موقف شاعر ألمانيا الأكبر من النبي الكريم

موقف شاعر ألمانيا الأكبر يوهان فولفجانج جوته

من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

سعيد عبيد

[email protected]

إذا كان الشاعر الإيطالي الشهير دانتي ألليجيري (1256-1321) نموذجا لجناية التعصب الصليبي على الأدب، حيث اجترأ في "الكوميديا الإلهية" على تصوير النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في الجحيم، مدفوعا بإرث من الضغائن أذكاه موت جده في الحروب الصليبية، فإن شاعر ألمانيا الأكبر يوهان فولفجانج جوته Y.W.Geothe (1749-1832) كان على العكس من ذلك تماما، منصفا للإسلام ولنبيه العظيم، ومتيما بما يحمله الشرق من قيم إنسانية عظيمة جاءت لتخلص البشرية من عبادة المادة، وتسمو بها إلى أعلى مراقي الروح.

تستهل كاترينا مومزن، أستاذة الأدب الألماني بجامعة استانفورد بالولايات المتحدة الأمريكية الفصل الثاني من كتابها "جوته والعالم العربي" والخاص بـ"جوته والإسلام" بقولها:"إن علاقة جوته بالإسلام و بنبيه صلى الله عليه وسلم ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر" (ص:177) وقد كان ذلك كذلك فعلا، إذ اهتم جوته بالإسلام وبالقرآن الكريم وبسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم اهتماما بالغ العناية، ولعل ذلك راجع إلى اهتمامه الفطري بالأديان، ووقوفه في وجه النظرة المسيحية الصليبية التي سادت الفكر الغربي طيلة قرون، وانخراطه-في مقابل ذلك- ضمن مساعي عصره إبان القرن الثامن عشر، حيث سعت حركة التنوير –رافعة راية التسامح- إلى التعرف على الأديان الأخرى من غير المسيحية، ولا سيما أديان الشرق، علاوة على احتكاكه بكثير من معاصريه المنصفين للإسلام وفهمه، واطلاعه على أهم ما ألف عن الإسلام والشرق في عصره، وعلى رأسه الترجمة الألمانية للقرآن الكريم التي أنجزها ميجرلين (ديفيد فريديريش) عام 1771، وكانت له عليها ملاحظات وتصحيحات، و"المعجم التاريخي" لبيير بايل، و"المكتبة الشرقية"، لبارتيليمي داربيلو، و"الديانة المحمدية" للمستشرق الهولندي هارديان ريلاند، و "حياة محمد" الذي نشر بعد وفاة صاحبه هنري كونت بولنفيلييه، و"كنوز الشرق" "للمستشرق النمسوي يوسف فون هايمر... هذا الاطلاع الواسع على الاسلام عقيدة وشريعة وتاريخا وسيرا، سيكون مقدمة لحب عميق، واحترام وتوقير للإسلام والقرآن وشخصية النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، معبرا عن ذلك بوضوح وجلاء في جل أعماله: - مسرحية "جوتسن فون برليشينجين" (1772) – مسرحية "تراجيديا محمد" (1773) – الديوان الغربي الشرقي Westlisher Divan الذي دبج أولى قصائد عام 1814. –" تعليقات وأبحاث تعين على فهم الديوان الشرقي" – سيرته "شعر وحقيقة"...

إن المتجول بين رياض هذه الملاحم الشعرية الغناء، لا يكاد يمر بحديقة منها ولا بحيرة ولا بستان، إلا وهو يجد ثمة عطرا خالصا من المحبة التي يكنها جوته لمحمد صلى الله عليه وسلم وللإسلام، مما دفع بعض الباحثين إلى الادعاء بأنه قد أسلم، أليس هو يقول :

إذا الإسلام كان معناه أن لله التسليم

فعلى الإسلام نحيى ونموت نحن أجمعين

في الأسطر الآتيات سنحاول رصد أهم المظاهر التي تجلى من خلالها موقف جوته من المبعوث رحمة للعالمين، محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين:

 

 

* اهتمامه بالنبي صلى الله عليه وسلم طيلة مراحل عمره:

من بين بواكير جوته الشعرية قصيدة يشيد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم نظمها وهو ابن 23 ربيعا، وحين بلغ خريف العمر وهو ابن السبعين أعلن على الملإ أنه يعتزم أن يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي (ليلة القدر)، وبين هاتين المرحلتين – تقول كاتارينا مومزن – امتدت حياة طويلة أعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق عن احترامه وإجلاله للإسلام ولرسوله الكريم. وهنا لابد من الوقوف قليلا عند مرحلة مر بها الشاعر في شبابه المبكر،مرحلة كان يحس فيها بالمنافسة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الإحساس الذي وصفه عبد الغفار مكاوي بالجريء الطائش، فسر على أنه انعكاس للفترة التي امن فيها جوته بعبقريته وبأنه صاحب رسالة شعرية وإنسانية يبلغها للناس، لذا قارن نفسه ببروميثيوس سارق النار، وخطط لمسرحيات شعرية كبرى عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسكندر الأكبر وقيصر وغيرهم.....

* إعجابه بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:

هذا الإعجاب تطفح به كثير مما خطت يمين شاعرنا الكبير، ولكننا سنقتصر هنا على إشادته بالنبي صلى الله عليه وسلم إذ رفع مبدأ التوحيد عاليا، وجاهد في سبيل ذلك مضحيا تضحية رائعة؛ يستهل الشاعر مسرحيته الشعرية "تراجيديا محمد" بمنظر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقف تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم قائلا:

ليس بمقدوري أن أفضي إليكم بهذا الإحساس

ليس في مقدوري أن أشعركم بهذا الشعور

من يصيخ السمع لضراعتي؟

من ينظر للعين المبتهلة؟

وبعد ذلك يدخل في تناص مع قصة إبراهيم عليه السلام في بحثه عن خالق هذا الكون العظيم الجدير بالعبادة بين النجوم والأقمار، إلى أن يصل إلى حقيقة التوحيد الناصعة قائلا:

ارتفع أيها القلب العامر بالحب إلى خالقك

كن أنت مولاي، كن إلهي أنت يا من تحب الخلق أجمعين

يا من خلقتني وخلقت الشمس والقمر

والنجوم والأرض والسماء

كما يعبر جوته عن إعجابه الشديد بصفة "الأمية" في شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم، معتبرا إياها معجزة ناطقة، يقول:

وأود أن أتعلّم

كيف كانت الكلمة هناك

ذات شأن كبير

لا لشيء، إلا لأنها كلمة فاهت بها الشفاه

* ثناؤه عليه صلى الله عليه وسلم:

تقول مومزن: "تضمنت"تراجيديا محمد" ثناء ومديحا عظيمين لم يسبق لأي شاعر ألماني في أي عصر من العصور أن قدمها لنبي الإسلام". ومن بين قصائد المسرحية قصيدة تحت عنوان "نشيد محمد"، عبر في جوته الشاب عن مدى الولاء الذي كان يكنه لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث تصوره القصيدة -بصفته هاديا للبشر- في صورة نهر بدأ يتدفق رقيقا هادئا، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد، فيتحول في عنفوانه إلى سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة، وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفها الظاهر الرائع لتصب أخيرا في بحر المحيط، بحر الألوهية العظيم، وذلك في شكل حوار بين علي وفاطمة رضي الله عنهما يبدأ كالتالي:

-  علي: انظروا إلى السيل العارم القوي

قد انحدر من الجبل الشامخ العلي

أبلج متألقا كأنه الكوكب الدري

-  فاطمة: جارفا في طريقه الحصى المجزع

والغثاء الأحوى

والحوار يطول، إلى أن ينتهي بقول علي وفاطمة كليهما في صوت واحد:

خذنا معك

خذنا معك

وقد لا أتعسف التأويل إذ ادعيت أن هذا النداء الأخير يعبر عن طموح جوته المختفي في أعماق نفسه.

* حبه للنبي : صلى الله عليه وسلم يقول جوته في سيرته "شعر وحقيقة" عن مسرحيته المذكورة آنفا "تراجيديا محمد" : "تبدأ المسرحية بترنيمة يترنم بها محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أحاطت به سماء الليل الصافية... وكنت قد نظمت هذه المناجاة بحب شديد، غير أنها ضاعت مني، ومع ذلك فما زلت قادرا على نظمها من جديد لتكون أنشودة غنائية صالحة للتلحين". ونشير هنا إلى أن هناك فاصلا زمنيا مقداره أربعة عقود بين المسرحية المذكورة- وكانت قد ضاعت منه ولم يُعثر عليها إلا بعد موته- وبين سيرته"شعر وحقيقة"، ومع ذلك لازال يتذكر تفاصيلها أولا بأول، إنه التمثل العميق لما اشتملت عليه من المعاني والقيم والصور، والصدق الفني والعاطفي الدال على حب عميق مؤثل.

وفي هذا الباب يدخل كذلك ما ورد عن جوته من أنه كان يدون بخط يده آيات كريمات تشير صراحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض مؤلفاته، من مثل قوله تعالى : ]وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل[ وقوله: ]إنما أنت منذر ولكل قوم هاد[، علاوة على اهتمامه الشديد بآية الأمية من سورة العنكبوت ]وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون[. بل أنه يضمّن شعره الآية التي تلي هذه الآية الأخيرة في نفس السورة، وهي قوله تعالى:]وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه، قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين[، فيقول:

لست قادرا على تحقيق المعجزات

هكذا قال النبي

إن أعظم معجزة هي أنني موجود

* رغبته في الاقتداء به صلى الله عليه وسلم:

في القصيدة الرائعة التي استهل بها ديوانه الشرقي عامة، ومقطوعة "كتاب المغنّي" خاصة، والتي عنوانها "هجرة"، يعرب جوته عن رغبته في أن يهاجر كما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عام 622 م. ففي المقطع الأول من هذه القصيدة يهاجر ذلك المغني (الذي ليس في حقيقة أمره سوى الشاعر نفسه) إلى "الشرق الطاهر الصافي" – على حد تعبيره- لكي يستروح نسيم الآباء الأولين:

إلى هناك

حيث الطهر والحق والصفاء

أود أن أقود الأجناس البشرية

وأنفذ بها في أعماق الأصل السحيق

حيث كانت تتلقى من لدن الرب

وحي السماء بلغة الأرض

* مباركته أعمال النبي صلى الله عليه وسلم :

في قصيدة "حيوانات محظوظة" يرى أن بعض الحيوانات سعيدة الحظ ستدخل الجنة، ومنها حمار المسيح عليه السلام، وكلب أهل الكهف، وناقة محمد صلى الله عليه وسلم، وقطة أبي هريرة(ض)، لا لشيء إلا لأن النبي الكريم قد مسح بلطف على رأسها كما يروي ذلك المخيال الشعبي :

وها هي ذي هرة أبي هريرة

تموء حول سيدها وتلاطفه :

إذ سيبقى حيوانا مقدسا على الدوام

ذلك الذي مسح عليه النبي عليه السلام.

* دفاعه عنه صلى الله عليه وسلم :

من بين ما قرأ جوته عن النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أولسنر Olsner عن السيرة النبوية، فنظم قصيدة تحت عنوان "تحدي الأنبياء" تستلهم فقرات من ذاك الكتاب عن المضايقات التي عاناها الرسول الكريم من لدن مشركي قريش، وتتمثل معنى الآية الكريمة : ]من كان يظن ألن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ[ (الحج/15) وقد ظن جوته- ربما نتيجة الترجمة- أنها حديث، فقال:

النبي يقول:

إذا اغتاظ أحد من أن الله قد شاء

أن ينعم على محمد بالرعاية والهناء

فليثبت حبلا غليظا بأقوى عارضة في قاعة بيته

وليربط نفسه فيه

فسوف يحمله ويكفيه

ويشعر بأن غيظه قد ذهب ولن يعود.

وفي هذه القطعة لمز من طرف خفي لكل حقود لازال عمى الصليبية على عينيه غشاوة وفي قلبه ران.

* تبجيله آل الرسول وصحبه رضي الله عنهم:

جاء في قصيدة "نساء مصطفيات" تفضيل لأربع نساء من نساء العالمين : زليخا زوجة العزيز، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول بعد أن ذكر الأوليين:

... وزوجة محمد التي أفاضت عليه الحنان

وأعانته على تحقيق أروع الأمجاد

وبعدهن تأتي فاطمة الزهراء

الابنة الطاهرة والزوجة المصون

ذات الروح النقية كملائكة السماء

أما في قصيدة "رجال مؤهلون"، فإنه يقر عظمة الصحابة (ض)، وأنهم أهل لأعلى عليين :

محمد يتكلم:

ليندب الأعداء قتلاهم، فإنهم من الهالكين

أما الشهداء من إخواننا

فلا تندبوهم

فإنهم أحياء في أعلى عليين

وهم أولاء يقرعون أبواب الجنة

يدخلونها بسلام آمنين.

قبل ختام هذا المقال، وللأمانة العلمية، نشير إلى أن في حياة جوته الأدبية حدثا لا ينسجم مع ما رأيناه من إجلال وإكبار وثناء وحب للرسول صلى الله عليه وسلم في كل أعماله الأدبية، إنه حدث ترجمته لمسرحية "محمد" لفولتير
(1694-1778) من الفرنسية إلى الألمانية، ومعلوم أن هذه المسرحية الكريهة كلها نيل منه
صلى الله عليه وسلم وافتراء عليه واجتراء على الحقيقة التاريخية الناصعة. وإذا كانت كاترينا مومزن قد ذهبت إلى أن عمل جوته لم يكن يتعدى الترجمة المحضة قائلة: "إذا كان جوته قد قام بنقل هذه المسرحية فهذا لا يعني أنه كان موافقا على كل ما ورد فيها من مغالطات تاريخية سمجة"، فإن عبد الغفار مكاوي يتتبع أصل الترجمة ليكتشف-من خلال أحاديث جوته ومذكراته المختلفة- أنه إنما فعل ذلك نزولا عند رغبة راعيه أمير فيمار كارل أوجست، لتعرض المسرحية بعد ذلك عام 1800 بمناسبة عيد ميلاد أم الأمير الدوقة لويزة، ثم يعقب على ذلك بقوله: "ولا شك أنه خطأ بذلك خطأ لا يغتفر في حق نفسه كشاعر وإنسان كبير، وفي حق تدينه العميق وإيمانه الراسخ المتسامح". ومع ذلك، فإن هذه الترجمة لم تكن إلا نشازا بالنظر إلى الجو العام الذي كان جوته ينسج فيه قصائده، ويدبج فيه مسرحياته الشعرية التي تعبق بكل معنى سام جليل من معاني الحب والإجلال للرجل الذي ملأ عليه-بما حمله من خصال وقيم رفيعة- حياته من أقطارها: محمد صلى الله عليه وسلم.

              

المراجع

-    جوته والعالم العربي-كاتارينا مومزن- ت. عدنان عباس علي-عالم المعرفة ع: 194-المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب-الكويت ط1: فبراير/شباط.1995.

-    النور والفراشة –د. عبد الغفار مكاوي –سلسلة اقرأ- دار المعارف –القاهرة- ط1: 1989.

-    التصورات الأوربية للإسلام في العصور الوسطى. د. رشا حمود الصباح –عالم الفكر م:11 ع:3. وزارة الإعلام الكويت . أكتوبر 1980.