم يرق لإسرائيل تكديس مرسي للسلطات. ويوم 5 آب/أغسطس 2011، قتل جهاديون 16 من رجال الشرطة المصريّة بالقرب من معبر رفح، ومن ثمّ هاجموا جنوداً إسرائيليين عند معبر كرم أبو سالم القريب، مما أظهر أن سيناء غدت أكثر فوضويّة مما كانت عليه تحت حكم مبارك. ردّت القاهرة باستعراض للقوّة، حيث لم تعارضها إسرائيل من حيث المبدأ لأنّها شاطرتها الهدف. أمّا دخول الدبابات المصرية إلى سيناء دون تنسيق في انتهاكٍ لمعاهدة السلام فكان موضوعاً آخر، إذ سرعان ما تراجعت القوات المصرية تحت ضغط الولايات المتحدة وإسرائيل. وعندما استغلّ مرسي فشل أجهزة الاستخبارات العسكريّة المصرية في وقف الهجوم كمبرّرٍ لإقالة رؤساء الأجهزة الأمنيّة القديمة، قُرعت من جديد أجراس الخطر، لاسيما في وزارة الدفاع في تلّ أبيب. هكذا عبّرَ عاموس جلعاد، مدير الشؤون السياسيّة والسياسة العسكرية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، والذي يعتبر الرجل الأول للتعامل مع الجيش المصري، عن أسفه للمنحى التي اتخذته الأحداث، معلناً عن "نزوع مصر نحو التطرّف على إثر وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة، ما أدّى إلى بروز ديكتاتورية رهيبة بالرغم من الرغبة في بسط الديموقراطية".
تعديل الشقّ العسكريّ تأكيد ضمنيّ للمعاهدة المصريّة-الإسرائيليّة
ولكن في الوقت ذاته، يدرك المسؤولون الإسرائيليون بأنّ الرئيس مرسي، العالق بين القيود المحليّة والالتزامات الخارجيّة غير راغب بافتعال أزمة مع إسرائيل. وثمّة عدّة دلائل تشير إلى ذلك. حيث عيّنت القاهرة سفيراً جديداً في إسرائيل، ورفضت فتح معبر رفح للبضائع أو السماح لحماس بإنشاء مكتب سياسي لها في القاهرة. واعتبرت إسرائيل تصريحات السيّد مرسي حول التزام مصر بالاتفاقيات السابقة إشارة قويّة على استمرار العلاقات المصريّة-الإسرائيلية. كما أدرك بعض الإسرائيليون المتبصّرون أن التحول في الموقف التقليديّ للإخوان، الذي كان ينادي بطرح معاهدة السلام مع اسرائيل على استفتاءٍ شعبي، ما يعدّ طريقة دبلوماسية للدعوة إلى إلغاء المعاهدة، قد تحوّل إلى تركيزٍ أكثر تواضعاً على تعديل جانبها العسكري فقط. كما يذهب البعض في إسرائيل إلى حدّ المحاججة بأنّ من شأن تعديلٍ توافقي حول الجانب العسكريّ أن يشكّل تأكيداً غير مسبوق على المعاهدة من قبل الإسلاميين.
كان لابد لسقوط مبارك أن يكون موجعاً لإسرائيل بغض النظر عن أيّ شيء. غير أنّ صناع السياسة في إسرائيل كانوا ليكونون أقلّ تخوفاً لو لم تكن إسرائيل قد فقدت أيضاً حليفتها تركيا على مدى السنوات السابقة. وفي خضمّ زخم الانتفاضات العربية، بدأ العديد من البراغماتيين في إسرائيل، كوزير الدفاع إيهود باراك، يأسفون من الموقف المتشدّد الذي اتخذته اسرائيل إزاء الحكومة الإسلامية في أنقرة الموالية للغرب والتابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي. إذ كانت تركيا وإسرائيل تتمتّعان بعلاقات تجارية وسياحية وعسكرية قويّة، إلا أنه عندما شنّت إسرائيل عملية "الرصاص المصبوب" - وهي الحملة التي دامت ثلاثة أسابيع ضدّ حماس وقطاع غزة، والتي بدأت في كانون الاول/ديسمبر عام 2008 - دون إعطاء إنذار مسبق لأنقرة التي كان رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان آنذاك يقوم بالتوسّط الهادئ في محادثات السلام الإسرائيلية-السورية، تدهورت العلاقات بسرعة فائقة.
وبعد قتل قوّات الكوماندوس الإسرائيليّة لتسعة أتراك، يحمل أحدهم الجنسيّة الأمريكية، على متن سفينة "مافي مرمرة"، رفضت إسرائيل طلب تركيا الاعتذار حفاظاً على كبريائها الوطني، والخوف من أن يشكّل ذلك سابقة بالإضافة إلى وجود قناعة مفادها أنّ أردوغان الشعبويّ لم يطلب ذلك بدافع التصالح، بل لتسجيل نقاط على حساب اسرائيل. ومع ذلك، ونظراً لأهميّة حليفة مثل تركيا في منطقة الشرق الأوسط المتغيّرة، كان نتنياهو في صيف عام 2011 على وشك الموافقة على صيغة إسرائيلية توافقية تكون بمثابة اعتذار عن "الأخطاء التكتيكيّة التي تكون قد ارتكبت". وقد تبنّت السلطات الرسمية في إسرائيل بشكلٍ عام هذه الصيغة، ولكنّ المعارضة المتصلّبة للمتشدّدين في التحالف الحاكم، وخاّصة وزير الخارجية آنذاك افيغدور ليبرمان ووزير الشؤون الاستراتيجية موشيه يعالون، قد نسفت الفكرة.
وفيما وقفت إسرائيل على الهامش، رفعت حليفتاها الاستراتيجيتين السابقتين مصر وتركيا مستوى علاقاتهما، صانعتان بذلك كتلة متوسّطية تهمّش الدولة العبرية. وجاءت القمة التي عقدت في أنقرة في أيلول/سبتمبر 2012 والتي جمعت أردوغان بمرسي ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، لتؤكّد على التحوّل الذي طرأ على السياسة التركيّة الخارجية من "تصفير المشاكل" مع الجيران نحو تحالفٍ مناهضٍ لإسرائيل. وفيما وجدت إسرائيل بعض المواساة في الموقف الحازم الذي اتخذه هذا الثلاثيّ ضد الرئيس السوري بشار الأسد، إلاّ أنه بدا واضحاً للإسرائيليين أنّ عدوّ عدوهم ليس بالضرورة صديقهم.
أما العلاقات بين إسرائيل وقطر فقد تراجعت أيضاً في السنوات الأخيرة. حيث نسجت الإمارة الذي يفوق تأثيرها السياسي حجمها الصغير بكثير علاقات وثيقة مع الإخوان المسلمين عندما وجد العديد من أعضائها، بما في ذلك أكثر أعضائها وقاراً واحتراماً، كالشيخ يوسف القرضاوي، ملاذاً في الدوحة بعد أن فرّوا من القمع في مصر وأماكن آخرى. وفيما لم تكن علاقات إسرائيل مع قطر يوماً بقوّة تلك التي نسجتها مع القاهرة وأنقرة، إلاّ أنها كانت ذات أهميّة ليس لأنّ الدولة الخليجية حافظت على علاقاتها الدبلوماسية مع الدولة العبرية فحسب، وإنّماً أيضا لأنها تخشى مثلها النوويّ الإيراني، مما جعلها تتبنّى تعاون أمنيّ متكتّم عليه مع اسرائيل.
إلاّ أن البعثات التجارية المتبادلة التي أنشئت في عام 1996 قد أُغلقت إثر اندلاع الانتفاضة الثانية، وقطعت الدوحة تحت ضغوط الجامعة العربية علاقاتها المتبقية مع إسرائيل عقب شن الأخيرة عملية "الرصاص المصبوب"، بما في ذلك التعاون الأمنيّ. وفي عام 2010، عرض أمير قطر استئناف العلاقات مع إسرائيل بشرط أن تسمح بتمرير مواد البناء لمشاريع تموّلها قطر في غزة. لكن نتنياهو رفض ذلك، وكان السبب الرسميّ أن المواد تشمل الإسمنت الذي تعتبر إسرائيل أنّه يمكن استخدامه في بناء الخنادق. ولكنّ رعاية قطر للإخوان المسلمين، ولاسيما التسهيلات التي كانت الدوحة تمنحها لحماس، قد لعبت دوراً ليس بالصغير في هذا الرفض.
الربيع العربي بين البراغماتيّين والمثاليين الإسرائيليين
لقد شكّلت قطيعة إسرائيل مع الثلاثي الإسلامي خسارة استراتيجية، وقد بدا ولو لوهلة، أنّ عزاء إسرائيل يكمن على الأقل في الضربة التي يتلقاها "محور المقاومة" المؤلّف من إيران وسوريا وحزب الله. إذ لدى اندلاع المظاهرات الحاشدة في سورية في آذار/مارس 2011، بدا لباراك أنّ نظام الأسد سيسقط في غضون أسابيع، مطيحاً بذلك برأس ذلك المحور. ولكن عندما غدا واضحاً أن الأسد لن يذهب بسرعة، وأنّ حرباً أهلية طائفية بدأت تتجذّر، تحوّلت غبطة إسرائيل إلى القلق. إذ من المرجح اليوم أنّ خليفة الأسد المباشر لن يكون الإخوان المسلمين، بل الفوضى. حيث يدخل الجهاديون الصراع بصورة متزايدة ، كما لم يعُد مؤكّداً أنّ النظام السوري يسيطر على ترسانة أسلحته الكيمياوية. أمّا سيناء فهي ليست أقلّ مدعاة للقلق، لاسيّما في ظلّ الفوضى العارمة على طول الحدود بين اسرائيل ومصر. في كلا الجبهتين، تواجه إسرائيل حدود منهجها الأمني: فالردع لا يعطي أيّة نتيجة عندما لا يكون موجهاً ضد حكومة لديها ما تخسره.
يكتسب الرأي القائل أن "الشتاء الإسلامي" قد حلّ محل "الربيع العربي" كثيراً من الزخم. إلاّ أنّه يحجب ما يبدو للوهلة الأولى وجهتي نظر مختلفتين داخل القيادة الإسرائيلية. فالفجوة ليست بين الصقور والحمائم، وبين السياسيين والعسكريين، أو بين الشباب والقدامى. بل الجدل هو ما إذا كان ينبغي أن تكون البراغماتية أو المثالية هي ما توجّه السياسة الخارجية الإسرائيلية. يدور هذا السجال منذ فترة طويلة، إلاّ أن الانتفاضات العربية قد أظهرت أنّ لدى الجانبين أكثر مما يتصورانه من القواسم المشتركة.
يهيمن حاليّاً المعسكر البراغماتيّ الذي يتضمّن الغالبية الساحقة من المؤسّسة العسكريّة، والذي لطالما تصوّر أنّ أمن البلاد مرتبط بأمن الأنظمة المحافظة الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة - مصر والأردن والمملكة العربية السعودية - والتي تشاطر، أو كانت تشاطر، إسرائيل نفس الحلفاء ونفس العدو الثنائي المتمثّل بإيران والإخوان المسلمين. وحسب رؤية هذا المعسكر، إنّ مصالح اسرائيل المتبادلة تقوم أساساً مع الحكام العرب، وليس مع هياكل الدولة الرسميّة. لهذا فهو يخشى الديمقراطيات العربيّة لأنّها ستوصل إلى مقاليد السلطة قوى معادية لإسرائيل. بالرغم من ذلك، وفور صعود الإسلاميين إلى السلطة كما حدث في مصر، ورغم أن نفس المبدأ ينطبق في أيّ مكان آخر، كان البراغماتيين هم أوّل من جادل باتجاه استمرار التعاون على الرغم من وجهات نظر محاوريهم التي يعتبرها الإسرائيليون معادية.
أمّا التوجّه الفكري الأخر في إسرائيل فهو التوجّه المثالي، الذي يتبنى رؤية مضادة للتوجه البرغماتي فيما يتعلّق بالديموقراطية. ويرتبط هذا التوجه أساساً بناتان شارانسكي، المنشق السوفياتي السابق والوزير في حزب الليكود، وحتّى ببعض المقرّبين من نتنياهو، كمستشاره رون ديرمر الذي ألّف مع شارانسكي كتاب "قضية الديمقراطية: قوّة الحرية للتغلب على الاستبداد والإرهاب"، بالإضافة إلى السفير الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة مايكل أورين، وإلى درجة أقل، يعلون، وزير الشؤون الاستراتيجية. يجادل هذا المعسكر بأنّ السلام مع الحكام لا يدوم، وذلك لأن الحكم الاستبدادي زائل، وأنّ الاتفاقات الموقعة مع الطغاة تفتقر إلى الشرعيّة. فقط عندما تتجذّر الديمقراطية، يجادل هؤلاء، يمكن صياغة سلامٍ حقيقيّ تنبع نواته من مصالح الشعب. ولهذا فإن الديمقراطية، من وجهة نظرهم، هي النتيجة الإيجابية المطلقة: ففي نهاية المطاف سيدرك الناخبون العرب مصالحهم، وسيسعون إلى تحقيق سلامٍ رصين. إلاّ أنهم، أي المثاليون، ليسوا سعداء مما يروه ويسمعوه اليوم في مصر، لاسيما اللغط المعادي للساميّة ولإسرائيل. وبالفعل باتوا يشكّكون من أن يكون التحوّل الديموقراطي على يد جماعة الإخوان المسلمين، ولذا فقد حثّوا الغرب على تصعيد الضغط عليهم.
ثمّة بالطبع مفارقة غنيّة هنا. فالبراغماتيون اللذين لطالما نظروا إلى الديمقراطيات العربية بعين الريبة، باتوا اليوم هم المنادين الأكثر صخباً بإبرام صفقات مع الزعماء الإسلاميين الجدد في المنطقة، في حين يشلّ التردد المثاليين الذين لطالما أيّدوا الديمقراطيات العربية من حيث المبدأ.
نتنياهو حذر بطبيعته، ويجلس على الجدار الفاصل بين هذين المعسكرين. وتعكس الكتب التي ألّفها العديد من مواضيع شارانسكي وديرمر، لا سيما إيمانهما بالديموقراطية. إلاّ أنه عندما يشاهد المسرح المصري اليوم، فهو لا يرى الديمقراطية، بل يسمع خطاب الإخوان المناهض للديموقراطية والليبرالية ولإسرائيل. ولكن بوصفه رئيساً للوزراء، ليس بوسعه التمسك بمبادئه، بل يتعيّن عليه التعامل مع قادة ينظر إليهم أتباعه المثاليين بعين الريبة. نتنياهو مثاليّ الميول لكنّه تحوّل إلى رجل سياسي براغماتي بحكم الضرورة.
هناك بعض المؤشرات الخافتة بأنّ الموقف الدبلوماسي للإخوان فيما يتعلّق بالصراع العربي-الإسرائيلي، بدأ يتطوّر تدريجيّاً، وقد يصبح أكثر مرونةً مما كان عليه الأمر عندما كانت الجماعة في المعارضة. إذ ظهر الرئيس مرسي نفسه ينطق علناً اسم "إسرائيل" مرّتين خلال مفاوضات وقف إطلاق النار، وهو شيء لم يحدث منذ تنصيبه. والأهمّ من ذلك هو تبنّي الحكومة التونسية التي يقودها حزب النهضة الإخوانيّ لمبادرة السلام العربية خلال التأكيد السنويّ عليها خلال قمّة الجامعة العربية التي عقدت ببغداد. ومع مرسي في سدّة الحكم، أيّدت مصر هذه المبادرة في قمّة حركة عدم الانحياز في طهران. وتعمل الأحزاب التابعة للإخوان في المنطقة جاهدة لبناء علاقات مع الغرب والولايات المتحدة خصوصاً، ولا يمكن الحفاظ على هذه العلاقات على المدى الطويل دونما إحراز خطوات ملموسة في عملية السلام.
يقول مسؤولون إسرائيليّون حاليّون وسابقون على حدٍّ سواء، بما في ذلك البعض من ائتلاف نتنياهو الحاكم، بأنّ على إسرائيل أن تشجّع هذه الخطوات الوليدة. ويدعو باراك لتقديم اعتذارٍ لتركيا، وفق الصياغة التي وافق عليها مسؤولون اسرائيليون وأتراك، لإعادة قوّة العلاقات الثنائيّة وتعزيز تموضع إسرائيل في المنطقة. ويبدو أنّ ذلك يلقى تأييداً من غالبية الإسرائيليين. أمّا بالنسبة لقطر، فيمكن لمساعداتها لقطاع غزّة أن تساهم في رفع مستوى العلاقات بينها وبين اسرائيل. وبالنسبة إلى مصر، من شأن التوافق على تعديل الملحق العسكري لمعاهدة سلام عام 1979 بين إسرائيل ومصر، والذي بدوره يتطلب تبنّي حكومة بقيادة الإخوان لاتفاقٍ على الوضع النهائي مع إسرائيل، أن يكون فاتحة علاقات مع نظرائهم في الأردن أو حتّى حماس. هكذا فإن أيّ نجاح تحقّقه إسرائيل مع هذه القوى الإقليمية سيصبّ في مصلحة علاقات إسرائيل مع حكومات أخرى في المنطقة من تونس حتّى الخليج.
إلاّ أنّه من غير المرجح أن تولد هذه اللفتات الكثير من الزخم إذا لم يتمّ إحراز تقدّم في الملف الفلسطيني. ذلك ليس لأنّ القوى الإقليمية العربية قد فعلت الكثير تاريخياً لنصرة إخوانها الفلسطينيين، وليس لأنّه ثمة أسباب تدعو إلى الاعتقاد بأن هذا على وشك أن يتغيّر جذرياً، بل لأنّه سيكون من الصعب سياسياً التعامل مع إسرائيل طالما استمرّ الاحتلال، أو على الأقلّ حتّى يظهر احتمال معقول لإنهائه، لاسيما نظراً للأهمية الوليدة التي اكتسبها الرأي العام العربي في السياسة الخارجيّة. من وجهة نظر نتنياهو، ستعتمد نوعيّة علاقات إسرائيل مع المنطقة على نوعيّة الديمقراطية التي سيمارسها العالم العربي. أمّا شعوب المنطقة، فترتبط المسألة بالنسبة لها بما إذا سيتمتّع الفلسطينيون أيضاً بالحرية لممارسة الديمقراطية.
يبدو الاحتمال ضئيلاً أن يتمّ التقدّم على الجبهة الفلسطينيّة تحت حكم نتنياهو. ولكن بالنسبة للغالبية العظمى من سكان الشرق الأوسط، هذا ليس بالأمر المفاجئ، بل ربما يشعرهم بالارتياح. فلو كان نتنياهو ميّالاً لذلك، لكان قد استغلّ النشاط السياسي الذي تشهده المنطقة ليحاول تحويل التركيز من المحادثات الثنائية بين إسرائيل والفلسطينيين في عملية السلام إلى محادثات إقليميّة حول بنية أمنيّة أوسع نطاقاً، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة، وغيرها من القضايا التي لطالما اشتكى اليمين الإسرائيلي من غيابها من محادثات عملية السلام. إذ لا ترغب معظم القوى العربية والإسلامية، حديثة كانت أم قديمة، في المشاركة في هذا النوع من المحادثات.
نظراً للأهمية التي اكتسبها الدين اليوم في عالم السياسة في المنطقة، ليس لدى معظم اللاعبين الرغبة في تقديم تنازلات رسميّة قد تكون ضروريّة لتعزيز حلّ الدولتين. ولا نعني بذلك أنّ المفاوضات كانت أكثر نجاحاً في العقد أو العقدين المنصرمين. بل إن السيناريو الأكثر احتمالاً هو أن يقوم مرسي ونتنياهو - مثل قطر وحماس وغيرها - بوضع القضية الفلسطينية في مؤخّرة أولوياتهما، وذلك ليس لمجرّد التفرغ إلى شؤونهم الخاصة وحسب، بل لأنّهم لا يرون أملاً في تحقيق اتفاق لنهاية اللعبة. بدلاً من ذلك، قد يتمّ التوصل إلى تسوية مؤقّتة تسمح للجميع بإعطاء الأولويّة لتحدياتهم المحليّة: سيكون القتال محدوداً وسريع الاحتواء، وسيتجنّب الجميع التكتيكات قصيرة الأمد لصالح التخطيط الاستراتيجي على المدى الطويل. فبالنسبة للكثيرين في المنطقة، تمثل اللعبة طويلة الأمد اليوم هي نهاية اللعبة.
* روبرت بلتشر: مدير المشروع العربي-الإسرائيلي في "مجموعة الأزمات الدولية".
* أوفير زالزبيرغ: محلل في شؤون الشرق الأوسط في "مجموعة الأزمات الدولية"
نقل مجلة الزيتونة
عن لوموند ديبلوماتيك شباط/فبراير 2013م