ولد
عاش في خالي الزمان رجل مسن وزوجة مسنة ، ولم يكن لهما أولاد ، فتعمق إحساسهما بالوحدة . وفي يوم صاغ الزوج قطعة خشب صياغة معينة ، ولفتها زوجته بقماشة ، وهزتها مثل مولود جديد وناغتها : " أغمض عينيك الحلوتين يا تريوشا ! نم يا طفلي الحبيب ! كل الأسماك ، وكل الدجات ، وكل الأرانب البرية والثعالب ذهبت إلى الغابة . نم يا طفلي الحبيب ، نم ! " . ورويدا رويدا أخذت قطعة الخشب التي سمياها تريوشا تنمو طفلا حقيقيا ما لبث أن صار فتى عفي البنية حاذقا ، فصنع له المسن زورقا صبغه باللون الأبيض ، وزوده بمجدافين صبغهما باللون الأحمر . وركب تريوشا في الزورق وقال : افعل يا زورقي الأبيض ما آمرك ، وخذني إلى المكان الذي يكثر فيه السمك !
فطاوعه الزورق الصغير وحمله بعيدا في النهر . وصار يذهب يوميا للصيد . واعتادت أمه أن تحضر إليه غداءه عند الظهيرة ، فتقف على ضفة النهر وتغني : " تعال إلى غدائك يا تريوشا ! معي لك حليب ولبن رائب وخبز وعسل " ، ويسمع تريوشا صوت أمه من بعيد فيجدف عائدا إلى الضفة ، وتأخذ أمه ما صاد من سمك وتسلمه غداءه ، وتغير قميصه وحزامه ، ويعود ثانية إلى النهر . ورأت الساحرة وسمعت كل ما حدث ، فجاءت يوما إلى ضفة النهر ونادت بصوتها القبيح : " تعال إلى غدائك يا تريوشا ! معي لك حليب ولبن رائب وخبز وعسل " . وفطن تريوشا في الحال إلى أن الصوت ليس صوت أمه ، فحث زورقه الصغير الأبيض على الابتعاد إلى أقصى مدى مستطاع في عمق النهر . وأسرعت الساحرة إلى الحداد وطلبت منه إعادة تكوين حنجرتها حتى يبدو صوتها في رقة ونعومة صوت أم تريوشا ، وفعل الحداد أقصى ما في قدرته وبراعته استجابة لرغبتها ، فقصدت الضفة ثانية ونادت : " تعال إلى غدائك يا تريوشا !
معي لك حليب ولبن رائب وخبز وعسل " . وظن تريوشا أن أمه هي التي تناديه لكمال التشابه بين صوت الساحرة وصوت أمه ، فجدف قاصدا الضفة . وسارعت الساحرة بطعنه بخنجرها ، ودسته في حقيبتها وحملته إلى كوخها في الغابة. وهناك أمرت ابنتها أليونكا بإضرام نار الفرن وشي تريوشكا لتتعشيا به ، ومضت هي لفعل مزيد من الشرور . وأوقدت أليونكا الفرن حتى اشتدت حرارته أيما اشتداد ، وأمرت تريوشكا بالاستلقاء على المجرفة إلا أنه قعد فوقها بدلا من الاستلقاء ، وفرد ذراعيه وساقيه حتى تعجز أليونكا عن حشوه في جوف الفرن . فصرخت فيه : أنا قلت لك استلقِ !
فأجابها : لا أعرف كيف أستلقي ، وضحي لي !
فردت : ارقد رقود القطط والكلاب وقتما تنام ! هكذا !
_ وضحي كيف !
فاستلقت على المجرفة ، فسارع بدفعها في الفرن وإيصاد بابه عليها ، وعدا خارجا وارتقى ذؤابة سنديانة ؛ لأنه لمح الساحرة راجعة إلى البيت .
وفتحت الساحرة باب الفرن ، والتهمت أليونكا حتى عرَقت عظمها . وبعد شبعها خرجت وشرعت تتدحرج فوق العشب مترنمة : " سأتدحرج كسلى فوق العشب بعد أكل تريوشا . أنا بشمة وحالي عجب " ، فجاوبها تريوشا من ذؤابة السنديانة : " أنت بشمة بعد ما أكلت أليونكا " ، فخالت ما سمعت حفيف ورق السنديانة في نسيم الريح ، وتابعت غناءها السابق ، وجاوبها تريوشا بنفس غنائه ، فنظرت صوب العالي ولمحته في السنديانة ، فانقضت عليها ، ووالت عضها حتى هشمت سنيها الأماميتين ، فهرولت إلى الحداد وقالت : اصنع لي سني حديد حالا !
فصنع لها ما ابتغت ، وعادت تحاول قطع الشجرة ، فعضتها وعضتها حتى كسرت سنين من فكها السفلي ، فأسرعت ثانية إلى الحداد ، وطلبت صنع سني حديد من جديد ، فصنع لها ما طلبت ، وعادت تهاجم الشجرة أعنف من ذي قبل حتى بدأت كسرها تتناثر يمنة ويسرة ، وبدت على شفا الوقوع . ماذا يفعل تريوشا ؟! فجأة لمح رف إوز في الجو ، فتضرع إليه : أيها الرفاق البررة ! أيتها الإوزات المحبوبات ! خذنني إلى أمي ! رجاء !
فأجابته الإوزات قائلات : قادمة وراءنا إوزة فتية ، ستأخذك إلى أمك .
كانت الساحرة وقتئذ توشك أن توقع الشجرة . ووصلت الإوزة الفتية ، فتضرع إليها تريوشا : أنت أبر الإوزات ، خذيني إلى أمي ! رجاء !
فرقت له ، وحطت ، فتسنمها ، وحملته إلى أمه . بلغا الكوخ ، وحطا فوق العشب تحت نافذته . وكانت أمه صنعت فطائر محلاة تذكارا له ، وقدمت إحداها إلى زوجها قائلة : هذه لك ، وهذه لي .
فسأل تريوشا من موضعه : ماذا عني ؟!
وسمعته فقالت لزوجها : اخرج وانظر من يطلب فطيرة !
فخرج ورأى تريوشا ، وأحضره إليها ، فأشبعته تقبيلا واعتناقا دون أن تشبع هي . وقدموا للإوزة طعاما وماء ، وأرسلوها تحيا حرة في ساحة البيت حتى غدت طيرا كبيرا قويا ، وهي الآن رائدة رفوف الإوز تخفق بجناحيها الكبيرين ولا تنسى تريوشا .
*من القصص الشعبي الروسي .
*عن النص الإنجليزي .
وسوم: العدد 644