معمرون عاصروا خمسة دول متتالية
منهم معمر تعدى ال122 سنة
هيثم الشريف/فلسطين
لأول مرة وأنا ألتقي بأبطال تقرير أعده أشعر بالهيبة والرهبة!! كيف لا وأنا أجالس التاريخ كله !! وأنظر في عيون غارت في أماكنها!!فما أن تنظر في وجوههم حتى يعود إليك الماضي بكل تفاصيله المرة قبل الحلوة وما أكثرها .
ترتسم ع ملامحهم مرارة ما عانوا وبساطة ما عاشوا، وهذا ما تبديه تجاعيد وجوههم لشدة ماعانوا من فقر وتعاقب للدول عليهم واحدة تلو أخرى!!
بعضهم تشعر أنه كمن يجيئك من عمق التاريخ، وبعضهم الآخرتصاب بالدهشة وأنت تحدثهم غير مصدق أنهم من المعمرين إما لحركته وعنفوانه في زمن خار فيه حتى الشباب!! وإما لأن الدهر وتعاقب الدول زادهم صلابة ولم يغير الزمان حتى في جلودهم شيئا!!!
المعمر الحاج عبد القادر أحمد أبو زنيد من دورا - قضاء الخليل قارب على العام الثاني بعد المئة ، ذريته تعدت ال95ذكرا وأنثى، جلسنا إليه وروح الشباب لا زالت حيّة فيه وسألناه عن عدد زيجاته حيث قال "تزوجت مرتين، المرة الأولى حين كان عمري 25 سنة وكان عمرها 17 سنة, وأثناء حياتها تزوجت من أخرى مطلقة، فعاشت الأولى معي 60عام، والثانية48 عام.
أما عن طقوس وعادات الزواج في عهدهم قال الحاج أبو زنيد "من أعرافنا في ذلك الزمان أن لا يرى الزوج زوجته إلا ليلة الدخلة!! فحتى لو زار الخطيب خطيبته..يجلس مع أهلها، وأما هي فعليها أن تختبيء!! فحين خطبت أول مرة استمرت الخطبة عشرة أشهر، لم أرى فيها وجه خطيبتي مطلقا!!!
ويضيف الحاج عبد القادر حول أعراف الزواج قائلا"كنّا حين نخطب نقدم"دوبلية" مقدار من الفضة وحلق به ليرة ونصف أو ليرتين، أما المهر فحسب اتفاق الحمايل والعشائر إذ كانت موحدة وليس كما يحدث في أيامنا، ففي وقتي كان الفيد"المهر" 45 جنيه فلسطيني، وكان هذا المبلغ يشتري في حينه 30 رأس من الغنم أو 3 جمال محملة بالكامل. أما بعض الحمائل الأخرى فقد كانت متفقة على أن يكون المهر تقريبا 60 جنيه فلسطيني.
وحينه كما أذكر والحديث لا زال للمعمر الحاج أبو زنيد " لم أستطع دفع سوى 25 جنيه من كامل المهر!! فأكملت المهر بإعطاء أرض إلى أهل العروس سعرها في أيامنا هذه يتعدى ال100 ألف دينار، مع العلم أن العروس لا تخرج من بيت والدها قبل أن نقدم لعمها وخالها "بلصة" مقدار من المال كنّا نقدمه لهم، إضافة إلى الملابس وغيرها، وكان هذا العرف ساريا بالرغم من شح المال في عهد الانجليز.
معظم الناس يقول المعمر الحاج عبد القادر "كانوا يأكلون بحسب إمكانياتهم المادية فالغني كان يأكل القمح والذرة وأما الفقير فكان يأكل الشعير!!، وأنا حاليا آكل كل شيء، ولكن أكلي ضعيف، ومع ذلك أستمر في أكل اللحوم و الحليب والزيت حيث أنني كنت أشرب الزيت وعمري عشر سنوات، وبصراحة في أيامنا هذه قلت البركة وانتزعت من كل شيء!!
أما عن زيارته للديار الحجازية فيقول المعمر أبو زنيد" زرت الديار الحجازية أول مرة حين كان عمري 67 سنة، والمرة الثانية كان عمري 72 سنة، والمرة الثالثة التي زرت فيها الديار الحجازية كانت للإعتمار..
ويضيف "والدي توفي حين كان عمره تقريبا 40 سنة و كان عمري حينها 5 سنوات، أما أمي فقد ماتت عام 1967 وكان عمرها105 سنوات.
وبخصوص العمل أنا لا أعمل منذ عشرين عاما ولكني في شبابي كنت مزارعا أزرع القمح والشعير والكروم يقول أبو زنيد، ومع ذلك قبل أن يصبح عمري 80 سنة لم أكن قد دخلت المستشفى قط.
وحول زمانهم يختم المعمر الحاج عبد القادر أبو زنيد بالقول "في زمننّا كانت الفتيات يمنعن من النزول إلى الخليل، أما اليوم فالدين والحياء قلّ "وما حدى يسأل عن حدى"، فهي اليوم تنزل والرجل في البيت دون أن تعلمه حتى بنزولها .
أما المعمر الحاج يوسف حسين شاهين من قرية مريش – دورا- قضاء الخليل فقد أتم العام الخامس بعد المئة وذريته تعدت الـ 300 من الذكور والإناث كما يقول، منهم ستة في سجون الاحتلال.
الحاج شاهين ليس الوحيد المعمر في عائلته فوالدته توفيت كما قال بعد أن تعدت المئة عام وأما خاله فقد توفي بعد أن أتم ال110أعوام.
ولو نظرت إلى ملامح المعمر شاهين، فانك ستجد التاريخ ماثل أمام عينيك بلحمه ودمه، فالحاج بالرغم من أنه لم يتعدى باب بيته منذ عامين فقط، لأنه لا يستطيع الحركة، نظرا لعمره بعد أن اقتصرت حركته في آخر أيامها على الذهاب إلى المسجد الذي بناه في أرضه على نفقته الخاصة كي يؤذن فيه، وهو والذي عاصر خمسة أجيال بدت ظاهرة على وجهه من خلال تجاعيد وجهه، فقد عاصر حكم الأتراك والانجليز والأردن وإسرائيل وأخيرا حكم السلطة .
ومع ذلك استقبلنا بابتسامة لا تكاد تظهر، وأستهل حديثه عن زواجه الأول والأخير حيث قال" كان عمري حين ذاك20سنة وزوجتي16سنة و"فيد"-مهر- العروس كان أكثر شيء60جنيه فلسطيني وهو ما دفعته لأهلها واشتريت وسائد وحرامات.. إذ لم يكن الذهب موجود أيامنا، وكانت العروس تنقل من بيت والدها إلى بيت زوجها على ظهر الجمل بعد وضع الوسائد عليه وتلبيس العروس بالريش، حيث تسير النساء في محيطه بصفوف متناسقة ويغنين لها لحين وصول الجمل منزل الزوج .
وفي ثاني يوم العرس ذبح أهل العروس عنزة لإطعامنا، مع العلم أن أول مرة رأيت فيها وجه زوجتي كان ليلة الدخلة، وكان أن أنجبت منها خمسة أولاد.
ويضيف الحاج يوسف شاهين "قبل الزوج لم أكن أعمل ولكني بعده عملت في فلاحة الأرض وتربية الماشية"كالجمال والبقر والخراف، و كنا نزرع العنب والزيتون والقمح والشعير والكرسنّة والعدس والبندورة "البعلية"- الغير مسقاه-.
أما طعامنا يقول شاهين ليس مثل اليوم إذ كان في مجمله يقتصر على " "يخني البندورة، العدس، الكرسنّة.. القمح، و كان الواحد يبيع القمح ويطحن الطحين لكي يأكله، فالناس فقراء وعائد العمل أيام الأتراك زهيد، فمثلا من يعملون بالحجارة أوغيره يتقاضون 10 قروش.
ومن عادات زماننا في تلك الفترة يضيف المعمر يوسف وبعد عودة الرجال من الحصاد إلى دورا "الرجل يأكلون اللحوم ويطعمون منها الضيوف، وأما المرأة فتأكل ما في داخل الخراف ك"الكرشات والسيقان" !! ولا تأكل العائلة اللحوم إلا مرة واحدة في السنة أو مرتين في حين العائلات الميسورة تأكل اللحوم5الى6مرات في السنة.
وحول طبيعة أكله في هذه الأيام قال" أنا آكل بشكل عادي فصباحا أفطر على بيضة وكأسا من الحليب، وبالنسبة لوجبة الغذاء فأحيانا آكل العسل،اللبن،الحليب،السمك، وأحيانا تمر 10 أيام متتالية وأنا آكل اللحوم، وحتى أحافظ على صحتي ألتزم بأن لا آكل ليلا لأنني أؤمن بأن داء بني آدم معدته.
المعمر الحاج يوسف توقف عن التدخين منذ أكثر من خمسين سنة، ليتوقف معه السعال والمرض.
و قد ختم المعمر الحاج يوسف شاهين حديثه بالتمني بأن يكون لدينا دولة أسلامية تحكم حكم عادل وأضاف "أننا بحاجة إلى تربية ولكن هيهات!!!.
المعمرة علياء خليل إبراهيم المصري من قرية السرّي- دورا- قضاء الخليل تعدت المئة عام بقليل ولديها أربعة أولاد وأربعة بنات، وذريتها كما تقول تفوق المئة ذكر وأنثى، حادثناها وهي جالسة على سريرها الذي لا تستطيع أن تفارقه بسبب تآكل العظام في قدميها وبدأت تسرد حكايتها حيث قالت" كنّا نعيش في مغارة ونأكل ونطبخ ونخبز على الحطب، تزوجت زوجي البالغ من العمر 50سنة بالرغم من أنه كان متزوجا، و كان يخدم الدولة العثمانية حين كان عمري 15سنة، وكان مهري 50 جنيه فلسطيني، والحلي التي تقدم للعروس كانت عبارة عن عشر ريالات من الفضّة أو الخواتم أو الأساور".
فترة الخطبة بحسب المعمرة المصري قاربت على الثلاث سنوات وتضيف " لم يكن خطيبي يراني أو أراه!! حتى أنني كنت حين أراه من بعيد أهرب "تكمل وهي تضحك" وفي ليلة الزواج فقط رأى وجهي، وتعطي مثلا عن هذه العادة بالقول" قريب لي خطب إحدى الفتيات خمسة سنوات دون أن يراها كما يحدث مع جيل اليوم!!!
وتضيف المصري "وكأي عروس صعدت إلى ظهر الجمل بعد أن تم وضع ريش النعام على رأسي وألبسوني ثوب حرير لونه أحمر ومنديل لونه أخضر بالإضافة طبعا إلى"الجبّة والخراخيش، وكنّ فتيات القرية يغنين لي إلى أن وصلت منزل العريس وطبعا تقول"العريس كان لا يقترب من العروس أو يراها قبل دخول المغرب، مؤكدة أن دبكة زمان أفضل من أعراس اليوم.
كنت في صباي تقول المعمرة علياء" أعمل البساط ، والمخالي على المغزل، وكنت أعجن وأطبخ وأحلب الماعز، لكن منذ مرضت ما عدت أقوم من فراشي و أقضي وقتي بالصلاة والتلاوة.
أما بالنسبة لأكلي فأنا آكل اليوم عادي، وأحيانا أطلب طبخات قديمة ولكن الأغلب في البيت لا يحبونها!!
الحاجة علياء تعلق على مشاهدة التلفاز قائلة" أتابع أحيانا الأخبار ولا يهمني سواها، وحين يفتحوا على غير ذلك أطالبهم بإغلاق التلفزيون، وقد ختمت الحاجة علياء المصري حديثها بذكر أن والدها توفي حين كان عمره100عام، وأن أخاها موسى المصري الذي يسكن بلدة يطا لا زال حيّ وعمره 120 سنة فانتقلنا للبحث عن أكبر معمر فيمن وجدنا!!!
المعمر الحاج موسى خليل إبراهيم المصري بالقرب من بيت عمرا- بلدة يطا - قضاء الخليل أكبر المعمرين الذين التقيناهم، والذي أكد أن عمره 122 سنة، ودلل على ذلك بأنه حين خرج الأتراك كان عمره30سنة بمعنى أنه من مواليد عام 1887 م. ومع ذلك من جالسنا من أولاده وأحفاده حين تم اللقاء معه قالوا أن عمره بين 116الى 117سنة كحد أدنى
ومع ذلك إن نظرت إلى ملامح وجهه لا تشعر أنه قد بلغ هذا الحد من العمر بخلاف من سبقوه، فبالرغم من ضعفه وهوانه، فإن من يراه لا يخطر بباله أنه قد تجاوز حتى التسعون عاما في أسوأ الأحوال، فيختلط عليك عمره كما أختلط في رأسه الشعر الأسود بالأبيض!! وطبيا قيل أنه وإن كان ذلك نادرإلا انه يحصل أن تنطلق الشعيرات السوداء بشكل عشوائي لدى بعض المعمرين، بغض النظر عن عدم وجود تفسير علمي دقيق لذلك.
وهذا ما فهمناه من أولاد وأحفاد الحاج موسى أيضا، الذين قالوا أنه بعد أن أصبح شعره أبيض بشكل كامل بدأ شعره يتحول إلى اللون الأسود!!
أحفاده تعدوا المئة، وكما في أغلب لقاءاتي مع كل معمر جلست بشكل لصيق للمعمر الحاج موسى المصري، وكررت أغلب أسئلتي أكثرمن مرة وبعلو صوتي !!.
فأخذ يتحدث المعمر المصري ببطيء شديد عن أيام الأتراك قائلا "كنّا نخرج في مظاهرات فيلحق بنا الأتراك ويأخذوا الخبز منّا ، وكان هناك عصابات يأخذونا إلى المغر ومن ثم يطلقوننا، والفقر كان كبير لدرجة، حتى أن النساء كنّ يقمن بجمع روث البعير من الجمال والخيول للجيش التركي، بهدف استخلاص الشعير منه لغايات الأكل!!!! وأذكر أننا كنّا نحمص الشعير الأخضر على النار للهدف ذاته!!
بعكس الانجليز فعندما دخلوا عام 1917 وكنت أسكن منطقة الريحية القريبة من الفوار إلى الجنوب من مدينة الخليل محملا دابتي بالقمح لأبدله بالشعير، أوقفونا وأعطونا الخبز وعلبة مربى.
تزوجت لمرة واحدة يقول المعمر الحاج موسى المصري حين كان عمري بين ال25 والـ30سنة وزوجتي التي لا تزال حية للآن كان عمرها حين تزوجنا18سنة، وأذكر أن والدي قال لي هذه العروس إلك وبذلك تزوجت !!.
ومن عاداتنا في ذلك الوقت والحديث لا زال للمعمر الحاج المصري إذا كانت العروس تنتقل من منطقة لأخرى وكان هناك مسافة بعيدة وفي وسط الطريق، ويوجد تجمع سكني، يقوم سكان المنطقة الوسطى بين أهل العروس وأهل العريس بتجهيز الطعام لكل المارين على الجمال.
وحول شكل المنطقة في ذلك العهد يقول الحاج موسى" لم يكن في كل المنطقة حين ذاك سوى مغارة بها محلين لبيع الأكل وكل الأشياء الأساسية في ذلك العهد، والتنقل كان على البعير من منطقة إلى أخرى، وكانت كل يطا في ذلك الحين لا تتعدى الـ 300شخص، وكنّا نجتمع كل فترة في مغارة لها بابين في منطقة الحدب القريبة من الفوار، أما مطهر الأولاد فقد كان جلاّق المنطقة، وأما الكتّاب الذي اقتصر بذلك العهد على الرجال، فقد كان يأتي رجل أسمه" روحي الخطيب " كان يجمعنا في المغارة يوميا، ويعلمنا ويتقاضى بدل ذلك القمح أو الشعير، ولم يكن هنالك أي طبيب وكان كل واحد يمرض نقوم بالاكتفاء بإعطاءه جعده ليشربها!!.
المصري إلى أنه وحتى يومنا هذا لم يدخل المستشفى قط إلا يوما واحدا، كما أنه لم يدخل قسما للشرطة طوال حياته.
وحول رجال الماضي تذكر في عقد الأربعينات المختار "شحادة أبوعرام" المسؤول في ذلك الحين عن أمور المنطقة.
وذكر الحاج موسى بمرارة مساحات الأراضي التي صادرتها منه إسرائيل في منطقة "العديسه والمسفره "شرق بلدة يطا القريبة من الخليل والتي تتجاوزالـ 300دونم.
ويختم المعمر الحاج موسى المصري حديثه بالقول "كانت الإضاءة على السراج بالزيت، والخبيز على الطابون، وكنت أصنع الجبن بعد حلب الماعز حيث نضع حليبها في حفرة بالصخر لهذه الغاية، وفي أيامنا هذه أنا آكل الزيت والزعتر واللبن واللحوم باستثناء المعلبات.
وبالنظر إلى كل ما قاله المعمرون نرى أن الأتراك كانوا يجمعوا كل شاب لإرساله للجيش بلا مقابل، وهذا ما دفع الكثيرين منهم إلى أن يوثقوا عمرا أقل من عمرهم الحقيقي في الوثائق الرسمية كي لا يأتي الأتراك لتجنيدهم، مستغلين بذلك أنه لم يكن هناك مستشفايات كما اليوم، تعمل على تسجيل المولود لحظة ولادته، فالولادة كانت عادة ما تتم على يد "الداية" في المنازل. ولا يمكنني في النهاية إلا أن أختم لقاءاتي بالقول أنني كنت على موعد مع أهل الجود والكرم، ومع الحضارة والتاريخ...بعيدا عن عصر الديجتال.