من دروس سورة يوسف
أ.د/
جابر قميحةلقاء أجراه: محمد عبد القدوس
نقابة الصحفيين
ـ دكتور جابر قميحة انحياز الرجل بعاطفته إلى أحد أبنائه أو زوجاته ..جائز بشروط.
ـ ما هو الصبر الجميل في مواجهة الشدائد، وكيف تعفو عند المقدرة؟
ـ الأسلوب المثالي للدعاية في مخاطبة الناس ومعاملة المخالفين له حتى يكسبهم.
* * * * * * * * * * * *
القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان.. ليست مقولة مجردة بل حقيقة تؤكدها كل سور الكتاب المقدس التي تقدم كل منها عشرات الدروس العصرية التي تنفعنا في دنيانا وحياتنا اليومية.
وسورة يوسف تعد مثالاً نموذجيًّا لهذه الحقيقة التي تغوص في أغلب آياتها في نفوس البشر.. وتقدم مشاهد درامية من ضعفهم وصراعاتهم.. وتهدينا الحكمة، والعظة التي تقدم لنا الأسلوب الصحيح للتربية، وكيف نواجه الشدائد، ونعفو عند المقدرة.
الدكتور جابر قميحة الداعية الإسلامي والمتخصص أيضًا في الأدب العربي.. يقول: أول درس مستفاد في السورة الكريمة موجه إلى الدعاة بقوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ) (سورة يوسف: 3). فالداعية العصري يجب أن يخاطب الناس بأسلوب جذاب، وفيه تنوع يقوم على القصص والحكايات الهادفة، فلا يكتفي فقط بالمواعظ المجردة.
حلم الرجل الصالح:
ويؤكد قميحة ماقاله : بأن هذه السورة بالذات لها شعبية خاصة بين الرجال والنساء، لكثرة ما تحتويه من أمور تهم عامة الناس، فهناك حديث عن "أحلام الفتى يوسف" تجدها بعد مقدمة السورة مباشرة تبدأ بقوله تعالى: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف: 4).
وهناك في الأحلام كلام ذكره العلماء، فرؤية الأنبياء هي مقدمة للوحي، وفي السيرة النبوية نجد أن سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما كان ليرى رؤيا إلا وجاءت كفلق الصبح، وإذا كنت إنسانًا صالحًا، وشهدت حلمًا جميلاً فاستبشر خيرًا، أما إذا جاءك كابوسًا فاحترس فأحلام الرجل الصالح، والمرأة الطيبة بمثابة علامات تنير الطريق.. وإذا كان عندك قدرة على تأويل تلك الأحلام وتفسيرها، فاعلم أنك من الواصلين.. فهذه نعمة لا تحدث إلا لقلة نادرة من الناس.
من يملك القلوب:
وانتقل إلى الدرس الثالث ـ مع أننا ما زلنا في الآيات الأولى من تلك السورة ـ وهذا يؤكد أن القرآن معجز، والأمر هنا يتعلق بانحياز عاطفة الأب، أو الزوج فقد يميل إلى حب أحد الأبناء أكثر من غيره كما نرى في السورة الكريمة، فسيدنا يعقوب ـ وهونبي ومعروف "بإسرائيل" ـ يحب ابنه يوسف أكثر من أولاده الآخرين الذين لا خلق لهم ولا دين! بينما ولده المفضل رائعًا مظهرًا ومخبرًا، وهو محبوب من الجميع؛ لذلك تآمر هؤلاء على قتله، وتحكي السورة تفاصيل ذلك ابتداء من الآية السابقة: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (يوسف: 7 ـ 8).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يخطئ الأب إذا مال قلبه نحو ابن يشبهه على حساب بقية الإخوة، أو يكون هذا الولد فيه صفات رفيعة يتشرف به الأب بعكس إخوته الآخرين سيييء السمعة؟
يقول الدكتوبر جابر قميحة: "القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمة يقلبهما كما يشاء" كما جاء في الحديث"، فالعاطفة من صنع الله؛ لذلك فانحيازها إلى ولد بعينه جائز، ولكن كما قال العلماء بشرط ألا يؤدي ذلك إلى التفرقة بينهم في المعاملة. وعليه أن يعامل الجميع بالعدل، وأن يحاول ضبط عاطفته أمام الإخوة الآخرين، يعني الأب في هذه الحالة في مأزق لا يحسد عليه!! وموقفه صعب جدًّا إذا أراد إرضاء ربه عن طريق المساواة الكاملة في المعاملة بين الأبناء.
ومن ناحية أخرى رأينا سيدنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يفضل زوجته عائشة على بقية زوجاته، لكنه يحرص على معاملتهن جميعًا على قدم المساواة قائلاً: اللهم هذا حظي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك (يقصد قلبه الذي مال نحو واحدة منهن).
الصبر الجميل:
"الصبر مفتاح الفرج" حكمة مشهورة تدل على أهمية أن يتحلى الإنسان بهذه الصفة لمواجهة صعوبات الحياة، والصبر كما يقول الأديب الفقيه أنواع عدة، لكن ما يهمنا منها هو الصبر في مواجهة المصائب، والذي تمثله الآية رقم 18، عندما قال الأب المنكوب الذي فقد ابنه يوسف: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (سورة يوسف: 18) حيث كان بقية إخوته قد تآمروا عليه وألقوه في البئر ليموت من الجوع والعطش، ثم ادعوا عندما ذهبوا إلى أبيهم أن الذئب قد أكله، وتقول الروايات إن إخوة يوسف أعدوا جريمتهم بإتقان، فقدموا للأب قميص يوسف ملوثًا بدم شاة ذبحوها كدليل على صحة ادعائهم، لكن الأب "يعقوب" كان أذكى منهم: ولم تنطل عليه هذه "التمثيلية" ففاجأهم بالقول: "أذئب ولا مخلب، ولا ناب" ؟ يعني كيف يأكله الذئب، وليس لمخلب هذا الحيوان ولا نابه أي أثر على القميص، فالدرس المستفاد لعصرنا هذا أن المسلم مع طيبة قلبه يجب أن يكون ذكيًا فطنًا.
وأعود إلى الصبر الجميل فالمقصود به أن تصبر وأنت راض بقضاء الله وقدره، وهذا لن يتأتى إلا إذا كنت وثيق الصلة بربك، ففي هذه الحالة فقط تأخذ أجر الصبر على المكاره! وينطبق عليك قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر:10) فهذا هو الصبر الجميل المقصود، إما أن تصبررغمًا عنك؛ لأنه ليس بيدك حل وتكون ساخطًا ومتبرمًا، فهذا لن يفيدك في شيء، وسيؤدي فقط إلى تلف أعصابك، وإما أن تكون راضيًا محتسبًا لله، كما قال الإمام علي: "فإنك أن لم تسلُ احتسابًا سلوت سلو البهائم".
والجدير بالذكر أن تعبير "الصبر الجميل" تكرر من جديد في الآية رقم 18 على لسان سيدنا يعقوب، عندما فقد ابنه الثاني "بنيامين"، وكان يحبه أيضًا بعد يوسف فقال لأبنائه المتآمرين الذين لم يرحموا شيخوخته، فتخصلوا من إخويهم المفضلين لدى الأب الواحد تلو الآخر: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف: 18).
توبة امرأة العزيز:
وفي السورة يمكنك أن تستخلص درسًا يتعلق بإغراء المرأة، فهي لا تقتصر فقط على الرجل الفاسد الذي يهوى النساء، بل والشاب المستقيم أيضًا يمكنه أن يكون عرضة لفتنتها، ولا تجدي وسيلة لمقاومتها إلا الاعتصام بالله، كما فعل سيدنا يوسف، عندما قال لامرأة العزيز التي حاولت أن تغويه: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف: 23).
ويلاحظ أن مثل هذه المرأة مهما ارتكبت من ذنب، يمكن أن تعود إلى رشدها إذا تبين لها الحق كما رأينا في هذه القصة، حيث اعترفت امرأة العزيز التي حاولت الكيد ليوسف، بذنبها.. وقالت: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (يوسف: 53).
وقد أعجبني "سيدنا يوسف" حينما أعطى نموذجًا في احترام الإنسان لنفسه والحفاظ على كرامته، فقد طلبه ملك مصر؛ لتفسير أحلامه وأمر بالإفراج عنه، ولكن الشاب المستقيم رفض أن يذهب إليه قبل تبرئة ساحته من هؤلاء النسوة اللاتي حاولن تلويثها، ونرى هذا الدرس في الآية رقم (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) (يوسف: 50).
احترم من يخالفك:
ويقول الدكتور جابر قميحة: إن هناك أكثر من درس مستخلص من سيرة يوسف في سجنه، فهو لم ينس دعوته أبدًا، بل أخذ يدعو ربه على بصيرة، وهو في السجن (أو كما يقول المصريون: وراء الشمس)، وهذه الصفة تراها من خصائص الداعية المخلص، والأمر الثاني أنه عامل المخالفين له من المشركين بكل احترام، فقد دعاهما بقوله: "( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف: 39)، وهذا التعبير: "يا صاحبي السجن" يدل على اللباقة في مخاطبتهما، وهما اثنان من السجناء الكفار، فأنت لكي تقنع غير المؤمن بدعوة التوحيد، لا بد أن تخاطبه بأدب، ويؤكد الداعية الإسلامي أن طريقة القرآن في مخاطبة المخالفين له غاية في الذوق، ونرى ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله، فهو مثلاً يقول عندما يرسل نبيًا إلى قومه المشركين: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) (الأعراف: 65) ويتكرر هذا المعنى في آيات عدة (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) (الأعراف:73).. إلخ، ولاحظ معي كلمة "أخاهم" فهي كلمة يريد صاحبها أن يكسب قلوب البعيدين عن الله.
طلب الدنيا مشروع:
ومن أهم الدروس الأخرى المستفادة من سيرة سيدنا يوسف، أن طلب الدنيا مشروع للمؤمن الذي يتطلع إلى الآخرة.
وتفاصيل ذلك أنه بعد تبرئة النبي الكريم، وظهور براءته أراد ملك مصر تعويضه عن هذا الضرر الذي حاق به، فلم يمتنع سيدنا "يوسف" عن قبول العرض الملكي، بل حدد ما يريده بالضبط قائلاً: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55).
وفي تلك الآية الكريمة تحديد رقيق للوزيرالصالح، والإدارة الجيدة، وهي الأمانة والعلم، وسوء الإدارة يأتي من افتقاد هذين العنصرين، أو أحدهما، ويكون البديل في الفساد والجهل.
وهكذا يتبين لك أنه ليس صحيحًا ما ذهب إليه الذين لا يفهمون ديننا من أن إسلامنا الجميل يطلب من المؤمنين به الابتعاد عن الدنيا، كشرط للفوز بجنات النعيم، المهم هنا عدم الانغماس فيها بحيث لا تنسى لقاء ربك.
ويضيف د. قميحة: في حياتنا اليومية نحتاج إلى أن تكون أعصابنا في "ثلاجة" من كثرة المتاعب، ومقالب البشر التي تتعرض لها، وهذا يقتضي منا كظم الغيظ، والعفو عند المقدرة، وكل هذا تراه في تلك السورة الكريمة المليئة بالصبر والعظات.
معنى الآية رقم 77 قال أخوة يوسف: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ...) (يوسف: 77) يعني كظم غيظه مع أنه كان المقصود بهذا الكلام، وأخيرًا بعدما تمكن منهم لم يبطش بهم، أو ينتقم مع أنه رأى على أيديهم الأهوال، بل قال لهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (يوسف: ).