يا ربِّ ... إلا بلبلاً
يا ربِّ ... إلا بلبلاً
سياحةٌ في قصيدة (شكوى)
لمحمّد إقبال رحمه الله
أنس إبراهيم الدّغيم
جرجناز/معرّة النعمان/سوريا
ليتَه كان لي ذلك القلب الكبير، حتّى أطوف معه في مجال شهوده، و ليتني كنت أستطيع أن أشرح كلَّ ما يختلج في قلبي الصّغير و أنا أطوف بين هذه السّطور.
و لكم أتمنّى لو يمتدّ تيارٌ من الدّم ما بين قلبي و قلبه، فأنقل دفقَه إلى كلّ نفسٍ، و أحمل ماءَ حبّه لأسقي به مواتَ القلوب، و لكن لم يجعل الله ُ لواحدٍ من قلبيْنِ في جوفه.
فحسبي من إقبال بستانه الزّاهر الذي لا يمنعه على العيون ، و حسبي منه هذا الفيضُ الرّوحيّ المستمرّ الذي ما يزال يسقي ضمائرَ غرثى لتواجهَ ظمأ المادّة القاتل .
إنّها ( شكوى إقبال ) أمام الله ، و قد نفى الحزنُ صمتَه ، ليصدحَ كما تصدحُ بلابلُ الرّوضِ إذا فاضتْ بالشّجن .
و مزّقتُ الجيوبَ و أنت خالٍ فؤادي لا ألومُكَ في جنوني
و هو الذي يفيضُ صدرُهُ بآلامه و أشجانه ، فيرسلها على أجنحةِ الرّجاء ، و يترجمُها نداءاتٍ يتّجهُ بها إلى المقامِ الأعلى .
شـكوايَ أم نجوايَ في هذا أمـسيتُ في الماضي أعيشُ كأنّما و الـطّـيـرُ صادحةٌ على أفنانها قـد طـالِ تسهيدي وطالَ نشيدُها فـإلـى مـتى صمتي كأنّي زهرةٌ | الدّجىو نـجـومُ ليلي حسّدي أم قطعَ الزّمانُ طريقَ أمسي عن غدي تـبـكـي الـرّبى بأنينها المتجدّدِ و مدامعي كالطّلّ في الغصنِ النّدي خـرسـاءُ لم تُرزقْ براعةَ منشدِ؟ | عُوّدي
إنّها الشّكوى التي تفيضُ بها النفس و تمتلأُ بها الجوارح ، فيبثّها إلى من يعلم السّر و أخفى .
فكأنّما يجتمع في قلبه آلام المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها ، كما تتلاقى فيه أماني أمّةٍ بأسرها ، ليعرض كلّ ذلك على الباب العالي، بابٍ لا يُخيّبُ عنده سائلٌ ولا يضيعُ عنده دعاء:
قيثارتي مُلئتْ بأنّاتِ الجوى لا بُدّ للمكبوتِ من فيضانِ
يشكو لك اللّهمّ قلبٌ لم يعشْ إلا لحمدِ علاكَ في الأكونِ
و كيف لا وهو الذي يحملُ بين جنبيْهِ أمانةَ عظيم ، أمانةً تمدّ القلب الفقير في خضمّ الحياة الهائج و تغطّيهِ إذا انتابهُ بردُ العمرِ القاتل .
قلبٌ يحملُ همومَ أمة ، و يتكلم بلسان شعب ، و ينبضُ ليحيي آلاف الصّدور .
قلبٌ يسوؤهُ أن يرى خير أمّةٍ و قد انهزمت أمام المهمّة ، و فرّت من ميدان النّزال ، و تركتْ كرسيّ الخلافة .
أنا ما حسدتُ الكافرين و قد غدوْا في أنعمٍ و مواكبٍ و قصورِ
بلْ محنتي ألا أرى في أمّتي عملاً تقدّمه صداقَ الحورِ
و نحن الذين ما أتينأ من فراغٍ و لا صاغنا عدم ، و لا نهضتْ بنا قوميّةٌ مشبوهةٌ و لا وثنيّة خرقاء ، و لا سجدتْ وجوهُنا لصنم ، و لكنّها قلوبٌٌ كرّمها الله بالشّهادتين ، و وجوهٌ هذّبها ماءُ الوضوء ، و كرُمت بالسّجود على تراب العبوديّة الحقّة لله ربّ العالمين .
مشكاتنُا دينٌ عظيمٌ تعزّ به النفوس و لا يهون ، و دليلُنا رسولٌ كريمٌ على خلقٍ عظيم ، و كتابُنا نورٌ يسعى بين أيدينا ليهدينا في مسالك الحياة ، و قبلتُنا بيت الله المعمور .
فلا جور و لا ظلم ، و لكن ( و الله لو سرقتْ فاطمةُ بنتُ محمّدٍ لقطعتُ يدها ) ، و لا إذلالَ و لا استعباد ، و لكن ( متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) .
نحنُ الذين استيقظتْ بأذانهم دنيا الخليقةِ من تهاويلِ الكرى
نحنُ الذين إذا دُعوا لصلاتهم و الحربُ تسقي الأرضَ جاماً أحمرا
جعلوا الوجوهَ إلى الحجازِ و كبّروا في مسمع الرّوحِ الأمينِ فكبّرا
محمودُ مثلُ أياز قام كلاهما لك بالخشوع مصلّيا مستغفرا
العبدُ و المولى على قدمِ التّقى سجدا لوجهكَ خاشعيْنِ على الثّرى
و نحن الذين طلعنا من الخيام الباليات ، فأضاء بنا كونٌ و أشرقتْ بنا حياة .
و نحن الذين انطلقنا من تحت الرّمال ، فإذا الأرضُ غير الأرض و السّموات ، فأينما كبّر مسلمٌ وجدتَ الأمانة و الهدى ، و حيثما ارتفعت مئذنةٌ و جدتَ العدل و الخلقَ الكريم ، و حيثما دُعيَ إلى صلاةٍ وجدتَ الإنسان ، و حيثما نظرت عن يمينك و شمالك ، وجدتَ جماعاتِ المؤمنين تمشي في مناكبِ الأرض ، هكذا حينما سكن قلبُ النّبيّ الإنسان في كلّ صدر ، فأعاد للحياة جمالها المسلوب ، و للوجوه ماءها المبذول ، و أنشأ القلوبَ _ بفضلِ الله و بالإيمان _ النشأةَ الأخرى.
قد كان هذا الكونُ قبلَ وجودنا روضاً و أزهاراً بغيرِ شميمِ
و الوردُ في الأكمامِ مجهولُ الشّذا لا يُرتجى وردٌ بغيرِ نسيمِ
بلْ كانت الأيامُ قبلَ وجودِنا ليلاً لظالمها و للمظلومِ
لمّا أطلّ محمدٌ زكتِ الرّبى و اخضرّ في البستانِ كلُّ هشيمِ
و أذاعتِ الفردوسُ مكنونَ الشّذا فإذا الورى في نضرةٍ و نعيمِ
إنّها العقيدة الكبرى التي صاغت النور متمثّلاً بأناسيّ يأكلونَ الطعام و يمشون في الأسواق ، وحوّلت مجرى الحياة من الدركات إلى الدّرجات ، و حوّلتْ وجه الإنسان عن السفاسف و الموبقات ، لتلبسه ثوب الهداية و التّقوى ، و تكسوه بكسوة العفاف و الخلق الكريم ، فيمشي على الأرض ، و روحه في السّماء ، داعياً إلى الله بإذنه ، عاملاً في سبيل الله كلّ وقته .
فكان من الأعراب الغلاظ الجفاة ، أمّة قائمةٌ بأمر الله تدعو إليه بالحكمة و الموعظة الحسنة ، تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تقيم الصّلاة لله رب العالمين .
و جعلتْ من الحفاة العراة ، أساتذةً في فنون الشّجاعة و الفداء ، فركبوا خيل الهدى ، و طرقوا أبواب فارس و الرّوم بالكتب الدّاعية إلى الله ، و بالسّيوف الضّاربة في سبيل الله ، فكانوا يقدمون نفوسهم قُرباتٍ على باب الرّضا ، و يحتسبون جراحاتهم صداق جنّةٍ عرضها كعرض السّماوات و الأرض ، فكانوا يطلبون الموتَ حتّى توهب لهم الحياة ، و كانوا يحبونه ، كما يحبّها عدوّهم .
من ذا الذي رفع السّيوفَ ليرفعَ اسـمكَ فوق هامات النّجوم منارا
كنّا جبالاً في الجبالِ و ربّما سرنا على هام البحار بحارا
بمعابدِ الإفرنجِ كان أذاننا قبل الكتائبِ يفتحُ الأمصارا
لم تنسَ أفريقيا و لا صحراؤها سجداتِنا و الأرضُ تقذفُ نارا
و كأنّ ظلّ السّيفِ ظلُّ حديقةٍ خضراء تنبتُ حولنا الأزهارا
من أمام هذه الصور المضيئة ، يتجه إقبال ليبثّ شكواه إلى الله ، و هو الذي يرى من أخطاء أمّته ما يرى ، فيعيش آلامها و آمالها ، و يدعو المسلمين لأن يقفوا من جديد صفاً واحداً في مواجهة الخطر الداهم ، و يهيب بهم _ و هم أهل الحضارة و حملة الرّسالة _ لأن يقدّموا للعالم مشروعاً حضاريّاً جديداً يحمل في طيّاته سموّ الرسالة و أمانتها .
و يرى إقبال أنّ هزيمة المسلمين اليوم هي سبب انهيار الحضارة و ضياع الأخلاق في هذا العالم ، و ما هزيمة المسلمين إلا انعكاساً لبعدهم عن تعاليم دينهم ، و انقطاعهم عن نبيّهم ، و تركهم لكتابهم العظيم ، و انقيادهم وراء الجديد المبتذل و الطّارئ الرّخيص .
فلم يعد شجو القرآن يوقظُ أسحارنا ، و لا دوّى أذانُ بلالٍ من جديد ، و القرآن الذي أحيا أمماً بأسرها ، لم يعد يُقرأ إلا على رؤوس الأموات ، و أهل الصّين يصنعون لنا ثياب الإحرام ، و على عظامنا تقوم الحضارات ، فنأكل ممّا يصنع غيرنا ، و نلبس مما ينسجون .
عاشوا بثروتنا و عشنا دونهم للموتِ بين الذّلّ و الإملاقِ
الدّين يحيا في سعادةِ أهلهِ و الكأس لا تبقى بغير السّاقي
*********
ماذا دهى الإسلامَ في أبنائهِ حتّى انطووا في محنةٍ و عذابِ
فثراؤهم فقرٌ و دولةُ مجدهم في الأرضِ نهبُ ثعالبٍ و ذئابِ
*********
قد هاج حزني أن أرى أعداءنا بين الطّلا و الظّلّ و الألحانِ
و نعالجُ الأنفاسَ نحنُ و نصطلي في الفقر حين القومُ في بستانِ
و لكن يرجعُ إقبال بعد كلّ هذا ليعلنَ يقينه أمام قوادم الإعصار ، و أنّه والقائمون بأمر الله مازالوا واقفين على عظام كبريائهم ، رأس مالهم ثقتهم بالله ، و سلاحهم حبّهم لله :
و العشقُ فيّاضٌ و أمّةُ أحمدٍ يتحفّزُ التّاريخُ لاستقبالها
و كيف لا ، و هي أمةُ اِقرأ ، التي علّمت الناس الخير ، و غذت الشّعوب بالبرّ ، و بنت أعلى حضارةٍ تأتمّ بها الحضارات .
و لن تموت أمّةٌ أوّل أمرها إسراءٌ و معراج ، و عدلٌ و إحسان ، و أول كلماتها شهادة (لا إله إلا الله ..... محمد رسول الله ) ، و إنّها مازالتْ :
أيّامُ سلمانٍ بنا موصولةٌ و تقى أويسٍ في أذانِ بلالِ
و لئن نامت الأزهار ، فمازالت البراعم عامرةً بعطرها ، و لئن تقطّعت الأوتار ، فمازال لحنٌ مؤمنٌ يسري في مسالك الأرواح ، و إن كانت الأطيار قد غادرت بستانها الزّاهر ، فمازال محمّد إقبال يصدحُ بأغنية الإيمان الخالدة في جماعات المؤمنين على مرّ الأزمان :
ما بالُ أغصانِ الصّنوبرِ قد نأتْ عنها قماريها بكلّ مكانِ
و تعرّت الأشجارُ من حللِ الرّبى و طيورها فرّتْ إلى الوديانِ
يا ربّ إلا بلبلاً لم ينتظرْ وحيَ الرّبيع و لا صَبا نيسانِ
يا ليت قومي يسمعون شكايةً هي في ضميري صرخةُ الوجدانِ
*) ماكتب بلونٍ أحمر فهو لمحمد إقبال رحمه الله