حوار مع الأستاذ فاروق رسول يحيى
حوار مع الأستاذ فاروق رسول يحيى
مترجم كليات رسائل النور إلى اللغة الكردية
الاستاذ فاروق رسول يحيى في سطور :
- من مواليد 1955م في قصبة بنجوين – محافظة السليمانية – العراق.
- واصل دراسته، رغم ما تعرضت له منطقته من تخريب للبلاد وتشريد للعباد مراراً.. فتخرج في ثانوية الدراسات الإسلامية سنة 1976م، ومن جامعة بغداد – كلية الشريعة سنة 1980م.
- عمل في حقل التدريس منذ عام 1981م وإلى الآن في كثير من المدارس الثانوية في محافظته. كما عمل محاضراً لمدة أربع سنوات في معهد كردستان لإعداد الأئمة والخطباء (كلية كردستان حالياً) في مواد البلاغة والعقيدة وأصول الخطابة.
- عضو مؤسس وعضو الهيئة العليا لـ (مركز كردستان للإعجاز العلمي في القرآن والسنة).
- شارك في العيد من المؤتمرات الدولية حول فكر بديع الزمان سعيد النورسي .
- ترجم مائة وخمس عشرة رسالة من كليات رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي الى اللغة الكردية .
حاوره (مجلة الإيمان) الصادرة باربيل حول ترجمته رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي :
س: منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وإلى الآن إنتشرتْ ترجماتكم الكردية لرسائل النور، فكيف تمت معرفتك بالأستاذ النورسي؟ ومتى بدأت صلتك برسائله (رسائل النور)؟.
ج: قبل ذلك التأريخ وتحديداً في صيف عام 1972م وقعت عيناي لأول مرة على إسم الأستاذ النورسي رحمه الله في كتيب صغير عقب الإستشهاد بأحد أقواله، فأعجبني كلامه. لذلك إستفسرت عنه، فقيل لي بإقتضاب: إنه من أفضل العلماء المجددين في هذا العصر، ولد وعاش القسم الأول من حياته في وطنه الأم كردستان تركية خادماً للعلم والدين، إلى أن نفته السلطة إلى المناطق التي تقطنها الأتراك في البلاد، فعاش بقية حياته في المنافي بين جدران السجون وتحت المراقبات والمضايقات وفي أروقة المحاكم مجاهداً ومضحياً بحياته في سبيل الله، واقفاً كالأسد الصهور بوجه أعتى حملة شرسة على الإسلام في هذا العصر، إنتصاراً للقرآن وخدمةً للإيمان.
وفي ربيع سنة 1973م قرأت موجزاً عن حياته مكتوباً بقلم الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي منشوراً في عددين من مجلة (حضارة الإسلام) الدمشقية، تعرفت من خلال هذا الموجز على جوانب عديدة من نبوغ الأستاذ النورسي.
وفي العراق وفق الله سبحانه وتعالى الأستاذ إحسان قاسم الصالحي لترجمة كليات رسائل النور من التركية إلى اللغة العربية، فقامت مجلة (التربية الإسلامية) البغدادية أول الأمر بنشر مقاطع من هذه المترجمات على صفحاتها بدءاً من عام 1979م. وفي هذه الفترة بالذات بدأتْ معرفتي بالأستاذ إحسان، فآزدادت صلتي، عن طريقه، برسائل النور عمقاً ورسوخاً، ثم كان لي شرف المساهمة في هذه الخدمة السامية منذ ذلك الحين.
س: كان لمجلة التربية الإسلامية العراقية ولصاحبها الأستاذ عبد الوهاب السامرائي رحمه الله أثر في إبراز رسائل النور، هل من كلمة لهذه المجلة؟ وما أثر الإعلام في إيصال الحق والنور للمشاهدين والقراء؟.
ج: لا تُذكَرُ مجلة (التربية الإسلامية) البغدادية إلا ويحضرُ في الذهن مديرها ورئيسُ تحريرها الأستاذ عبد الوهاب السامرائي، عليه رحمة الله، ويتمثل أمام المرء محياه الوقور وإبتسامته الطيبة وهدوءه المعهود. فلقد كان بحق تذكاراً حياً لأستاذه الجليل الشيخ أمجد الزهاوي – رحمه الله – ونموذجاً مجسداً لمن رباهم مفتي العراقَيْنِ على طراز السلف الصالح. كما كانت إدارته لمجلة التربية الإسلامية عملاً مميزاً بل مؤيداً من الله سبحانه وتعالى بما أخلص له النية في القول والعمل، إذ قد حافظ على إستقلالية المجلة وصفائها، وخاصة في تلك السنوات العجاف التي أتت على العراق. ولا يخفى الدور الرائد للمجلة المذكورة في تعريف قراء العربية برسائل النور سواء في العراق أو في البلاد التي كانت تصلها أعداد المجلة. فجزى الله القائمين عليها كل خير.
والإعلام الحق هو الذي يمكنه إيصال الحق صافياً دون شوائب.
س: كيف تنظر إلى ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي؟ وهل سمعت أن هناك ترجمة أخرى للرسائل؟ وما رأيك في ترجمة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي؟.
ج: أقدم ترجمة لآثار النورسي إلى العربية بدأت في حياة المؤلف، بل النورسي نفسُه هو أولُ مترجمٍ لها! إذ ترجمَ كُلاً من (المحاكمات) و (المناظرات) إلى العربية.
ويأتي بعده شقيقه الأستاذ عبد المجيد النورسي رحمه الله، فقد ترجم قسماً من الرسائل في ذلك الوقت، ونُشرت مترجَماتُه في حياة المؤلف.
أما الأستاذ البوطي فتأتي ترجمته أفضل مما سبق، ولكنها كانت ترجمة مختصرة لبعض الرسائل، ثم إنقطع عنها.
وهناك ترجمة أخرى قام بها "الشيخ محمد زاهد الملاذكردي" رحمه الله، ونشر قسماً منها في حياته. ويلاحظ القاريء عليها أنها ترجمةٌ دقيقة جداً، لكنها نصّية حرفيّة أقرب إلى التعابير العربية القديمة منها إلى الحديثة. ويُذكَر أنه ترجم الرسائل أيضاً إلى اللغة الكردية الكرمانجية، لكن تلك الترجمة ظلت مخطوطة لحد الآن.
أما ترجمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي فتأتي أفضل منها جميعاً؛ فهي ترجمة على حد تعبير الأستاذ البوطي: "تُرضي التركَ وتُطرِبُ العرب"!
وقد رأيت عدداً من الرسائل مطبوعة طبعة راقية، زُعم لها أنها تُرجمت من قبل لجنة مشتركة، فلم أجد فيها ما يميزها عن ترجمة الأستاذ الصالحي إلا إضافةَ كلمات أو حذفَها أو إستبدالَها بما يرادفها. ولو أنَّ القائمين على ذلك العمل إستأذنوا الأستاذ الصالحي في تشكيل لجنة مراجعة وتدقيق لهذا العمل الضخم الذي أعطاها حياتَه فسهّل به عليهم أمر ما أسموه ترجمةً لتلك الرسائل، لوجدوه يستقبل ما إقترحوا عليه بصدر رحب وخُلق كريم. وما إخالُ الأستاذَ الصالحي يمانعُ من أي عمل إيجابي يخدم الرسائل.. فهذا عهدنا به؛ إذ ما من إمريء يتوسمُ فيه الأهليةَ لمراجعة ترجماته وإبداء آرائه فيها، ممن يقابلهم، إلاّ ويتمنى بل يطلب منه إبداء ملاحظاته عليها، ليشاركَه هذا الخير الذي أجراه الله على يديه وليقتربَ عملُه خطوةً أخرى من الكمال المقدر له.
س: كيف ومتى بدأ مشروع الترجمة إلى اللغة الكردية؟ وهل واجهتك معوقات في هذا المشروع؟
ج: من البداهة بمكان أن اللغة الكردية هي ثانية أكبر لغة في العراق، وهي لغة رسمية تدرس بها المواد الدراسية للمراحل الإبتدائية والثانوية في مدارس كردستان. والقاريء الكردي الذي تأتي معرفته باللغة العربية بالدرجة الثانية، يفضل القراءة بلغته الأم وبعدها باللغات الأخرى. فآنطلاقاً من هذه الحقيقة فكرنا في ترجمة الرسائل إلى الكردية، وكانت البداية أن قمت بترجمة بعض المقالات الصغيرة في عامي 1980 و 1981م، ثم أقدمت على ترجمة رسالة كاملة من رسائل النور إلى اللغة الكردية في عام 1982م وهي رسالة (المرضى- بيماران) فآطّلع عليها بعض الملمّين باللغات الثلاث لغرض المقارنة والتقويم، فكانت النتيجة أن إستحسنوا ترجمتنا وشجعونا على الإستمرار، لذلك طبعنا الرسالة المذكورة عام 1984م، وبعدها توالت الترجمات بفضل الله وتوفيقه إلى الآن.
وفيما يخص المعوقات، لا ريب أن أي عمل من هذا النوع له مشاكله الخاصة به؛ منها مشاكل الترجمة من لغة ثانية إلى لغة ثالثة.. ومنها مشكلة التعامل مع المصطلحات المتداولة خاصة في رسائل النور التي قد لا توجد لها نظائر في اللغات الأخرى.. ومنها مشاكلُ الترجمةِ نفسِها كعمل فني وعلمي ، في الوقت نفسه يجب توخي الدقة فيه ويلزم المحافظةُ قدرَ الإمكان على روح النص الأصلي نابضة بالحياة كما لو كان المؤلف نفسُه صاغ كتابَه بتلك اللغة، ومراعاةُ خصائصِ كلٍّ من اللغتين… الخ. والترجماتُ تتفاوتُ فيما بينها وترتقي إحداها في سلّم الإستحسان بالنسبة إلى أخرى كلما روعيت فيها هذه الأمور وآتصفت بمزيد من تلك الصفات.
س: وكيف واجهتم تلك المشاكل؟
ج: حاولنا مواجهتها بآتباع الخطوات الآتية:
1 –إتخاذ "الترجمة بالمعنى" أساساً في عملنا، وذلك بتفهم الأفكار والمعاني التي يحتوي عليها النص وإستيعابها أولاً، ثم صياغتها مرة أخرى باللغة الكردية، متجنباً قدر المستطاع الترجمة الحرفية التي هي في الغالب ترجمة الجمل والعبارات واحدة بعد أخرى.
2 – وبما أن "الكلمة" في النص الأصلي – وكذا العبارة - لها قيمتها في إعطاء الفكرة ولها إيحاءاتُها الخاصة، حاولنا ألاّ نغفلَ دورَها في فهمنا للأفكار. فآستعنّا أثناء الترجمة من العربية بالأصل التركي الذي لنا إلمامة به، ومما سهّل علينا الأمر أن اللغة التي كَتبَ بها الأستاذ النورسي معظم رسائله هي التركية العثمانية التي تختلف عن التركية الحديثة بعض الشيء؛ فهي مزيج من كلمات اللغات التي نعرفها: العربية والفارسية بل والكردية أيضاً، إضافة إلى التركية نفسها.
بل وأذهب إلى أبعد من هذا لتعرف مدى تطابق الترجمة الكردية – بفضل الله - مع المعاني المقصودة للمؤلف. وهو أن الأستاذ النورسي رحمه الله يذكر في أحد آثاره القديمة أن: (لغة الأم - لكونها فطرية - تنساب معانيها إلى الذهن دون إستدعاء). ويقول في رسالة أخرى معتذراً عما قد يبدو للقاريء التركي أو العربي من عدم إنتظام الروابط في آثاره من الناحية اللغوية بقوله: (إني أتصور كردياً ثم أتكلم عربياً أو تركياً، فيقعد في مطبعة الخيال مترجم أعجمي). فطريقة التصور وصياغة المفاهيم في رسائل النور هي في الأساس باللغة الأم لمؤلفها والتي تنساب فطرياً، وبعد ذلك يأتي دور ترجمة المعاني وصياغة العبارات بالتركية أو العربية من قبل المؤلف. بمعنى أن تواردَ المعاني وطريقةَ تصورِ المفاهيم في آثار الأستاذ النورسي ليست غريبة عنا كلياً، وإنما حاولنا إعادة الصياغة لمفاهيم الرسائل كما لو كان المؤلف كتبها بلغته! هذا ما جهدنا في مراعاته والمحافظة عليه أثناء الترجمة. أما هل بلغنا في عملنا هذا ما نتمناه؟ فالحكمُ فيه متروك لغيرنا ممن يقفون على هذه الأسس ولهم معرفة بتلك اللغات وخبرة بالترجمات، ويشهد لهم غيرهم بالموضوعية والإنصاف.
ولا يحملنَّك كلامي هذا على الظن بأني مزهوٌّ بعملي لا أرى فيه نقصاً.. كلا. إنما المقصودُ ألاّ يخالجَ القاريءَ الكرديَّ شكٌّ في مصداقية الترجمة متعللاً بكونها جاءت من لغة أخرى غير اللغة الأصلية. وإلاّ فنحن – ولله الحمد – نعلمُ سلفاً قصورَنا وعجزَنا، وندركُ يقيناً بل نرى عياناً أن الجوانب الإيجابية في هذه المترجمات إن هي إلاّ محضُ فضلٍ من الله سبحانه، وأن الجوانب السلبية فيها نابعةٌ قطعاً من أنفسنا الأمارة بالسوء. وهذا ما لقنتنا إياه رسائل النور درساً من الآية الكريمة:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } (النساء: ٧٩ ).
وأما مشكلة المصطلحات، فقد عثرنا لبعضها على ما يقابلها في اللغة الكردية، ومنها ما وجدنا لها ما يشبه مدلولها اللغوي، فنقلناها إلى المعنى الإصطلاحي، ومنها ما أبقيناها كما هي، ومنها ما نَحَتْنا لها ما يناظرُها! ومما يوجب علينا الشكرَ لله تعالى أن العديد من هذه المصطلحات قد أصبحتْ تتداولُ فيما بعد في الكتابات الكردية بنفس المفاهيم، فتأصّلتْ وستتأصلُ في قابل الأيام أكثر من ذلك بإذنه تعالى.
3 – وبعد إتمام الترجمة والتنقيح والتهذيب، يأتي أخيراً دور المقارنة والمقابلة بين النصوص، فيضطلع أخي وصديقي الأستاذ حسين حسن كريم المدرس المساعد بجامعة السليمانية بمهمة المقابلة بين الترجمة الكردية والنص العربي، إضافة إلى اهتمامه بصياغة العبارات من الناحية اللغوية. وكذلك يقوم الأخ المفضال عبد الكريم عبدالله رفعت وإخوة آخرون بمقابلتها مع النص التركي. فيرشدنُا كلٌّ منهم إلى أي خلل أو فهم خاطيء قد يحدث في الترجمة لم ننتبه له إبتداءً .
وبآتباع الخطوات المذكورة، قبل الطبع والنشر، نكون قد بذلنا ما في الوسع من الدقة في حمل الأمانة ونقلها للقاريء الكريم.
وبعد نشر المترجمات أكدنا مراراً ونؤكد تكراراً على القراء في أكثر من مناسبة – وهذه المقابلة إحداها – ألاّ يضنوا علينا بملاحظاتهم السديدة وأن يرشدونا إلى أي هفوة أو زلة مرت علينا،لم نشعر بها. وها قد مضى ربع قرن من الزمن على البدأ بنشر هذه المترجمات، ولم تصل إلينا من ملاحظات القراء طيلة هذه الفترة – رغم الإنتشار الكثير للرسائل والتي أربت على عشرات الألوف من النسخ ورغم تزايد قرائها - إلا بعض الإقتراحات القليلة بإدخال تعديلات طفيفة على بعض الجمل وإستبدال كلمات قلائل بأخرى مرادفة لها، لما في تلك الكلمات المقترحة من جمال لغوي أو إيحاء معنوي. فنشكر لهم جميل صنيعهم، ونشجعهم على المزيد.
س: أين وصلتم في ترجمة الرسائل؟ وهل بقيتْ من المترجمات ما لم تُنشَر؟ بل مِن الرسائل ما لم تُترجم بعدُ؟.
ج: الآثار التي تركها الأستاذ النورسي تربو على مائة وثلاثين رسالة، وقد منَّ اللهُ علينا بترجمة مائة وخمس عشرة رسالة منها لحد الآن. وإننا ماضون بعون الله تعالى في الترجمة جنباً إلى جنب مع القيام بنشر أي كتاب يكون جاهزاً للطبع.
أما عدد الرسائل المنشورة منذ الثمانينيات فهي كما يلي:
أولاً: نشرنا بفضل الله تعالى على صورة رسائل صغيرة أو كتب متوسطة الحجم ستاً وعشرين كتاباً وعنواناً حَوَتْ بمجموعها خمساً وأربعين رسالةً من رسائل النور.
ثانياً: أما المجلدات الكبيرة، فقد نشرنا بتوفيق الله سبحانه إلى الآن خمس مجموعات باللغة الكردية، وهي:
1 – وتة كان – الكلمات.
2 – مة كتووبات – المكتوبات.
3 – بريسكة كان – اللمعات.
4 – تيشكة كان – الشعاعات.
5 –ئاشبه ندة كان – الملاحق.
ونحن نواصل العمل في إعداد المجلدات الأخرى: (آثار سعيد القديم، المثنوي النوري، إشارات الإعجاز، السيرة الذاتية). فنسأل الله تعالى التوفيق والقبول، ونرجو من القراء النصح والدعاء.
س: علمنا أن الإمام النورسي سمع أو قرأ مقولة لوزير المستعمرات البريطاني: "غلادستون" ذكر فيها وهو يخاطب النواب وبيده نسخة من القرآن الكريم ما معناه: "ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن يقر لنا قرار في بلادهم"! وقد زلزل هذا الخبر كيانه، وأقض مضجعه، وتوجه إلى الدعوة للقرآن الكريم.. فماذا كان النورسي يعمل لو كان حياً ورأى بعض حملة الأقلام وموجهي الفضائيات ومواقع الشبكة المعلوماتية يحاولون الطعن في القرآن الكريم وفي حياة من أنزل عليه؟ وماذا كانت وسيلة مواجهته المعاصرة لتثبيت الحق المذكور في القرآن الكريم في الواقع والمكان؟.
ج: إنَّ محاولة الطعن في القرآن الكريم والإساءة إلى شخص مُبلِّغه– عليه الصلاة والسلام – من لدن أعدائه، ليست أمراً جديداً، بل هي قديمةٌ صاحَبَتْ نزولَ القرآن وإعلانَ الدعوة إليه منذ بزوغِ فجر الإسلام، ولم تقف لحظة من الزمن إلى يومنا هذا.
وإنما الجديد في أمر هذا الصراع في العصور الأخيرة ولاسيما في عصرنا الراهن هو تغيرُ الأساليب، وتحوّلُ إستراتيجيات الأعداء من أعمالٍ فردية مُبعثَرة أو محاولات جماعية غير منضبطة، إلى أعمال جماعية منظمة: تُنفَق عليها الأموال الطائلة، وتُعقد لها المؤتمرات السرية والعلنية، وتحاك لأجلها المؤامرات، وتُحرَّكُ لها القوى، وتُشتَرى لأجلها الذمم من بين المسلمين، وتُجنَّدُ لها الألوف بل الملايين من الإعلاميين والمرجفين والمنافقين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وبالمقابل تجد الأمة الإسلامية التي هي خيرُ أمة أخرجت للناس تمرُّ بأحلك فترات تأريخها: ليستْ في مستوى المسؤولية الحضارية أو مواجهة الصراع القائم، بل هي لو قارنتَها بما عليه الأعداء تراها سادرةً في غفلتها، ذاهلةً عما يجري حولها، شاردةً وراء الأحلام والرؤى التي تحسبها منجاةً لها، وقد تقلصتْ مسافةُ الرؤية أمامها بسبب ما غشيَتْها من ضبابية التفكير فلم تتبينْ بوضوح معالم الطريق، وغابت الآخرة في حساباتها. بل إن أعظم ما يقومُ به المخلصون للأمة والقائمون على أمر الدعوة والمنافحون عنها – ما عدا محاولاتٍ قليلةً جادة هنا وهناك - لا يخرجُ في أحسن الأحوال عن ردود الأفعال الوقتية التي تتمثل في الأساليب الخطابية أو المواجهات غير المتكافئة أو محاولة تقليد الآخرين، ناهيك عن ترك قسم من نخبتِهم أفرادَ الأمة تفتكُ بهم أوبئةُ الأفكار المسمومة والأيدولوجيات المسرطِنة، تهرباً من المغارم أو ترصداً للمغانم.
هذه هي حال الأمة ومخلصوها بإجمال.
وإذا ما أتينا الأستاذ النورسي نستطلعه الأمر ونستوضحه الطريق الآمن للخروج من هذا المأزق الحضاري، ألفيناه في معترك الأحداث يصول ويجول رائداً مقداماً، وقد أحس قبل قرن من الزمن بإرهاصات ما نجده اليوم من آثار ذلك الصراع وأوضاره.
فالأستاذ النورسي رحمه الله، كما يبدو من آثاره ويؤكد عليه دارسو حياته ويتحدث عنه طلابه، رجلٌ فذٌّ قد سبقَ عصرَه، فآستشرفَ آفاقَ المستقبل وما سيؤولُ إليه الحال، بما إكتشفَه في القرآن الكريم من قوانين حركة التاريخ، وبما نتجتْ عنه تحقيقاته في السنن الإلهية، وبما وعاه من أحداث عصره وأسفرتْ عنه مؤامراتُ الأعداء، وبما منحتْه العناية الربانية من ذكاء حاد ونظرٍ في الأمور دقيق جعل منه بحق بديعَ زمانه فكراً وسلوكاً. شأنُه في ذلك شأنَ خبيرٍ بالزراعة عاينَ حُفنةً من البذور، فتنبأ جازماً بما تُثمرُها، لو تهيَّأَتْ لها أرض خصبةٌ تَنبُتُ فيها وتُسقَى.
وحيث أنه كان يدركُ ضخامةَ العمل وقيمةَ الجهدِ والوقت، تراه لا يقفُ عند حدود الظواهر، ولم تُلهِهِ الشكليات التي قد تُعَشِّي الأبصارَ أو تَفُتُّ في السواعد، وإنما تجاوزَ كلَّ ذلك ليستبطنَ الأمورَ ويختبرَ ما وراءَ الأشكالِ من نوايا وجذور. فرأى بيقين أن القيامَ بالأعمال غير المتكافئة ليست إلا إنتحاراً ووأدا للخدمة الإيمانية في مهدها، وأن الإشتغال بردود الأفعال السلبية تجاه الشبهات التي تُثارُ حول الإسلام ويُجابَهُ بها المسلمون إنما يخدمُ في النهاية مؤامرةَ الأعداء الذين يمارسون إلهاءَ المسلمين وإشغالَهم عن جوهر الصراع بإحداث قضايا متتالية لا ينتهي الرد على إحداها إلاّ وتنتثرُ حولهم عشراتٌ من أمثالها ليروا في النهاية أنهم – رغم كل ما بذلوا – لم يفعلوا شيئاً، بل فقدوا كلَّ شيء!.
لأجل ذلك توجه الأستاذ النورسي رحمه الله، بعزم لا يلين إلى الأساس الذي بات مهدداً، فجاهد لإنقاذه وتقوية بنيانه، ألا وهو "أصول الإيمان" و"حقائق القرآن".
فالعملُ الإيجابي الذي إختاره النورسي رحمه الله، وأعطاه حياته كلَّها، يتمثل في بناء الجيل المسلم من جديد على أسس متينة لا تؤثر فيه الأعاصير، وإعادةِ تشكيل العقل والفكر والسلوك وفقاً لميزان القرآن والأحاديث النبوية و"الحقائق" الإيمانية التي تتقوى بها شخصية المسلم، بحيث لو إجتمعت عليه جيوش الدنيا لم تنل من إيمانه وإبائه وشموخه فينطق بما يُدخل السرور على قلب أعدائه، إذ قد أدرك النورسي أن المسلمين قد أوتوا من دواخلهم قبل أن يأتيَهم الأعداءُ من ثغورهم! فعمل على تقوية هذه الأسس، وأعطى جل إهتمامه لهذا "العمل الإيجابي البنّاء".
ولا يخفى أن هذا المشروع الحضاري الكبير قد يتطلب من القائمين عليها أن يضحوا بما أعطاهم الله من مال ومتاع أو عز وجاه أو راحة ورفاه في سبيل تلك الغاية النبيلة. ولاغروَ، فـ: { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ }( التوبة: ١١١).
وقد ضرب لنا الأستاذ النورسي من نفسه ومن خيرة طلابه المثل الأعلى في التضحية والصمود، ورصِّ الأسس، وإعادة تشكيل العقول والقلوب، وبناء الأجيال، وعدم الإنشغال بالشكليات أو الإسترسال وراء "ردود الأفعال السلبية". فآتتْ جهودُهم ثمارَها بفضل الله تعالى.
وقد شاءت رحمة الله سبحانه ألاّ تنحصرَ هذه النعمة في تلك البقعة من أرض الله ولا في ذلك الجيل المحظوظ من الذين رباهم الأستاذ النورسي، فقد أنعم على ذلك العبد الصالح، بل على الأمة بأسرها بـ(رسائل النور) التي ألّفها في معترك الأحداث وأثناء عملية البناء، والتي تشكل بمجموعها منهاجاً رائداً لبناء الجيل القرآني المرتقَب، وسداً إيمانياً منيعاً أمام جميع ما يمكن أن تتفتقَ عنه مكائدُ الأعداء وأحابيل الشياطين من خبثٍ ودهاء!.
س: أين تضع رسائل النور في صف الدراسات الإسلامية الكلامية؟ أهي تفسير عصري للقرآن الكريم؟ فما الفرق بينها وبين غيرها من المعطيات الإسلامية لهذا العصر؟ فقد عقد البعض مقارنات بين النورسي وإقبال الشاعر الحساس ذي التوجه الفكري أو يعقدون الشبه بينه وبين الأفغاني وعبد الحميد بن باديس وحسن البنا؟.
ج: الأعمال العظيمة الخالدة من شأنها أن تختلف آراء الناس حولها بسبب إختلاف زوايا نظرهم إليها أو لعدم التمكن من الإحاطة بجميع جوانبها، وأن يتباين التقييم لها من شخص لآخر بحسب ما يحملون من خلفيات ثقافية أو فكرية يتلمسون من خلالها التعرف على الأشياء والأشخاص والأحداث، ثم يصدرون بشأنها ما يرتأون من أحكام..
فالذي ينظر من خلال دَورِ علم الكلام في المحافظة على العقائد الإيمانية، يرى في رسائل النور ومؤلفها مجدداً عصرياً لصياغة جوهر هذا العلم بطريقة جديدة مُثلى.. والذي يركز على "الحقائق" القرآنية التي تولت رسائل النور تفسيرَها بحيث يصوغ بها المسلم حياته وفق الأسس التي أشرنا إليها، يرى أنها تفسير عصري للقرآن الكريم.. والذي يرى ما أبدعته الرسائل من بناء جيل عصري متفتح ومتسلح بالأفكار الصائبة ومتمسك بالآداب القرآنية والسنن النبوية.. أو يرى صولات النورسي وفروسيته في جهاده المادي والمعنوي، يذهب به الفكر إلى أن يعقدَ مقارناتٍ بينه وبين شخصيات أخرى في هذا العصر كان لكل منهم دوره المشهود في تجلية الأفكار أو بناء الأجيال أو تلقين دروس الشجاعة والفداء..
فجميع هذه الآراء الإيجابية وما يجري مجراها، قد أصابت من الحق ما تراءت لها أو فطنت إليها في تقييمها لرسائل النور ومؤلفها. ولا عجب في ذلك، فإن رسائل النور عندما إتخذت القرآنَ الكريم أستاذَها ووحّدتْ به قبلتَها، حازت به من صفة "الشمول" ما تجمعُ به في جوهرها وفي شخص مؤلفها تلك المزايا المذكورةَ وغيرَها والتي تمثلتْ مثنى وفرادى في شخصيات من هذه الأمة في عصرها الأخير.
س: ما أثر الدراسات والكتب والمناهج التي أخذها النورسي في مفصل حياته التي سماها بـ" سعيد القديم" كالجرجاني والتفتازاني والنسفي والرومي والشيرازي وغيرهم، وكذلك كتب الغزالي والكيلاني والرباني، في خطاب "سعيد الجديد"؟.
ج: تأثرُ العلماء والمصلحين والمجددين بمن سبقوهم وتأثيرُهم في مَن جاءوا بعدهم مِن المسلَّمات التي لا يختلف فيها إثنان..
ولكن هذا التأثر ذو جانبين مختلفين، إذ قد ينعكس على شخصياتهم ومجريات حياتهم، أو على ما تركوه من آثار.
فمما إنعكس من هذا التأثر على حياة الأستاذ النورسي، أنَّ آثار الغزالي والكيلاني والرباني تحتلُّ موقع الصدارة في بناء شخصيته التجديدية. فما برح النورسي ينوّه في رسائله بدور كل منهم في تنوير فكره وفيما تركوه من بصمات على مجريات حياته.
وأما تأثره بالعلماء السابقين في آثاره فيتجلى في موقفين اثنين:
ففي الموقف الذي يقتضي الإستشهاد بالأقوال ونقل الآراء، تراه ينقل النصوص وينسبها إلى أصحابها. وهذا – على قلتها في الرسائل – يدل على مدى إلتزامه بالأمانة العلمية التي كانت ولا تزال من سمات علماء هذه الأمة.
ولكنه في موقف العالم المرشد والمربي الناصح يسلك طريقاً تربوياً آمناً، يدل على رسوخ قدمه في التربية والبناء ومدى شفقته على عباد الله. فلستَ ترى في آثاره التي أريد منها بناء الشخصية الإيمانية ما تراه في كثير من الكتب والمناهج التربوية الأخرى من تراكُم الأقوال المنقولة، أو تناسُخ عبارات الكتب، دون أن تمر بالمصافي التي تغربلها وتزيل عنها ما يترك في القاريء آثاراً سلبية. إستمع إليه وهو يعطيك ميزاناً تَعرِف به المربي المخلصَ عن غيره، فيقول:(إنَّ العالِمَ المرشدَ ينبغي أن يكون كالشاة لا كالطير. فالشاةُ تطعم بَهْمَتَها اللبن، والطيرُ تُلقمُ فراخَها القيء)!
فالرسائل في عملها التربوي تمثِّلُ ذلك العالِمَ؛ تسترشدُ بالشاة لا بالطير، إذ تتغذى لنفسها على المائدة المفتوحة أمامها ما تختارها من الأطعمة المفيدة المغذية، لكنها تستخلص من مجموعها ما يُفيد الْمُتَلَقِّي ويستعدُ له تكوينه الروحي والعقلي من لبن خالص سائغ للشاربين، دون أن يتركه بين الأقوال الكثيرة المتراكمة، بل المتناقضة، حيران لا يهتدي سبيلاً!.
س: هل النورسي صاحب مدرسة فكرية مستقلة وغير مقتبسة؟ أم هي إمتداد لمدارس أخرى لها تأثيرها في الشارع التركي والماضي العلمي للأمة التركية؟.
ج: ما ذكرناه آنفاً يُغني عن جواب بعض هذا السؤال، لأن الماضي العلمي هناك لم يكن بمعزل عن الماضي العلمي لسائر الأمة الإسلامية. أما الساحة التركية في العصر الحاضر فقد كانت الرسائل ومؤلفها وطلابُها – حسب ما وصل إلى علمنا – رائدةً وسباقة في مواجهة التيار الإلحادي وشلِّ قواه في أوج صراعه وجبروته، مما مهدت السبيل لإنتعاش المدارس التي آثرت الإنزواء إبّانَ الفترةِ الحرجة من تاريخ تركيا المعاصر، بل لبروز غيرها على مسرح الأحداث فيما بعد.
س: ماذا كانت نظرة النورسي للنساء وحفظهنّ من التضليل والكيد والمزايدات؟
ج: أولى الأستاذ النورسي إهتماماً خاصاً بالنساء في رسائله وتوجيهاته التربوية، ويصفهن بـ(رائدات الشفقة). ويرى أن النساء أسبق من غيرهن في إستقبال الحق الإيماني الذي تنهض بإبلاغه رسائل النور، لأن إحدى مرتكزات الرسائل هي (الشفقة) التي هن من روادها. لأجل ذلك خصص الأستاذ النورسي رسائل عديدة لتوجيههن الوجهة القرآنية التي من شأنها أن تعصمهن من المزالق و المصائد التي تنتثر حولهن. وقد جُمعت تلك الرسائل والمباحث ونشرت باللغة العربية تحت عنوان: (مرشد أخوات الآخرة والإيمان) وقد نشرنا ترجمة هذا الكتاب باللغة الكردية بعنوان: (رابه رى خوشكان).
س: لمعرفة المزيد عن النورسي هل تقرأ ما كتب عنه؟ وللإحاطة بفكر غيره من المصلحين والعلماء هل تقرأ عنهم؟ ومن الذي أثر فيك مِن كبار علماء الأمة غير الإمام سعيد النورسي؟
ج: في العقدين الأخيرين كُتب الكثيرُ عنه وعن رسائله من البحوث والكتب والدراسات والأطروحات العلمية. ومن جانبي أحاول متابعتها والإلمام بأخبارها. ولكن وقتي لا يسع لقراءتها جميعاً، فأختار من بينها ما أرى فيه أمراً جديداً.
أما مطالعاتي ومقارناتي لغيره من المصلحين القدامى والمحدثين فقد سبقت أو صاحبتْ دراساتي وترجماتي لرسائل النور. وهي التي أوصلتني إلى معرفة قيمة هذه الرسائل وريادة مؤلفها في الإصلاح والتجديد لهذا العصر. ومع ذلك لم أنقطع كلياً عن القراءة لمن تتلمذتُ - فترةً من حياتي - على معطياتهم الإيمانية وآثارهم العلمية، فجزاهم الله عنا خيراً وأجزل لهم المثوبة بما يليق بكرمه.
أما الذين تأثرت بهم من غير الإمام النورسي فكثيرون.. ولكن الإمامَ أبا حامدٍ الغزاليَّ رحمه الله، يأتي في طليعةِ السابقين منهم!.
عن مجلة الإيمان،جمهورية العراق ، اربيل ، 2010